الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بناء قريش
122-
اتجهت قريش بعزمة ماضية، وإن شئت فقل مخلصة طاهرة، إلى بناء البيت بجهود أبنائها، وأموالهم الطيبة التى لا خبث فيها، فليس فيها ثمن دم مغصوب، ولا ربا، ولا مهر بغى، ودخلوا غير متنازعين، ولا متخاصمين، ولا متخاذلين، أعدوا لذلك العمل الخطير فى معناه، وإن لم يكن البناء كبيرا فى ذاته بين الأبنية التى كانت تجرى فى إرم ذات العماد، وفرعون ذى الأوتاد، ولكنها أقدس ما بنى البشر، وما أقام أهل الحضر والمدر والوبر، لأنها الكعبة، أول بيت وضع للناس مباركا.
تقدموا للهدم ثم البناء، ويظهر أن قدم العهد بالبناء والأحجار، قد جعل بعض الهوام يعيش على مقربة منه، فقد زعموا أنهم قد رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها إشفاقا شديدا وخشوا أن يكونوا قد وقعوا منها فى هلكة، ووقفوا حيارى لا يقدمون، فلما سقط فى أيديهم، والتبس عليهم الأمر، حسبوا أن يكون ذلك لتأثمهم عند البناء بإثم، أو ليس فى مالهم طهر، أو فى العمل الذى أعدوه خبث، أو أن فى النفوس شيئا، عندئذ وقف المغيرة المخزومى، ينصح لهم بعدم التحاسد والتشاجر، وأن يقتسموا، ثم جددوا العزيمة. وقد جاء فى تاريخ الحافظ ابن كثير أنهم لما عزموا ذهبت الحية، وتغيبت عنهم، ورأوا أن ذلك من الله عز وجل.
وإن خبر الحية إن صح نقول إما أن تكون قد ركنت إلى بعض أحجار الكعبة، ويصح أن المولى جل جلاله سيرها إليهم لا من السماء، ولكن من مكان اخر، ليفزعوا، ولتتطهر قلوبهم من رجس الجاهلية عند بنائها، فهى بيت الله الذى بناه بأمر نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلابد أن يا بنى بأطهار على الأقل فى ساعة بنائه، وقد قاموا بتطهير أنفسهم، وتطهير أموالهم، وتولوا بأنفسهم إقامة البناء.
وبعد أن قسموا هذا التقسيم، وارتضته القلوب كان يجب أن يبتدئ العمل بالهدم أولا، ثم البناء ثانيا، ولكن لهيبة الكعبة فى نفوسهم، ولعجزهم عن أن يعرفوا أهذه إرادة الله رب البيت وحاميه، أم هى أهواؤهم الدافعة إلى أن يفعلوا- هابوا أن يهدموا. عند هذا التردد والتلكؤ تقدم الوليد المخزومى، وحمل
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 303.
المعول، وقال: أتقدمكم، وهو يقول: اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية من الركنين (الركن الأسود والركن اليمانى) وهما حصة بنى مخزوم، ومع ذلك لم يتقدم كل ذى حصة من حصته ليهدمها.
أصبح الوليد معتزما من غداته متمما ما بدأ بمعوله، فأخذ يهدم الناس معه، كل يهدم ما فى حصته، وأخذوا يهدمون، حتى رأوا أساس البناء الذى وضعه خليل الله عليه الصلاة والسلام.
ومن مقتضى الفطرة التى لم يأت بها رسول أن تجرى أوهام كثيرة، وأن تروى أخبار حول هذه الأوهام، وإنا نضرب عن كل ذلك صفحا.
123-
وإنهم قد أخذوا من بعد ذلك فى إقامته، ويظهر أنه قد عاونهم فى الرسم والبناء رجل قبطى اسمه باقوم، فهو الذى وضع هندسة البناء، وكان مولى لبنى أمية.
وقد قام كل فريق بحصته فى البناء، وقد اشترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان زميلا فى العمل لعمه العباس بن عبد المطلب، وقد روى الشيخان (البخارى ومسلم) فى ذلك عن جابر أنه لما بنيت ذهب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم:«اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض، وطمحت عينه إلى السماء، ثم أفاق، فقال إزارى إزارى، فشد عليه إزاره، فما رؤى بعد ذلك عريانا» .
هذا حديث صحيح، روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سقناه لبيان أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشترك فى أشرف عمل قامت له قريش، وهو فى شرخ الشباب، وحمل الحجارة، وأنه لم يأخذه الترف قط، وأنه لم يفكه فى نعيم المال، فكانت حياته حياة الأقوياء، وإن الخبر يدل على أن الله تعالى كان يرعاه، وقد رباه على عينه، فلما أخذ بنصيحة عمه العباس، ووضع بعض ثوبه على رقبته انكشف بعض عورته، فطمحت عينه إلى السماء وأصابته غشية اتصال بالملأ الأعلى، وسترت عورته، فقد كان فى حراسة الله سبحانه وتعالى، وحياطته.
ولا نرد الخبر لما فيه من غرابة، فقد رواه الشيخان البخارى ومسلم بسند صحيح، وما يروى بسند صحيح لا يرد لمجرد غرابته على الحس والأسباب والمسببات، إنما يرد لوجود دليل يثبت أن ذلك مستحيل، والأمر فى قدرة الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، ومانح كل ما فى الوجود نعمة الوجود.
