الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«يا معشر قريش، إنه قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا وسب الهتنا، وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد فى صلاته، فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قبلته للشام، فكان إذا صلى، صلى بين الركنين الأسود واليمانى، فجعل الكعبة الشريفة بينه وبين الشام فقام يصلي.
وقد غدت قريش فجلسوا فى أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه، مرعوبا، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يديه.
رأى رجال قريش الذين غدوا ليروا ما يفعل وما كان به، فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم!! فقال:
قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني» .
هذه أخبار رواة ثقات بأسناد صحيحة قوية، وإذا كان فى بعض أسنادها ضعف فالقوى يرفع الضعيف، وحسبنا رواية القوى.
ونحن نرجح ما راه ابن كثير من أن ذلك بعد وفاة أبى طالب، وإن كتب السيرة والأحاديث التى رويت بأسناد صحيحة لا تذكر زمان الوقائع، ولكن تعنى بصدق الوقائع بروايتها عن ثقات أثبات، وإذا كان الزمان غير ثابت، فمن حق المؤرخ الفاحص أن يذكر الأحداث مرتبطة بما يناسبها، وهو الوقت الذى خلا فيه النبى صلى الله عليه وسلم من نصرة النسيب القريب الذى الهمه الله تعالى المحبة والذود عن نبيه، ولو كان فى أكثر حياته لم يعلن اتباع النبى صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قبضه الله تعالى إليه، كانت النصرة لله تعالى واحده الذى لم يضيع عبده ورسوله ساعة من زمان.
المهابة مع المحبة
287-
كانت حماية الله تعالى لرسالته التى بلغها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قد اقترنت بما أفاض الله عليه من مهابة كانت تظهر فى أوقاتها حيث كان الأذى يشتد، والاستهزاء يكثر، فيذكرهم الله تعالى بأنه لم يترك نبيه لسخريتهم واستهزائهم، فتظهر المهابة الرادعة القاطعة فى وسط سخريتهم، وتطاولهم على مقام النبوة.
ولنذكر فى ذلك واقعتين تبينت فيهما مهابة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم التى ألقاها الله تعالى عليه مع محبته ورحمته.
الأولى: قصة الأراشى، وخلاصتها كما روى محمد بن إسحاق بسنده عن عبد الملك بن أبى سفيان الثقفى قال: قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكة المكرمة، فابتاعها أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، فأقبل الأراش حتى وقف على نادى قريش، ورسول الله عليه الصلاة والسلام جالس فى ناحية المسجد فقال:
يا معشر قريش هل من رجل يعدينى على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب وابن سبيل، وقد غلبنى على حقي؟
فقال أهل المجلس: ترى ذلك. ويشيرون إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يهزؤن به لما يعلمون ما بينه وبين أبى جهل من العداوة. اذهب إليه فهو يعديك عليه.
فأقبل الأراشى، حتى وقف على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر ذلك. فقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه. فقال: من هذا؟ قال: محمد فاخرج، فخرج إليه، وما فى وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه، فقال له عليه الصلاة والسلام: أعط الرجل حقه. قال: لا تبرح حتى أعطيه الذى له،، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للرجل: ارحل لشأنك. فأقبل الأراشى حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، قد أخذت الذى لى.
جاؤا إلى الرجل الذى بعثوه معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب، والله ما هو أن ضرب عليه بابه، فخرج وما معه روحه، فقال: أعط هذا الرجل حقه، فقال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه.
لم يلبث أن جاء أبو جهل إلى المجلس، فقالوا: ويلك، والله ما رأينا مثل ما صنعت. فقال: ويحكم، والله ما هو أن ضرب على بابى، وسمعت صوته، فملئت رعبا، فخرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فو الله لئن أبيت لأكلنى» .
وإن هذه الواقعة تدل أولا على هيبة النبى صلى الله عليه وسلم يستعين بها إذا أراد فى إقامة حق وخفض باطل، ولا يستعين بها فى الدعوة إلى الله تعالى دائما، حتى يكون دائما رؤفا رحيما، والرأفة تلين
القلوب، والهيبة إذا استخدمت باستمرار أرهقتها، وأرهبتها، والرسالة تستدعى تأليف القلوب دائما واللين دائما، ولقد قال الله تعالى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «1» .
وتدل ثانيا: على أن أشد الناس سفها، وتهجما على الناس، واستهانة بحقوقهم، وهو فى وسط الجموع هو أشدهم خوفا، وهلعا وفزعا إذا انفرد فهو جبان رعديد، إذا لاقى خصمه وجها لوجه، وإنك لترى الذين يبالغون فى الإيذاء من الحكام وغيرهم أشدهم فزعا، إذا أحسوا بأنهم مرام مقصود، وانفردوا.
فالتهجم من فرط الاندفاع، وهو لا يتنافى مع الجبن، بل إنه يلازمه إذا لاقى الأقوياء.
هذه هى الواقعة الأولى التى أردناها. أما الواقعة الثانية: فهى ما رواه البيهقى بسنده عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت من قريش وما أصابت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوة؟ فقال: رأيتهم، وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم اباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب الهتنا، وصرنا معه على أمر عظيم.
قال: فبينما هم فى ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن. ثم مر بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها فى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم، فمضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها. فقال:«أتستمعون يا معشر قريش، أما والذى نفسى بيده، لقد جئتكم بالذبح» .
فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنه على رأسه طائر وقع، حتى إن أشدهم فيه قبل ذلك ليرفؤه، حتى إنه ليقول:«انصرف أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول»
انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر، وأنا معهم (أى عبد الله بن عمرو) قال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه.
فبينما هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا، وكذا، وكذا، لما كان يبلغهم من عيب الهتهم ودينهم، فيقول رسول الله
(1) سورة ال عمران: 159.