المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌زهده بعد البعثة: - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌زهده بعد البعثة:

149-

إن زهد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذى وصل إليه بفطرته السليمة فى وسط الجاهلية هو أعلى درجات الزهد، ولنستعرض بعض كلام الصوفية فى الزهد الصوفى لنتعرف مقام زهد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن ينزل كتاب يرشده ويهديه، لقد قال ابن عطاء الله السكندرى فى حكمه:«للزاهد فى الدنيا علامتان: علامة فى فقدها (أى أسباب الشهوات) وعلامة فى وجودها، فالعلامة التى فى وجودها الانصراف عنها، والعلامة التى فى فقدها وجود الراحة منها، فالإيثار شكر لنعمة الوجدان، ووجود الراحة منها شكر لنعمة الفقدان» .

وزهد محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، كان أعلى من إيثار غيره بها عند وجودها، والراحة من فقدها، لأنه كان زهد العامل للحصول على أسباب اللذائذ، فإذا حصل عليها لا يختص بها، بل يؤثر غيره بها، ولا يتأتى زهد فقدانها، لأنه لا ينتظرها وجودا وفقدا، ولكن يعمل لوجودها لينفق على الفقراء وليمتاع غيره، فهو زهد إيجابى عامل، كما نوهنا. فليس زهد الحرمان الذى جاء من فلسفة الهنود، ولكنه زهد الكاسب الذى يكسب لغيره.. ويبقى لنفسه القليل الذى يقيم أوده، ويمكنه من استمرار الكسب لغيره. ولقد رتب الإمام أحمد رضى الله تبارك وتعالى عنه مراتب الزهد أدنى مراتبه ترك الحرام، والمرتبة الثانية ترك فضول الحل، بل يفطم نفسه عن بعضه، فهو يمنع عن نفسه بعض الحلال من غير تحريم، ولكن ليعودها احتمال الحرمان إن لم يجد بعض الحلال، فهو تهذييب وتربية، والمرتبة الثالثة وهى العليا ألّا يشغل نفسه عن ذكر الله تعالى بالاشتغال بالدنيا، واستغراقها لنفسه، وهو زهد العارفين.

ومحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان زهده أعلى من ذلك، لأنه كان مشغولا بذكره دائما فى كل عمل يعمله، وكل عبادة يؤديها، وكل فكرة يتفكر بها، وما كان يعمل لتعود ثمرة عمله على نفسه، بل لتعود على نفع غيره، فهو العابد فى كل حياته، ولا يعمل إلا الله، وإذا كان شغل النفس بذكر الله تعالى هو زهد العارفين، فزهد محمد صلى الله عليه وسلم أعلى منه.

‌زهده بعد البعثة:

150-

كان زهد محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم امتدادا لزهده قبل البعثة، ولكنه بعد البعثة أخذ صورة أجل وأعظم، لأنه حمل أعباء الرسالة، فكان زهدا فى الاستعلاء بالسلطان، وزهدا معروفا عند كافة المؤمنين، ليكون أسوة حسنة فيما يطيقونه من زهده عليه الصلاة والسلام، وكان زهد العامل الذى يعمل فى كل ميادين الحياة، لا زهد من يعكف فى الصوامع، وكان يبث ذلك فى المؤمنين ويدعو إليه.

ص: 210

ولعل أظهر مظهر للزهد رفضه أن يكون ملكا كداود وسليمان وبعض الأنبياء، فقد روى ابن عباس أن الله تعالى أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل، فقال الملك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:«إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا» فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «بل أكون عبدا نبيا» (رواه البخارى) .

وكانت أوامر القران تدعو إلى الزهد فى الحرام ومنعه عن أمته كلها، ولكن الخطاب كان موجها ابتداء إليه عليه الصلاة والسلام، ولقد جاء فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير:

«قال الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى «1» ، وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً «2» وقال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ «3» وقال تعالى:

وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» والايات كثيرة.» . «5» .

