الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما كن بلغن سن الزواج قبل الهجرة، وخصوصا أنه ما كان أول أولاده من أم المؤمنين خديجة أنثى، بل ولده القاسم الذى كان يكنى به، ثم ابنه الطيب ثم الطاهر، وهكذا نرى أن السياق التاريخى لا يتسق إلا مع المشهور، وهو ذو السند، ولا سند لغيره.
وأما سنها، فقد كان المشهور أربعين وقيل كانت فى الخامسة والثلاثين، وقيل كانت فى الخامسة والعشرين، ولا سند لهذه الأقوال، ولكن التاريخ يعتمد دائما على المشهور الذى له سند يعتمد عليه، ولا خلاف بين كتاب السيرة فى أن سنها رضى الله تعالى عنها، وجزاها عن الإسلام خيرا كانت أربعين، وغيرها أقوال منثورة لم يؤيدها كتاب السيرة والمحققون.
ولسنا من الذين يتجهون إلى الإغراب، لأن الإغراب إن كان سائغا فى بعض العلوم، فهو لا يسوغ قط فى التاريخ، لأن تتبع الإغراب فى التاريخ إنكار لما اشتهر، وارتضاء بما لم يشتهر من غير سند.
إن الحقائق هى الأمور المشهورة، ورد ما عداها، إلا إن قام الدليل المكذب للمشهور بما لا يقل عنه قوة، والله تعالى أعلم.
أغناه الله وواساه
107-
ولد محمد عليه الصلاة والسلام يتيما، وعاش يتيما، ثم اتاه الله تعالى اليسر العامل، وكفاه العيش الكادح، رعى الغنم ودبر التجارة، ثم بسط الله تعالى له الرزق، واتاه الزوج الوفية الرضية، فأكمل الله بها إنسانيته، وأكمل لها أمومتها، وتوافقا فى قطع فيافى هذا الوجود، وكمل كل منهما ما ينقصه بما عند الاخر، هى امرأة شريفة، ذات ثراء، وهو رجل مكتمل عامل قوى أمين، فأغناها بأمانته، وكفلها برجولته، ووجه مالها إلى الخير، بحسن نيته وطيب طويته.
وقد كان يعمل لها فى المال من قبل بأجر مضاعف، تطيب به نفسها، ويكسب مالها على يديه أضعاف ما ينتج غيره، وكان عبدا شكورا، ولو استمر فى هذه الطريق يعمل فى مالها ومال غيرها، لأدر الله تعالى عليه أخلاف الرزق، ولو كان يبتغى المال وأعراض الدنيا هذه، لنال الشباب والمال معا.
ولكنه رأى أن يعمل فى مالها بغير أجر، وأن يضاعفه بغير ثمن، وأن تكون أم ولده، لطيب عرقها وشرف نفسها، وقد تخير لنطفته، فاختار أكمل امرأة فى قريش، وأعلاها فى المكرمات كعبا، وقد اختارها الله تعالى لتكون له ردا فى شدائده، تواسيه بالكلام والعطف والحنان، فى وقت اشتد فيه
البلاء، وعظم الابتلاء، فأعنته المخالفون، وكان عزيزا عليه أن يعنتهم. فكان فى حاجة إلى من يأوى إليه، كما هو فى حاجة إلى من يذود عنه.
وإذا كانت امرأة نوح وامرأة لوط قد تخاذلتا عن معاونة النبيين الصالحين، فامرأة محمد عليه الصلاة والسلام أعلت شأن النساء قاطبة، فكانت الزوج الملهمة المواسية، الودود العطوف الولود، يلقى قريشا وصدودها، وعداوتها وجفوتها، فإذا اوى إلى بيته وجد بردا وسلاما.
وإذا كان قد فقد عطف الأم الرؤم فى صدر حياته فى وقت الحاجة، فقد عوضه الله تعالى فى خديجة زوجا وأما ورفيقة الحياة.
118-
أغنى الله اليتيم، كان عائلا فأغنى، فهل طغى واستغنى، هل عبث وتلهى، هل اتخذ الحياة لهوا ولعبا، هل أخذ فى التكاثر، والمكاثرة! لا شيء من ذلك، إنما يفعل ذلك من اتخذ المال غاية، ولم يتخذه سبيلا للخير وعون الإنسان لأخيه الإنسان.
ومحمد عليه الصلاة والسلام ما اتخذ المال بغية يبتغيها، ولا غاية يتطلع إليها، فما أراد التكاثر، وما عرفه فى أى دور من أدوار حياته.
