المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بناء قريش 122- اتجهت قريش بعزمة ماضية، وإن شئت فقل مخلصة - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌ ‌بناء قريش 122- اتجهت قريش بعزمة ماضية، وإن شئت فقل مخلصة

‌بناء قريش

122-

اتجهت قريش بعزمة ماضية، وإن شئت فقل مخلصة طاهرة، إلى بناء البيت بجهود أبنائها، وأموالهم الطيبة التى لا خبث فيها، فليس فيها ثمن دم مغصوب، ولا ربا، ولا مهر بغى، ودخلوا غير متنازعين، ولا متخاصمين، ولا متخاذلين، أعدوا لذلك العمل الخطير فى معناه، وإن لم يكن البناء كبيرا فى ذاته بين الأبنية التى كانت تجرى فى إرم ذات العماد، وفرعون ذى الأوتاد، ولكنها أقدس ما بنى البشر، وما أقام أهل الحضر والمدر والوبر، لأنها الكعبة، أول بيت وضع للناس مباركا.

تقدموا للهدم ثم البناء، ويظهر أن قدم العهد بالبناء والأحجار، قد جعل بعض الهوام يعيش على مقربة منه، فقد زعموا أنهم قد رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها إشفاقا شديدا وخشوا أن يكونوا قد وقعوا منها فى هلكة، ووقفوا حيارى لا يقدمون، فلما سقط فى أيديهم، والتبس عليهم الأمر، حسبوا أن يكون ذلك لتأثمهم عند البناء بإثم، أو ليس فى مالهم طهر، أو فى العمل الذى أعدوه خبث، أو أن فى النفوس شيئا، عندئذ وقف المغيرة المخزومى، ينصح لهم بعدم التحاسد والتشاجر، وأن يقتسموا، ثم جددوا العزيمة. وقد جاء فى تاريخ الحافظ ابن كثير أنهم لما عزموا ذهبت الحية، وتغيبت عنهم، ورأوا أن ذلك من الله عز وجل.

وإن خبر الحية إن صح نقول إما أن تكون قد ركنت إلى بعض أحجار الكعبة، ويصح أن المولى جل جلاله سيرها إليهم لا من السماء، ولكن من مكان اخر، ليفزعوا، ولتتطهر قلوبهم من رجس الجاهلية عند بنائها، فهى بيت الله الذى بناه بأمر نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلابد أن يا بنى بأطهار على الأقل فى ساعة بنائه، وقد قاموا بتطهير أنفسهم، وتطهير أموالهم، وتولوا بأنفسهم إقامة البناء.

«اقتسموا البناء أرباعا، فكان الربع الأول الذى فيه شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وبنو مخزوم لهم ما بين الركن الأسود والركن اليمانى، ومعهم بطون من قريش إنضموا إليهم، وظهر الكعبة لبنى جمح وسهم، وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى وبنى أسد بن عبد العزى وبنى عدى، وهو الحطيم» «1» .

وبعد أن قسموا هذا التقسيم، وارتضته القلوب كان يجب أن يبتدئ العمل بالهدم أولا، ثم البناء ثانيا، ولكن لهيبة الكعبة فى نفوسهم، ولعجزهم عن أن يعرفوا أهذه إرادة الله رب البيت وحاميه، أم هى أهواؤهم الدافعة إلى أن يفعلوا- هابوا أن يهدموا. عند هذا التردد والتلكؤ تقدم الوليد المخزومى، وحمل

(1) البداية والنهاية ج 3 ص 303.

ص: 152

المعول، وقال: أتقدمكم، وهو يقول: اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية من الركنين (الركن الأسود والركن اليمانى) وهما حصة بنى مخزوم، ومع ذلك لم يتقدم كل ذى حصة من حصته ليهدمها.

أصبح الوليد معتزما من غداته متمما ما بدأ بمعوله، فأخذ يهدم الناس معه، كل يهدم ما فى حصته، وأخذوا يهدمون، حتى رأوا أساس البناء الذى وضعه خليل الله عليه الصلاة والسلام.

ومن مقتضى الفطرة التى لم يأت بها رسول أن تجرى أوهام كثيرة، وأن تروى أخبار حول هذه الأوهام، وإنا نضرب عن كل ذلك صفحا.

123-

وإنهم قد أخذوا من بعد ذلك فى إقامته، ويظهر أنه قد عاونهم فى الرسم والبناء رجل قبطى اسمه باقوم، فهو الذى وضع هندسة البناء، وكان مولى لبنى أمية.

وقد قام كل فريق بحصته فى البناء، وقد اشترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان زميلا فى العمل لعمه العباس بن عبد المطلب، وقد روى الشيخان (البخارى ومسلم) فى ذلك عن جابر أنه لما بنيت ذهب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم:«اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض، وطمحت عينه إلى السماء، ثم أفاق، فقال إزارى إزارى، فشد عليه إزاره، فما رؤى بعد ذلك عريانا» .

هذا حديث صحيح، روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سقناه لبيان أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشترك فى أشرف عمل قامت له قريش، وهو فى شرخ الشباب، وحمل الحجارة، وأنه لم يأخذه الترف قط، وأنه لم يفكه فى نعيم المال، فكانت حياته حياة الأقوياء، وإن الخبر يدل على أن الله تعالى كان يرعاه، وقد رباه على عينه، فلما أخذ بنصيحة عمه العباس، ووضع بعض ثوبه على رقبته انكشف بعض عورته، فطمحت عينه إلى السماء وأصابته غشية اتصال بالملأ الأعلى، وسترت عورته، فقد كان فى حراسة الله سبحانه وتعالى، وحياطته.

