الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنا لنذكر فى هذا الباب من الكتاب، ما كان فيه بمقتضى الطبع الإنسانى السامى الذى فطره الله تعالى عليه. وما كان من صفات تتعلق بالمعاملات، والعلاقات الانسانية والمودة والرحمة والرفق، والفصاحة، وغيرها مما كانت مهيئة للرسالة، وتحمل الأعباء، والقيام بحق هذه الرسالة والدعوة إليها بما يزكيها وينميها، وإذا كانت قد استمرت فيه بعد البعثة، فإنها ثمرة الله فى غرسه، وتناول الناس أكله، وإذا كنا نستشهد على هذه الصفات بما جاء من أقوال أصحابه من بعد البعثة، فليس ذلك لأن البعثة هى التى أوجدتها، بل لأنها الأقوال الناطقة المؤيدة لذلك، فقد أوجدها فيه العلى القدير.
وقدمناه على الرسالة لأن الله تعالى أعدها فيه ليكون كاملا، وليقوم بأعبائها.
1- وفور عقله
129-
لم يتوافر العقل فى إنسان كما توافر فى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ولو لم ينزل عليه الوحى ويخاطب من السماء لكان عقله واحده كافيا لأن ينشيء دولة، ويقيم مجتمعا طيبا فاضلا. ولكن أتم الله تعالى عليه نعمته، فجعله نبيا مرسلا، فاجتمع له الكسب الذاتى بالإدراك بالفطرة الإنسانية العالية المكتملة بالتكوين الإنسانى والرسالة الإلهية الهادية المرشدة، وكانت الأولى مقدمة للثانية، وما كانت إحداهما لتغنى عن الاخرى. فما كانت الرسالة تجىء لغير عقل كامل، وفكر مدرك، وشخصية كريمة اختارها الله تعالى لموضع رسالته وحمل أمانته. وما كانت الكفاية العقلية فى أسمى علوها بمغنية عن الرسالة، لأن العقل لا يمكن أن يكون واحده كافيا فى تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحى لا يفكر فيما بين يديه، ولا يخترق الحجب والأستار إلى ماوراء ما لديه، فلابد من علم الله يمده بعلم القابل، وهو عالم الغيب والشهادة، فمهما تكن قوة العقل، فإنه لا يستطيع أن يصلح غير زمانه، وكل شيء عند ربك بمقدار.
منذ نشأ محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم والعقل المكتمل حليته العليا التى سما بها على الغلمان أترابه، فمنذ استوى غلاما، والعقل يزينه، ولقد بدا ذلك لجده عبد المطلب الذى أخذه ليعوده أخلاق الرجال المكتملين.
ولما ذهب إلى بيت عمه أبى طالب بعد وفاة جده القريب، كان الغلام الرزين المكتمل وسط أولاد أبى طالب، لا يسبق الأيدى إلى الطعام، ولا يدخل فى زحمة الاغتراف، بل يتريث غير نهم ولا جشع ولا طامع، بل الهاديء الرزين، قد يكتفى بالقليل أو ما دونه حتى يتنبه إليه عمه الشفيق فيقرب إليه ما يبعد، ويخصه بما يكفيه مئونة المزاحمة، حتى إذا بلغ قدرا يستطيع فيه الاكتساب عمل على رعى الأغنام ليأكل من عمل يده، ولينال من خير الدنيا بمقدار ما قدم فيه من نفع غير مؤثل ولا مقصر.
وعقله المدرك لمصيره بقابل حياته فى قابل عمره، فهو يعد نفسه للتجارة عمل قومه، ومكتسب أرزاقهم ومنشط قواهم، فألح على عمه أبى طالب أن يأخذه معه إلى الشام فى قافلة تجارة قريش، ليكون على خبرة بالصفق فى الأسواق، وليتعلم المصادر والموارد، وذلك وهو فى الثانية عشرة من عمره حتى إذا عاد من هذه الرحلة المباركة عاد وقد امتلأ عقله تجربة، فيمارس التجارة صغرت بضاعته أو كبرت، وهو على بينة من أمرها، عليم بأسواقها، والرائج منها والكاسد.
