الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1» . ولقد قرر المفسرون أن هذه الايات نزلت فى المعراج، وإن ذلك لواضح، وإذا كانت العبارات السابقة لم تصرح بالعروج إلى السموات العلا فإن الإشارات واضحة تكاد تكون تصريحا، والإشارات الواضحة فى قوة الدلالة تكون كالألفاظ الصريحة.
وقد قال بعض علماء السيرة أن الإسراء بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ من شعب أبى طالب، وإن كان السند فى ذلك صحيحا، فإنه يشير إلى أن أبا طالب قد مات، وأن مهمته قد انتهت، وأن الله تعالى وهو الباقى الدائم. الأول الاخر والظاهر والباطن به تكون النصرة الدائمة المتجددة فى الشدائد ولكن الثابت فى البخارى أنه ابتدأ من الحطيم بالمسجد الحرام.
الإسراء بالجسم:
299-
إن ظاهر الاية القرانية التى أثبتت الإسراء وهى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن الإسراء كان بالجسد والروح، وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال أسرى بعبده، والعبد هو الروح والجسد، ومادام الظاهر لا دليل يناقضه من عقل أو نقل، فإنه يجب الأخذ به فإنه من المقررات أن الألفاظ تفسر بظاهرها إلا إذا لم يمكن حملها على الظاهر للمعارض، ولا معارض.
وفوق ذلك فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أعلن خبر الإسراء بين قريش ففتن بعض الذين أسلموا وارتد من ارتد، ويقول فى ذلك ابن كثير فيما رواه عن قتادة «انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، فأصبح يخبر قريشا بذلك، فذكر أنه كذبه أكثر الناس. وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق، وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال إنى لأصدقه فى خبر السماء بكرة وعشيا، أفلا أصدقه فى بيت المقدس، فيومئذ سمى أبو بكر الصديق.
وأنه روى أنه عند مروره صلى الله تعالى عليه وسلم على عير لقريش فند بعير لهم نافرا، فأرشدهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكانه، وقد أخبروا أهل مكة المكرمة بذلك «2» » .
وانه روى أن أهل مكة المكرمة الذين ردوا القول استوصفوه عيرا لهم فوصفها، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم فى إخبارهم، والاستدلال على صدقه:«واية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة «3» فند لهم بعير، فدللتهم عليه، وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت، حتى
(1) سورة النجم: 1- 18.
(2)
الروض الأنف ح 1 ص 244.
(3)
هى البراق الذى سنذكر الروايات عنه من بعد.
إذا كنت بضحنان مررت بعير بنى فلان، فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء، قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، واية ذلك أن عيرهم تصوب الان من ثنية التنعيم «1» البيضاء يقدمهم جبل أورق عليه غرارتان، إحداهما سوداء، والاخرى برقاء، فابتدر القوم الثنية..
وسألوهم عن الإناء وعن العير فأخبروهم، كما ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإن هذا كله يدل على أن الإسراء كان بالروح والجسد، فإنه تلاقى مع المارين بين مكة المكرمة والشام وأخبر عن التلاقى، وصدق خبره عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت بعض هذه الروايات فى إسنادها كلام، فإن بعضها يقوى الاخر، ونص القران الكريم ظاهر فى تأييد الدعوى، بل لا يدل على غيرها حتى يقوم الدليل.
ولو كان الإسراء بالروح أو الرؤيا الصادقة ما كانت ثمة غرابة تمنع التصديق، ولبادر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإخبارهم أن ذلك رؤيا فى المنام، أو هذا وحى أوحى به إليه.
ولقد كان بجوار هذا القول الذى تنطق به الاية الكريمة قول اخر، روى عن أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها الصديق رضى الله عنه، وروى أيضا عن معاوية بن أبى سفيان، وقد كان إبان ذلك هو وأبوه من المكاذبين الذين يناوئون الدعوة، ولكن لعله نقل عن غيره ممن شاهدوا، وعاينوا، كما نقلت عائشة عن غيرها، وما كانت فى ذلك الإبان قد زفت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد كان معاوية مسلما من بعد أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وعن أبيها الصديق، واحتج بقول عائشة هذا، وقد أثر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أمر بأن يؤخذ الدين عن عائشة.
ولكن الخبر عنها يحمل فى نفسه ما يوهم عدم صدقه عنها، ففيه: أنها قالت: «لم تفقد بدنه» وأن ذلك يوهم أنها كانت معه فى مبيت واحد، مع إجماع المؤرخين والمحدثين على أنه لم يبن بها إلا فى المدينة.
وقد استدل أصحاب هذا القول بما روى الحسن البصرى عن أن قول الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «2» وقالوا إن الرؤيا هى ما كان فى ليلة المعراج، والرؤيا هى ما يكون فى المنام، كما حكى عن سيدنا يعقوب: أنه قال لابنه يوسف بعد أن قص عليه ما راه فى المنام: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ.
(1) هو مكان فى مدخل مكة.
(2)
سورة الإسراء: 60.
وجاء فى كتاب البصائر للفيروزبادى: «الرؤيا ما رأيته فى منامك، والجمع رؤى كهدى، وقد تخفف الهمزة من الرؤيا، فيقال بالواو» «1» وهذا وغيره نصوص صريحة فى أن الرؤيا منامية.
ولكن أهى كانت فى الإسراء أم كانت فى المعراج؟ إن رواية الحسن رضى الله عنه تقول: هى ما كان فى ليلة المعراج، نعم أن الليلة كانت واحدة، ولكن النص على ليلة المعراج يدل على أن كلام الحسن ومن معه فى المعراج لا فى الإسراء.
ويستدل أصحاب هذا القول، وهو أن الإسراء كان بالروح بحديث البخارى عن أنس بن مالك قال: ليلة أسرى برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم فى المسجد الحرام. فقال أولهم أيهم هو، قال أوسطهم هذا، وهو خيرهم، فقال اخرهم:
خذوا خيرهم
…
فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، ولم يكلموه حتى احتملوا فوضعوه عند زمزم، فتولاه منهم جبريل
…
والحديث طويل وقال فى اخره واستيقظ وهو فى المسجد الحرام، ويرى صاحب الروض الأنف أنه نص لا إشكال فيه.
ونرى أن فيه إشكالا، لأنه نص فيه على أنه كان قبل أن يوحى إليه، ونرى أنه لم يتعرض لذكر الإسراء والمعراج، ولعلها كانت إذا صحت الرواية فى موضوع اخر.
ويرى صاحب الروض الأنف أن الأدلة قد تعارضت بالنسبة للإسراء وأنه يوفق بينها بأن الإسراء كان مرتين: إحداهما بالروح والاخرى بالجسد والروح.
ونحن نرى أن الأدلة لم تتعارض، بل الأدلة على أن الإسراء كان بالجسد والروح هى التى لا ريب فيها، ولا يمكن أن يعارض الضعيف القوى.
ولذا نرى أن الإسراء كان بالجسد والروح، ولا نجد فيما استدل به ما يدل على أنه كان بالروح فقط، وإن الاية: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ لا نرى أن موضوعها هو الإسراء، بل إن موضوعها هو المعراج.
ولا غرابة فى أن ينقل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى بيت المقدس وأن يعود به فى ليلة واحدة، فإن هذا ليس ببعيد على الله سبحانه وتعالى، لأن المسافات فى الزمان والمكان، إنما هى بالنسبة للعبيد، لا تكون قط بالنسبة لله سبحانه وتعالى وهو القادر على كل شيء، وهو خالق الأماكن والأزمان.
(1) بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز 3 ص 177.