الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا نرى المسيحية التى خلفت المسيحية الحقيقية التى جاء بها المسيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت إلى النفوس قلقة غير مستقرة، بل إنها مضطربة غير ثابتة.
فإذا كانت أوثان الرومان قد فقدت قوة تأثيرها، وحل فى ربوع الوثنية ديانة تأخذ من اليهودية طرفا بأخذها بأحكام التوراة إلا ما خالف الأناجيل، وتأخذ من الوثنية بأطراف، ولا تكاد تأخذ من الدين الحقيقى شيئا- فإن ذلك المزيج الجديد لم يستقر، بل جاء مضطربا واهنا حتى نهاية القرن السادس الهجري، فكانت النفوس مهيأة لدين جديد هو الدين الحق.
العرب
22-
طفنا بتفكيرنا حول العالم من غربه القريب والبعيد، إلى شرقه الأدنى والأوسط والأقصي، ولم نعرج على البلاد العربية، ونحسب أنها القلب، وأنها ذؤابة الفكر الأدبي، فإليها تأرز الحقائق الدينية قديما وحديثا، ومنها خرجت أصوات الأنبياء، خرجت ابتداء من أطرافها، ثم ختمت الرسالة الإلهية فى قلبها، ولقد هاجر إبراهيم أبو الأنبياء إلى بلاد العرب وولد فيها ولده إسماعيل الذى كان أول البشرى وحمد الله على ولادته ومن بعده إسحاق، والأول من جاريته هاجر. والثانى من زوجته سارة، وقال من بعدهما الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ.
وقد كان من ولده اسماعيل قريش الذين كانوا ذؤابة العرب، ولهم مكانة الزعامة فيهم، كما سنبين عند الكلام عن الكعبة المكرمة، فإليهم يأرزون، وإلى تلك البنية يحجون.
وكانت قريش ومن يتبعونها على الدين الذى جاء به أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكانوا فى أصلهم مواحدين لا يعبدون غير الله تعالي، فلا يعبدون صنما، ولا حجرا، ولا حيوانا، وليس فيهم ألوهية لمخلوق إلا ما كان ممن وفدوا إليهم من النصارى كنصارى نجران ونصارى تغلب وغيرهم.. وقد كان يقوى توحيدهم صلتهم بإبراهيم عليه السلام، وشرفهم فى الانتساب إليه عن طريق ولده إسماعيل عليه السلام، ولكن طرأ عليهم ما حالت به أحوالهم، وتغيرت بسببه عقائدهم، وذلك لتقادم الزمن بينهم وبين إسماعيل عليه السلام حتى نسوا ما عرفوا.
دخول الوثنية أرض العرب:
23-
تواردت عبادة الأوثان على النفس العربية، والتفكير العربى من نواح ثلاث:
أولاها- أن بقايا من الديانات القديمة كانت فيها وثنية، وإن لم تكن سائدة فى البلاد، فقوم نوح كان فيهم وثنية، وقيل إنه كان عربيا، أو خاطب العرب، وقد قص الله خبر أوثانهم فقال تعالى:
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً «1» .
ولا شك أن هذه الأثارة من بقايا الوثنية تبقي، وإن لم تكن سائدة مسيطرة، وإنك لترى أن بعض المتدينين بديانات سماوية يبقى فى نفوسهم بعد اعتناقها بقايا أشربت بها نفوسهم، وتجرى اثارها فى بعض ارائهم، وإذا لم تصل إلى أن تكون رأيا يقنع، فإنها قد تكون تقليدا يتبع.
الثانية من جيرانهم الرومان. فإن الوثنية الرومانية كانت على مقربة من العرب من قبل المسيح ومن بعده، فعدوى العقائد تسرى كعدوى الأمراض، ومن الاختلاط الذى كان بين بعض العرب والرومان فى الاتجار كانت العقائد الدينية تجيء إليهم، وخصوصا أن دولة الرومان كانت أقوى سلطانا من الجماعات العربية، وأن بعض القبائل العربية كانت تخضع لسلطان الروم، كالغساسنة، فإنهم كانوا تحت سلطان الرومان، وكانت لهم تبعية للرومان، ووراء هذه التبعية الاختلاط، ووراء الاختلاط العدوى.
والناحية الثالثة ذكرها ابن إسحاق صاحب السيرة فقال:
ويذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه أن ابن هشام قال: «حدثني أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلي الشام، فلما قدم ماب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق راهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فتمطرنا، ونستنصر بها فتنصرنا. فقال لهم: ألا تعطونني منها صنما، فأسير به إلي أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة ونصبه وأمر الناس بعبادته» .
وعمرو بن لحي هذا كان سيد خزاعة، وكانت لخزاعة سدانة البيت الحرام، فكان لها بهذا سلطان في التوجيه. يعظمون ما تعظمه.
وإن هذا يدل علي مقدار العدوي التي جاءت من الرومان، فما كان في الشام إنما هو من أثر وثنية الرومان، وإن ذلك يؤكد أن وثنية العرب كان للعدوى أثر فيها وإن كان ثمة أسباب قوتها.
ومهما تكن الأسباب فقد توافرت، حتى دخلت الوثنية الأرض العربية، وبين ذرية إبراهيم حاطم الأوثان الذي جعلها جذاذا.
(1) سورة نوح: 24.