الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعفة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كانت صيانة من الله تعالى صانه عن أن يلهو، ولا يمكن أن تكون الشهوات وانحرافها، إلا ومعها اللهو بكل ضروبه، وقد صانه الله لا عن الأهواء والشهوات المنحرفة، بل صانه عن مقدماتها، وعن أخذ أسبابها، فصانه عن اللهو ولو كان بريئا.
وقد ذكرنا من قبل كيف انساق وهو غلام إلى الرغبة فى أن يحضر عرسا فيه لهو، فإنه عندما ذهب إليه ضرب الله سبحانه وتعالى على ذاته بنعاس أصابه من غير غم، وما استيقظ من نعاسه حتى أيقظته الشمس فى ضحاها، وكذلك كان الأمر فى ليلة أخرى، حين استوى عوده، وكانت له إرادة مسيطرة على نفسه، كان عزوفه عن اللهو بإرادة مهدية مدركة، ولم يكن بنوم يصيبه الله تعالى به، ولذلك استعصم، ولم يحدث منه قط ما يكون انسياقا وراء هوى جامح، أو شهوة مسيطرة. حتى كان الزواج، فكان الحلال الذى لا مرية فيه.
الوفاء ورعاية العهد:
142-
إنه يستدل على سجايا الرجل بمقدار رعايته لمن كان لهم به صلة، وممن كانوا معه على عشرة طيبة، فيوفى بحق هذه العشرة، يرعاها حق رعايتها، يصلها ولا يقطعها، يذكرها ولا ينكرها، فالوفاء خلة الرجل الكريم، وبمقدار وفائه يكون مقدار ما اتاه الله تعالى من خلق سمح، ونفس مؤمنة بالخير، معترفة به لأهله.
وإن وفاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمن مضى من معاشريه يسترعى أنظار من قرأوا سيرته الطاهرة:
(أ) وأوضح مثل، وفاؤه لأم المؤمنين خديجة، يود صديقاتها، ويصل صلاتها، يذكرها بالخير والاعتراف بالجميل، حيث جاء ذكرها، حتى إن أم المؤمنين عائشة حبّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تقول:«ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه صلى الله تعالى عليه وسلم يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة، فيهديها إلى خلائلها. استأذنت عليها أختها فارتاح إليها ودخلت عليه امرأة، فبش لها وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة» .
وإن الوفاء لحسن العهد من الإيمان، وناهيك بأعظم من فى الوجود، فلابد أنه كان أوفاهم، ومما يتصل بوفائه لزوجه البارة خديجة أن عائشة من كثرة ثنائه عليها قالت له مرة: هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها» فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله ما أبدلنى خيرا منها
…
امنت بى إذ كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها الولد دون غيرها من النساء» .
وكان لفرط وفائه إذا رأى أحدا من أولادها من غيره فاض عليه بالعطف والحنان، إذ قد سمع صوت ابنها هالة قد جاء إليه، فخرج إليه مناديا فى لهفة فرح: هالة، هالة.. وأكرمه، وبالغ فى إكرامه.
(ب) ومن أوضح وفائه عليه الصلاة والسلام وعرفانه للجميل ما روى عن أبى قتادة أنه لما جاء وفد النجاشى ملك الحبشة الذى اوى أهل الهجرة إلى الحبشة وأكرمهم- قام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله خدمتهم. فقال محمد صلى الله عليه وسلم الوفى العارف للجميل: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأحب أن أكافئهم» .
نعم إن محمدا عليه الصلاة والسلام يجازى الإحسان بمثله، وإلا ضاع العرف بين الناس، وهو أسوتهم.
(ج) ومن كريم وفائه، ولطف مودته وعدم نسيان من ارتبط معهم برباط من مودة وعشرة مهما يتباعد زمانها، فإن الكريم لا ينسى عشرة من عاشرهم ضعفوا أو علوا، قدم عهداهم، أو قرب، وقد وجد أختا له من الرضاع اسمها الشيماء من سبايا هوازن، فتعرفت له، فلما عرفها، بسط لها رادءه، وقال لها إن أحببت أقمت عندى مكرمة محببة، أو متعتك ورجعت إلى قومك، فاختارت قومها، فأرسلها.
وعن عمرو بن السائب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه، فوضع لها شق ثوبه من الجانب الاخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام صلى الله تعالى عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
(د) وأنه ليوفى حتى لمن فرح بولادته، فقد كانت جارية لأبى لهب قد أرضعت النبى عليه الصلاة والسلام أول ولادته، وخرجت فبشرت أبا لهب بالولادة، وأعتقها أبو لهب لهذه البشارة. فكان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يبعث إليها بصلة مستمرة موصولة ما كانت حية، فلما ماتت سأل عمن بقى من ذوى قرابتها، قيل: لا أحد.
ولقد كان فى جملة أخلاقه أنه يصل رحمه، ولو لم يكونوا له نصراء وأولياء، فهو لا يصل رحمه مكافئا، ولكن يصلهم راحما، وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال عن بعض ذوى رحمه:«ليسوا لى بأولياء غير أن لهم رحما سأبلها ببلالها» «1» .
(1) الشفاء ج 18 ص 74، 75.