وإن هذه النصوص كلها الخطاب فيها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه موجه إلى كل المؤمنين، ولا يختص به واحده، وهو يدل على أمرين: أولهما: الامتناع عن الحرام، وهذا زهد العوام ولذلك طولب به الناس جميعا. وثانيهما: أن الامتناع عن الحرام لا يكون بمجرد الامتناع المادى الواقعي، بل إنه لابد من البعد النفسى وتجنب أسبابه، ولذلك كان النهى متجها إلى الأسباب النفسية، فقال تعالت كلماته: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وكأن الدعوة إلى ملازمة الذين ينصرفون عن الشهوات إلى الله سبحانه وتعالى والاتجاه إليه، وألا يخالط الذين يجترحون الشهوات، فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فعشرة الذين يتجهون إلى الله تعالى فى غدوهم ورواحهم، وفى غدوتهم وعشيتهم تربى فى النفس معنى الاستبعاد عن الحرام والاتجاه إليه سبحانه وتعالى.

وإننا نجد زهد محمد عليه الصلاة والسلام يشتد كلما تمكن من المال، وكلما اتسع سلطانه، وكلما كثرت تكليفاته وكلما أقدم على الشدائد، لأنه يرى أن تحمل مصائب الحرب وشدائدها إنما يكون ابتداء بتربية للنفس وحملها على ترك اللذائذ، أو القدرة على تركها، وما كان يدعو أمته بذلك

(1) سورة طه: 131.

(2)

سورة الكهف: 28.

(3)

سورة النجم: 29، 30.

(4)

سورة الحجر: 87، 88.

(5)

البداية والنهاية ج 6 ص 48.

ص: 211

بلسان القول، بل كان يدعو بلسان الفعل، ولسان الفعل فى هذه الحال أجدى فإنه لا يصح أن تكون الدعوة إلى التقشف اتية ممن يرفل فى الدمقس والحرير، إذ تكون حاله مناقضة لمقاله، فلا يسمع له قول، ولا يقبل منه كلام.

151-

إن النبى عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة كان يحمل كل ضعفاء المؤمنين، فما يكون له من كسب من تجارته فى مال أم المؤمنين خديجة ينفقه على الضعفاء من المؤمنين، وهم أول من اتبع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد امتنع المشركون عن إطعام الضعفاء وخصوصا الذين يؤمنون، بل أرهقوهم عذابا وعسفا وهوانا، وكان يواسيهم بالعطاء وطلب الصبر، والفرج القريب إن شاء الله تعالى، لا يألو جهدا إلا بذله، وهو يكتفى بالقليل من العيش الذى يقيم أوده، ليتحمل عبء الدعوة، والقيام بحقها.

ولما هاجر إلى المدينة، وانشغل بالإسلام عن التجارة التى كانت المرتزق له، ويظهر من مجرى التاريخ أنه قد أنهاها قبل الهجرة، وربما يكون قد صفاها بعد وفاة أم المؤمنين خديجة رضى الله تبارك وتعالى عنها، وصار رزقه من بيت المال الذى يعمل فيه، إذ هو العامل الأول، وله الاستيلاء على خمس الغنائم بمقتضى الولاية العامة الإسلامية كما قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» .

عندما صارت نفقته من بيت المال، أو من الغنائم، وإنها لتكون بأشق جهد يبذله وأعظمه. علا زهده عليه الصلاة والسلام فى المال والعيش الرغيد، ولولا قيام الأود، وأنه لابد من لقيمات يقمن صلبه، لزهد حتى فى اللقمة القفار.

كان عليه الصلاة والسلام ينام على الحصير، حتى يؤثر فى بدنه الكريم، ويروى عن ابن مسعود أنه قال:«إنه عليه الصلاة والسلام نام على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه، وأقول ألا اذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك تنام عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: «مالى وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها» .

وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوسد بحشية من ليف، وراه عمر بن الخطاب، وهو على مثل هذه الحال، فبكي، فقال له النبى الزاهد: وما يبكيك؟ فقال عمر: ومالى لا أبكى، وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على هذه الحال التى أرى، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: يا عمر، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الاخرة، قال: بلى، قال: هو كذلك.

(1) سورة الأنفال: 41.

ص: 212