الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
234-
وإن هذا كله يدل على ثلاثة أمور:
أولها: الاستخفاء بالعبادة إلا ما كان من أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كان حريصا على أن يجهر بصلاته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن يجهر بالقران الكريم ما وسعه ذلك، غير ممتنع، ولا متردد، لأن الأمر جاء إليه بذلك، وهو يبلغ الرسالة، ويظهر إن المشركين، وإن كانوا يتضايقون من ذلك، لم يكونوا يمنعونه، وإن حاولوا المنع لم يجدوا مستجيبا لما يدعون، فكانوا يعمدون إلى الاستهزاء به انا وإيذائه انا، والإعراض عنه دائما، وفى كل وقت، لأنهم قد جعلوا فى قلوبهم وقرا، فلا يستمعون، وقد كان المشركون يشتدون فى أذاهم.
الأمر الثانى: أن الأذى الذى كانوا ينزلونه بالمؤمنين لم ينهنه من عزمهم، ولم يضعف أنفسهم، فهذا عبد الله بن مسعود يضربونه، فيستمر فى قراءته، وهم يستمرون فى ضربه حتى يبلغ ما شاء الله تعالى أن يبلغه، غير ملق اهتماما إلى ضربهم.
وإن حال الايذاء فى أثناء قراءته يصور حال المؤمنين مع إيذاء الكافرين، ومع الإيمان استمروا فى الإيذاء، واستمر الإسلام فى ازدياد.
الأمر الثالث: أن المشركين حين كانوا يسمعون القران الكريم من النبى صلى الله عليه وسلم يتميز غيظهم، وإن كان الغيظ ثابتا، إذ يتبعه إيذاء أحيانا، ولكنهم يتميزون غيظا عندما يسمعونه من غيره، لأنهم بذلك يعلمون سريان الدعوة، وزيادة الأتباع حينا بعد حين، فليس غيظهم فقط من سماع القران الكريم، بل إنه منه، ومن نمو عدد المستجيبين، فالأمر إذا كان يزيد ولو بقدر ضئيل يبشر أصحابه ببلوغ الغاية، وينذر أعداءه بالعاقبة المريرة.
إسلام حمزة
235-
ويلاحظ أن الأذى لم يمنع الاستجابة للدعوة، بل زيادتها، ومن المؤمنين الذين كان لهم فى الإسلام قدم ثابتة من كان الإيذاء هو السبب الواضح فى إسلامهم.
ولنذكر فى هذا المقام إسلام حمزة بن عبد المطلب، ولنذكر قصته كاملة كما رواها ابن إسحاق:
قال ابن إسحاق: «حدثنى رجل من أسلم كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند الصفا فاذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن تسمع ذلك
…
فلم يلبث أن أقبل حمزة متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه، ويخرج له، وكان إذا رجع من
قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالبيت، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف، وتحدث معهم، وكان أعز فتى فى قريش. وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة (التى سمعت سب أبى جهل) قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد انفا من أبى الحكم بن هشام، وجده هاهنا جالسا، فأذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامة. فخرج يسعى؛ ولم يقف على أحد عامدا لأبى جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد ذلك على إن استطعت، فقام رجال من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» «1» .
وفيما ذكره ابن إسحاق هنا ما يوهم بأنه أعلن إسلامه، وكان ذلك الإعلان هو دخوله فى الإيمان، ولكن ذكر فى البداية عن ابن إسحاق أيضا أن حمزة إذ أعلن ذلك أنه أتبع محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ما كان ينطق بها إلا عن حمية العصبية، ولكنه فكر بعد ذلك فى مخرج منها، أو سير فى طريق الإيمان، ولننقل لك حديثه فى نفسه كما جاء على لسانه، وكما نقل ابن إسحاق:
ويظهر من هذا الكلام، وما قبله أن حمزة رضى الله تبارك وتعالى عنه كانت له نزعة دينية كانت على الباطل، ثم كانت على الحق. كان فى جاهليته، إذا جاء من صيده وقنصه لا يغشى ناديا إلا إذا طاف بالبيت، والمتدين فى طبعه إذا رأى وضح الحق سار فيه ولصدق إدراكه عندما أعلن الإسلام فى غضبة
(1) سيرة ابن هشام ج 1 س 292.
(2)
البداية ج 3 ص 33.