ولا نرد الخبر لما فيه من غرابة، فقد رواه الشيخان البخارى ومسلم بسند صحيح، وما يروى بسند صحيح لا يرد لمجرد غرابته على الحس والأسباب والمسببات، إنما يرد لوجود دليل يثبت أن ذلك مستحيل، والأمر فى قدرة الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، ومانح كل ما فى الوجود نعمة الوجود.

ص: 153

لقد أتموا بناء البيت الحرام، وكان ارتفاعه الذى بنوه ثمانية عشر ذراعا وأخرجوا منه الحجر، وهو ستة أذرع، أو سبعة من ناحية الشام، لأنهم قد قصرت نفقتهم، فلم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.

وقد يسأل سائل، إن المفروض أن قريشا كانوا من أغنياء العرب، وبجوارهم ثقيف، وهم أغنياء، وكان ممكن أن يعلنوا اكتتابا عاما يجمعون به ما يريدون، فكيف تقصر بهم النفقة عن البناء.

والجواب عن ذلك أنهم لم يشركوا العرب فى بنائهم ليبقى لهم الاختصاص بسدانته وبشرفه، وبإنشائه، وفوق ذلك هم أرادوا ألا ينفقوا منه إلا بمال مكسوب من طيب حلال، وليس بمكسوب مما يجرى فيه كسب خبيث أو فيه شبهة خبث قط، ويظهر أن الطيب من المال عندهم لم يكن كثيرا، إذ كثر فيهم الربا والميسر، ومن الصعب إخراج الطيب، من بين هذا كله.

ولقد جعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق، ويقول ابن كثير: جعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤا، ويمنعوا من شاؤا.

وإن النبى عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يعيد البيت إلى ما كان على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لولا أنه يخشى عليه كثرة الهدم والبناء، فقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها:«ألم ترى أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة، وجعلت لها بابا شرقيا، وبابا غربيا وأدخلت فيها الحجر» .

124-

تم بناء البيت الحرام، ولم يختلفوا فى شيء عند إقامته، لأن كل قسم منه اختصت به بطن من بطون قريش، ولكن أمرا لا يقبل القسمة اختلفوا فيه، وهو الحجر الأسود، اختلفوا فيمن الذى يضعه فى موضعه من هذه البنية.

تجادلوا فيمن يضعه، وتخالفوا، وكان الخلاف شديدا، وكادت الدماء تسيل لتلغ فيها السيوف، أراد بنو عبد الدار أن يضعوه، بما أعطاهم من قبل قصى من سدانة البيت، وقربوا جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب بن لؤى على الموت وأدخلوا أيديهم فى الدم المملوءة به الجفنة.

ومكثت قريش على تلك الحال التى تأزمت حلقاتها أربع ليال سويا.

ثم اجتمعوا بعدها فى المسجد الحرام، وتشاوروا فى هدأة، وأخفيت جفان الدم أو جفان الموت، وتناصفوا فى القول، وأخفوا نوازع الشر، أو استلوها من الأضغان، وأن القصد الطيب يكف فى كثير من الأحيان نوازع الشر، فيفتح فى وسط الخصام، نورا من الوئام، وقد كانت الجلسة الهادئة سبيل ذلك، ببركة بيت الله الحرام.

ص: 154

لقد وقف أسن قريش يدعوهم إلى السلام وإنهاء الخصام، فقال:

«يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم: فارتضوا ذلك، وعلموا أنه توفيق الله تعالى عندما ظهر أول داخل، فإذا هو محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال كبيرهم: هذا الأمين رضينا به حكما.

وكان محمد صلى الله تعالى وسلم يسمى الأمين، وقد اختص بهذا الاسم، بحيث اذا أطلق لا ينصرف إلا إليه، وقد أشرنا إلى ذلك، وكلما مضى فى عمره الكريم زادوا استيثاقا من أمانته وصدقه وحكمته وعدالته.

لذلك طابت نفوسهم جميعا عندما علموا أنه سيكون الحكم بينهم الذى يرد القضب إلى أجفانها.

انتهى إليهم وأخبروه الخبر، فطابت نفسه وقرت عينه، إذ قرت به القلوب المضطربة وقال: هلم إلى ثوبا فأتى به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده، ثم قال:«لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، حتى اذا بلغوا موضعه، وضعه بيده الشريفة، ثم بنى عليه» «1» .

هذه حكمة بالغة، انحل بها الخلاف، وانتهى إلى وفاق من أن تمشق السيوف، ويستعدوا للحتوف، وهكذا كانت النفحة المباركة من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وقد بدت بوادر النبوة، وظهرت إرهاصاتها.

125-

قامت الكعبة الشريفة متجهة إلى السماء، واستمرت على ذلك فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يود أن يعيدها عليه الصلاة والسلام إلى ما كانت عليه فى عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكنه قدر أن قريشا قريبو عهد بكفر، فلم يزعجهم.

وبعد عصر الراشدين، ثم عهد معاوية، ثم جاء عهد يزيد بن معاوية، وخرج عليه الخارجون من أهل الإيمان، وكان ممن خرج عليه عبد الله بن الزبير، وقد قوى أمره بعد أن قتل الإمام الحسين بن على، تلك القتلة الفاجرة، وقد بايع الكثيرون ابن الزبير.

ثم تجرد له عبد الملك بن مروان، وكانت المغالبة، وحوصرت مكة التى كان بها ابن الزبير، ورميت الكعبة بالمنجنيق، وتهدمت، فاتجه ابن الزبير إلى إقامتها على قواعد إبراهيم، فأعاد طولها، وأدخل من الحجر الأذرع التى كانت قد نقصت منها لضيق المال الحلال الذى كان بيد قريش، وجعل لها بابا اخر، وكان قد سمع عن طريق خالته أم المؤمنين التى روت حديث النبى عليه الصلاة والسلام الذى ذكرناه انفا.

(1) سيرة ابن هشام.

ص: 155