المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من

عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من قريش، ولم يفكر فيما كانوا يصنعون به وبأهل الإيمان إن كان لهم النصر، ولكنه فكر فيما ينبغى لمثله معهم، وتطييب قلوبهم، وإزالة الأحقاد من نفوسهم، فقد قال لهم فى ود راه فى موضعه: ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، ما نظن إلا خيرا. قال أقول لكم ما قاله أخى يوسف لإخوته:«لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين» اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبذلك أنهى الأحقاد، ووضعها دبر أذنه ليستقبلوا عهدا جديدا فى الإسلام.

إن الداعى بدعاية الحق، يجب عليه أن يطهر نفسه من أمرين: أحدهما أدران التألم من الناس لأذى سبقوا به، أو لحسك الصدور، أو لفحش كان منهم، فإنه جاء لهدايتهم، لا لمقابلة إساءة بمثلها، ولا ليشغل نفسه بالنقمة بهم، وإن كانت حقا أو أخذ حق، ولا علاج لذلك إلا بأن يجعل نسيان الماضى، والتسامح، هو السبيل لهذا النسيان، والعفو عما سلف من سيئات هو الذى يمكن الداعى من الخلاص إلا من الحق.

ثانيهما: أن يبعد الأثرة عن نفسه، فلا يفكر فى العمل لنفسه، وذلك يقتضى الإيثار، والفناء فى دعوته التى يدعو إليها، وإن تطهير النفس من الأثرة، إنما يكون بتغليب ترك الحقوق إذا لم يكن فى تركها إقامة لباطل، أو خفض لحق، أو سكوت عن حق عام، فالداعى ينسى حقوقه الشخصية، بل يهملها من غير تهاون، ولا يترك حقا عاما، ولا أمرا من موجبات دعايته فإن تساهل فى حقوقه، فلكى يتفرغ بكله للحقوق العامة.

وإذا كان ذلك ما ينبغى أن يكون عليه دعاة الحق، والناصرون له من الناس، فكيف يكون الشأن ممن هو رسول لرب العالمين، إنه ينسى حقوق نفسه، فيعفو عنها، ويذكر حقوق الناس فلا يفرط فى أى جزء منها.

ولقد قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فى وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» .

وفى الجملة ما كان يحمل إلا الخير، وينفى عن نفسه كل ما يثيرها على أحد، فلا يكون منه إلا النفع، ولا يحمل نفسه عناء البغض والكراهة إلا أن يكون لله.

‌حياؤه:

139-

الحياء صفة نفسية يظهر أثرها فى العمل على ألا يفاجيء الشخص الناس بما ينفرهم، أو بما لا يألفون، لا يظهر منه ما يخالف الفضيلة، فلا يعلن رذيلة، ولا أمرا لا يتلقاه الناس بالقبول، ويعمل

ص: 186

على إرضاء النفس الجماعية ما لم يكن إثما، وهناك صفات تلتبس مع الحياء. أو يبدو بادى الرأى أنها تعارضه.

فقد ظن بعض الناس أن الحياء ضعف نفسى، وأنه قد يكون السكوت فيه نوع من الرياء، وذلك باطل، لأن الحياء الحقيقى ليس ضعفا، ولا ينشأ عن ضعف، إنما ينشأ عن الكمال لأن من عنده الحياء لا يحب أن يظهر منه إلا ما هو كامل ذاته، وألا يظهر منه ما هو مرذول فى ذاته أو يعده الناس مرذولا، وذلك ليس ضعفا، ولكنه نقاء وصفاء للمجتمع من أن ترنقه مظاهر الانخلاع من القيود الاجتماعية، والتحلل من الروابط الإنسانية التى تربط الاحاد ربطا نفسيا.

والشجاعة والحياء يتلاقيان، بل إن تلاقيهما هو ذروة الكمال، فإن قول الحق فى موضعه، وفى وقته المناسب يتلاءم مع الحياء، والسكوت عن النطق بالحق فى وقت الحاجة إليه، لا يعد حياء، بل إنه استخذاء، والحياء حماية للفضيلة، وتضييق على الرذيلة من أن تظهر، وإذا كان للحياء أثر فى شجاعة قول الحق، فانه يحمل القائل على الدعوة إليه فى رفق من غير عنف، فيكون أجدى، وأشد تثبيتا، وأهدى سبيلا، وإن اقتضى الحق مجاهرة به تأخذ وصف القوة، لا يمنعها الحياء.

ولا يظن أحد أن فى الحياء رياء، إنما الحياء ألا تنطق إلا بالحق، أو لا تغمطه، أو تغمض العين على الباطل، إنما الحياء يمكن صاحبه من أن يسوس الحق سياسة المستمسك من غير هوادة إلا أن تكون رفقا.

ولقد ذكر القاضى عياض فى الشفاء فى بيان الحياء: وأما الحياء والإغضاء، فالحياء رقة تعترى وجه الإنسان، عند فعل يتوقع كراهيته، أو ما يكون تركه خيرا من فعله، والإغضاء هو التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أشد الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال الله تعالى إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ.. «1» الاية

عن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشد حياء من العذراء فى خدرها» «2»

وإن مظاهر حياء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبدو فى عامة أحواله، نذكر بعضا منها يدل على سائرها:

(أ) أن بعض أصحابه كانوا لفرط كرمه يتناولون الطعام، ثم يأخذون فى الحديث، فكان هذا يؤذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد يكون منه اضطراب فى بيته، وإقلاق لراحة أهله، وضيق فى ذات نفسه، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستحيى من أن يأمرهم بالخروج، أو يطلبه إليهم،

(1) سورة الأحزاب: 53

(2)

الشفاء ج 1 ص 68.