ولكمال عقله كان الشاب التاجر يحضر مجتمعات قريش، فهو يحضر ندوتها فاحصا ما يقال فيها من حق يرضاه، وباطل يجفوه ولا يقره، ويحضر حلف الفضول، ويرى لعقله الكامل المدرك أنه لا يسره به حمر النعم، ولا يرى نصرة للحق أقوى منه، ولو دعى به فى الإسلام بعد أن عم الحق، لأجاب تكريما له وإعلاء لقدره.
وهكذا نراه قد أوتى عقلا مدركا، وعمل على تغذيته بالتجارب والاتصال بالمجتمع ليعرف خيره وشره، ويعمل على علاج أدوائه، إن واتاه الله تعالى بفضل من عنده.
وإننا ونحن نتكلم على قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى الظاهر نتعرض لنفوره من التقليد من غير دليل، فهو قد نفر من عادات الجاهلية التى كانت تحرم وتحلل من غير بينة ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة. فلم نره يسجد لصنم قط، لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ويكره ذكر الأصنام، وعبادتها. فيستحلفه الراهب باللات والعزى فيقول الغلام: ما كرهت شيئا كما كرهتهما.
ويختلف مع تاجر، فيستحلفه التاجر باللات والعزى، فيمتنع، فيسلم له التاجر بحقه من غير حلف لأمانته.
وأى عقل أكمل من أن يرى قومه ينحرفون عن إبراهيم فى حجه، ويذهب فرط حرصهم واعتزازهم بالبيت ألا يقفوا بعرفات فيجيء الرجل العاقل المكتمل محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ويتعرف مناسك إبراهيم، فيقف بعرفات فى ميقاته، إن ذلك كله لا يكون إلا من رجل عاقل يعمل عقله فى هدأة من غير مجادلة، لأن المجادلة تحدث المنازعة، وحيث كانت المنازعة كان الريب، وتبددت الحقائق بين المتنازعين.
لقد علمت قريش كلها بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكما، ساعة أن احتدم الجدل، وكادت السيوف تمتشق، والمعارك أن تنصب، فلما نادته القرعة أن أقدم، وافصل بين الناس بالحق، رضوا بحكمه، لأنه سيكون حكم العقل والحق، وأى شخص غير عاقل وحكيم كان يهتدى
إلى الحكم الذى يرضيهم جميعا، فيشركهم جميعا فى فضل حمل الحجر الأسود إلى موضعه من غير مشاحة ولا خصومة ولا تفاضل بينهم. ويحمله هو بيده ابتداء فلا ينازعونه لفضل عقله، ثم يحمله هو واحده انتهاء ويضعه فى موضعه بيديه الكريمتين، فيرضون ما يفعل.
ولكمال عقله لم يخض مع الخائضين فى العصبية الجاهلية، فلم ينطق بها، ولم يجادل حولها، وكان يحب الوئام والسلام، ولا يحب الحرب والخصام، ولذلك لم يشارك فى حرب الفجار، إلا بتنضيل السهام عن أعمامه حماية لهم ورحمة بهم، بموجب الرحم الواصلة، لا بموجب الحرب التى أحلت فيها الحرمات والأشهر الحرم.
وإنه من المؤكد أن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كبح جماح هواه طول حياته قبل البعثة، فلم يفعل ما يفعله الغلمان وهو غلام، ولا ما يفعله الشبان فى باكورة شبابه ولا بعد أن صار رجلا سويا. اكتملت أخلاقه كما اكتمل جسمه، فكان القوى الذى يسيطر على أهوائه، فلا ينحرف مع هوى ولا تجمح به شهوة، وأنه إذا ضعف سلطان الهوى قوى سلطان الحق، وإذا قلت حدة الشهوة، استقام حكم العقل، فالعقل حكمه يناقض حكم الهوى والشهوة، والعاقل السيد هو الذى يسيطر على أهوائه وشهواته ويكون عقله هو المسيطر، وما تضل العقول إلا إذا داخلت النفوس الأهواء وعكرت صفاءها، فمحمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان أعقل قريش لأنه هو الذى لم يسيطر عليه هوى كسائر سادات مكة.
وقد قال القاضى عياض فى فضل عقله عليه الصلاة والسلام، واثاره فى الإسلام:
(1) الشفاء الجزء الأول ص 43، طبع الحلبى.