إنما اتخذه وسيلة للمكرمات يقوم بها، وللخير يسديه، فكان يطعم الكل، ويعين على نوائب الدهر، ولا يجد ذا حاجة إلى العون إلا أعانه، ولا ذا خصاصة إلا سدها، ولا ذا مسغبة إلا أشبعه، ولا ذا متربة إلا رفعه، كان يبحث عن مواضع الحاجة، فيرأب ثلمتها.
تلفت فيمن حوله، فرأى كافله وحبيبه أبا طالب فى ضيق، وعيلة، فجاء إلى عمه العباس وكان ذا ثراء، وقال له: هلا أخذنا بعض ولد أبى طالب ليتخفف من ضيق، فعرضا عليه الأمر فقال اتركا لى عقيلا، وخذا من شئتما، فأخذ صلى الله تعالى عليه وسلم، عليا، وأخذ العباس جعفرا، فكان على ولده الذى تربى فى مهد النبوة.
وكل من حول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا ممدودين بعونه وفضله، وخلقه، فكأنه استولى على مال خديجة ليوزع فى الخير ثمراته وليكون خيره عميما، وفضله كثيرا.
وبينما كانت قريش تكسب بالربا والبيع الحلال، وتشبه أحدهما بالاخر، فتقول البيع مثل الربا، كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، يتجر فى الحلال، ولا يكسب من إثم، ويعين ويغيث به الملهوف، والكسب مع ذلك وفير.
وهنا يسأل سؤال: لماذا ابتدأ بالقل وانتهى بالكثر! والجواب أن حياة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيها قبل البعثة البشرية الكاملة فى كل أحوالها فى سرائها وضرائها، فى كريهتها، ومنشطها، فى ضيقها ورخائها، فلم يتربه الفقر ولم يذله القل، بل صبر عزيزا، وقنع كريما، وجد ليكسب قوته، وحاول أن يخرج من ضيق الفقر بقوة العمل، من ضنك العيش ببحبوحة النفس، وغناها، فكان الفقير العزيز الكريم العامل المكتسب المبين، فلم يقل فى فقره ربى أهانن، وعاش مع الضعفاء شاعرا بضعفهم، وبإحساسهم، لا يسير وراء الأمانى والأحلام.
ثم اختبره الله تعالى بالمال، فكان الشاكر، الذى يفيض بالخير على غيره، ويعلم حق المال فى مورده، ومصرفه معا، فلا يكسب إلا من طيب، ولا ينفقه إلا فى طيب، وهو فى كسبه وإنفاقه لا يكون إلا نافعا، فكسبه طيب، وصرفه طيب.
وثبت من النظر الاجتماعى أن الكسب الطيب هو الذى يكون بطريق فيها نفع عام، فالزراعة كسب طيب، لأن فيها تقديم الغذاء والكساء مما تخرج الأرض من زروع وأثمار، والعمل باليد فيه كسب طيب، لأن فيه نفعا عاما بالصناعات النافعة، والاتجار كسب طيب، لأن فيه الجلب للناس من أماكن لا يخرجون إليها وفيه توزيع خيرات الأرض على أهل الأرض لا يحرم منها إقليم ولا يستطيل بالقوة المادية فيها طاغ.
وأخيرا محمد بن عبد الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) ضرب للناس فى بشريته قبل البعثة أعلى مثل للفقير الصابر العامل فى فقره، والغنى الشاكر الذى عاش كالضعفاء فى غناه، فكان غنى النفس فى الحالين.
119-
وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد أن استقامت لديه أسباب الرزق لم يتجه إلى اللذات يشتار عسلها ويترع منها، بل كان الزاهد فى غير الحلال المعروف الذى لا يتنافى مع المروءة ومكارم الأخلاق، بل كان زاهدا غير محروم، وطالبا للطيبات غير مبتغيها، لأن الابتغاء قد يدفع إلى اشتهائها.
وهناك أمر اخر، كان يجعل المال غير ذى شأن إلا بالقدر الذى يعين على مكارم الأخلاق، والنفع لبنى الإنسان، وهو ابتعاده عن كل أوهام الجاهلية، وأحقادها، ومنازعاتها.
وفى وسط بحبوحة العيش، ومن غير ترفه، قد أخذ يدرس الكون وما فيه ومن فيه، ما وراء الكون من أسرار الوجود، مبتعدا عن الوثنية، وما حولها، مستنكرا عبادتها، غير مستسلم لتوهم أن فيها تأثيرا فى الإنسان.