ص: 187

أو يشير به بأي نوع من أنواع الإشارة، حتى تولى الله تعالى تعليم المؤمنين الأدب فى هذا المقام، وأعفى رسوله من أن يخالف قانون حيائه، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً

«1» .

(ب) ومن مظاهر حيائه، وعدم المجابهة من غير ضياع للحق، أنه إذا كان قد بلغه عن أحد ما يكرهه، لا يجابهه بأنه فعل ما يكره فى الشرع، ولا يجبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان يقول:«ما بال أقوام يصنعون كذا أو يقولون كذا.» فينهى عن العمل ويستنكره ولا يسمى فاعله.

وإن ذلك فوق أنه مظهر من مظاهر الحياء، فإنه أولا يجعل النهى عاما، والاستنكار شاملا لكل من يحتمل أن يقع منه هذا العمل، وفوق ذلك إن ذلك التعميم على قبح الفعل فى ذاته من غير تعلقه بشخص بعينه، فالاستنكار للفعل من غير نظر إلى فاعله، ومع كل هذا فإن ذلك هو الحكمة، لأن المجابهة للفعل فيه خزيه، وقد يجر تكرار اللوم إلى المجاهرة والاستمرار، وإن تكرار الخزى إعانة للشيطان، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقوم قالوا لمحدود فى شرب خمر: أخزاك الله، فقال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تعينوا عليه الشيطان» .

(ج) ومن مظاهر حيائه صلى الله تعالى عليه وسلم، أن الفعل إذا كان يندر وقوعه، فإذا وقع لا يجابه صاحبه بالنهي، بل يحث أصحابه على أن ينبهوه، دخل عليه مرة رجل عليه ثياب معصفرة زاهية تبهر الأنظار مما رأى أنه لا يليق أن يكون لبسة الكاملين، فلم ينبهه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل بعد أن خرج أمر بعض صحابته أن ينبهه، وقد دفع إلى ذلك حياء النبى عليه الصلاة والسلام أولا- والرفق بالرجل من مرارة الإعلان ثانيا، ومنعه من أن يقع عليه خزى ثالثا.

(د) ومن مظاهر حيائه، ولطف مودته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا لقى الرجل بوجه لا يتجه بصفحة وجهه إلى جانب اخر، حتى يكون محدثه هو الذى ينصرف عنه روى أنس خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا استقبل أحدا بوجهه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه.

وروى أنس أيضا أنه كان إذا صافح الرجل أو صافحه لا ينزع يده منه، حتى يكون الرجل هو الذى ينزع يده، وإذا أراد رجل أن يسر إليه حديثا فى أذنه، فيحنى رأسه له، ويستمر حانيا رأسه، حتى يكون الرجل هو الذى ينحيه.

(1) سورة الأحزاب: 53.

ص: 188

وقد يقول قائل ما للحياء والشمائل النبوية التى من شأنها أن تسهل دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، إنه أدب شخصى ليس له صلة بالدعاية أو تبليغ الرسالة؟!!

ونقول إن خلق الداعى يجذب إلى موضوع الدعوة، فلو كان الداعى فحاشا، أو صخابا، أو يغلب عليه أن يلوم وتقرع عباراته لنفر منه الناس، وما استجاب له إلا أهل الحق الصرف الذين لا يهمهم لون الدعوة، بمقدار ما يهمهم لبها.

وإذا كان الخلق الطيب يجذب النفوس، ويوجهها نحو الحق، فإن الحياء أشد الأخلاق اجتذابا للنفوس، فإن الحياء، يجعل صاحبه لا يفجأ الناس بما لا يسرهم، بل يجيء إليهم من جانب ما يألفون، فلا تنفر النفوس، ولا تنشعب عن الحق، وإن عنف الداعي، وتفحش قوله يعوق دعوته، ويكون استثقاله مؤديا إلى رده.

وإذا كان مع الحياء لين فى الطبع من غير ضعف، وقوة فى الحق وصل إليه فى مداخل سهلة لينة، ولقد قال فى وصفه على بن أبى طالب أنه كان أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة. وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة.

ولقد كان لالتقاء الخلق الحسن اللطيف المعشر مع الحياء، والاستمساك بالحق مزيج من أخلاق كريمة، جعله لا يترك التنبيه إلى الحق فى رفق، وجعله يصل إلى ما يريد من إيغاله فى القلوب.

ذكر بعض الذين أدركوه قصة تدل على جمع النبى عليه الصلاة والسلام بين لطف العشرة، والحياء، والتأديب اللطيف.

قال ذلك العربي، وهو ابن جبير: نزلت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مر الظهر، فخرجت من جناني، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت، فأخرجت حلة حبرة فلبستها، ثم جلست إليهن، وخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قبته، فقال: يا أبا عبد الله ما يجلسك إليهن، فهبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، جمل لى شرود أبتغى له قيدا، قال:

فمضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتبعته فألقى رداءه.... ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقال يا أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك، ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقنى فى منزل إلا قال:

لى السلام عليك يا عبد الله، ما فعل شراد جملك.

فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد، ومجالسة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما طال ذلك تحينت ساعة خلو المسجد، فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجاء صلى

ص: 189