لقد أتموا بناء البيت الحرام، وكان ارتفاعه الذى بنوه ثمانية عشر ذراعا وأخرجوا منه الحجر، وهو ستة أذرع، أو سبعة من ناحية الشام، لأنهم قد قصرت نفقتهم، فلم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.
وقد يسأل سائل، إن المفروض أن قريشا كانوا من أغنياء العرب، وبجوارهم ثقيف، وهم أغنياء، وكان ممكن أن يعلنوا اكتتابا عاما يجمعون به ما يريدون، فكيف تقصر بهم النفقة عن البناء.
والجواب عن ذلك أنهم لم يشركوا العرب فى بنائهم ليبقى لهم الاختصاص بسدانته وبشرفه، وبإنشائه، وفوق ذلك هم أرادوا ألا ينفقوا منه إلا بمال مكسوب من طيب حلال، وليس بمكسوب مما يجرى فيه كسب خبيث أو فيه شبهة خبث قط، ويظهر أن الطيب من المال عندهم لم يكن كثيرا، إذ كثر فيهم الربا والميسر، ومن الصعب إخراج الطيب، من بين هذا كله.
ولقد جعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق، ويقول ابن كثير: جعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤا، ويمنعوا من شاؤا.
وإن النبى عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يعيد البيت إلى ما كان على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لولا أنه يخشى عليه كثرة الهدم والبناء، فقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها:«ألم ترى أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة، وجعلت لها بابا شرقيا، وبابا غربيا وأدخلت فيها الحجر» .
124-
تم بناء البيت الحرام، ولم يختلفوا فى شيء عند إقامته، لأن كل قسم منه اختصت به بطن من بطون قريش، ولكن أمرا لا يقبل القسمة اختلفوا فيه، وهو الحجر الأسود، اختلفوا فيمن الذى يضعه فى موضعه من هذه البنية.
تجادلوا فيمن يضعه، وتخالفوا، وكان الخلاف شديدا، وكادت الدماء تسيل لتلغ فيها السيوف، أراد بنو عبد الدار أن يضعوه، بما أعطاهم من قبل قصى من سدانة البيت، وقربوا جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب بن لؤى على الموت وأدخلوا أيديهم فى الدم المملوءة به الجفنة.
ومكثت قريش على تلك الحال التى تأزمت حلقاتها أربع ليال سويا.
ثم اجتمعوا بعدها فى المسجد الحرام، وتشاوروا فى هدأة، وأخفيت جفان الدم أو جفان الموت، وتناصفوا فى القول، وأخفوا نوازع الشر، أو استلوها من الأضغان، وأن القصد الطيب يكف فى كثير من الأحيان نوازع الشر، فيفتح فى وسط الخصام، نورا من الوئام، وقد كانت الجلسة الهادئة سبيل ذلك، ببركة بيت الله الحرام.
لقد وقف أسن قريش يدعوهم إلى السلام وإنهاء الخصام، فقال:
«يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم: فارتضوا ذلك، وعلموا أنه توفيق الله تعالى عندما ظهر أول داخل، فإذا هو محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال كبيرهم: هذا الأمين رضينا به حكما.
وكان محمد صلى الله تعالى وسلم يسمى الأمين، وقد اختص بهذا الاسم، بحيث اذا أطلق لا ينصرف إلا إليه، وقد أشرنا إلى ذلك، وكلما مضى فى عمره الكريم زادوا استيثاقا من أمانته وصدقه وحكمته وعدالته.
لذلك طابت نفوسهم جميعا عندما علموا أنه سيكون الحكم بينهم الذى يرد القضب إلى أجفانها.
انتهى إليهم وأخبروه الخبر، فطابت نفسه وقرت عينه، إذ قرت به القلوب المضطربة وقال: هلم إلى ثوبا فأتى به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده، ثم قال:«لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، حتى اذا بلغوا موضعه، وضعه بيده الشريفة، ثم بنى عليه» «1» .
هذه حكمة بالغة، انحل بها الخلاف، وانتهى إلى وفاق من أن تمشق السيوف، ويستعدوا للحتوف، وهكذا كانت النفحة المباركة من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وقد بدت بوادر النبوة، وظهرت إرهاصاتها.
125-
قامت الكعبة الشريفة متجهة إلى السماء، واستمرت على ذلك فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يود أن يعيدها عليه الصلاة والسلام إلى ما كانت عليه فى عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكنه قدر أن قريشا قريبو عهد بكفر، فلم يزعجهم.
وبعد عصر الراشدين، ثم عهد معاوية، ثم جاء عهد يزيد بن معاوية، وخرج عليه الخارجون من أهل الإيمان، وكان ممن خرج عليه عبد الله بن الزبير، وقد قوى أمره بعد أن قتل الإمام الحسين بن على، تلك القتلة الفاجرة، وقد بايع الكثيرون ابن الزبير.
ثم تجرد له عبد الملك بن مروان، وكانت المغالبة، وحوصرت مكة التى كان بها ابن الزبير، ورميت الكعبة بالمنجنيق، وتهدمت، فاتجه ابن الزبير إلى إقامتها على قواعد إبراهيم، فأعاد طولها، وأدخل من الحجر الأذرع التى كانت قد نقصت منها لضيق المال الحلال الذى كان بيد قريش، وجعل لها بابا اخر، وكان قد سمع عن طريق خالته أم المؤمنين التى روت حديث النبى عليه الصلاة والسلام الذى ذكرناه انفا.
(1) سيرة ابن هشام.