الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة
266-
نعود إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لنرى جهاده بالمصابرة ولنرى ما تفعله قريش معه، ومع بنى هاشم الذين أبت مروءتهم أن يسلموا محمدا لقريش يؤذونه أو يقتلونه أو يحبسونه، وأبو طالب كبيرهم واقف كالطود يحمى محمدا صلى الله عليه وسلم، ويأبى أن يتركه، وخديجة فى البيت تواسيه، فيعود إليها مكدودا من قومه، ويخرج من عندها مجددا عزمه، وقد خلع وعثاء النضال ليجدد النضال، ويتقدم ثابت القدم قوى الإرادة، وقد تزود منها ومن عمه بزاد الإيناس بالتأييد: ومن الله تعالى بالنصرة.
وقريش قد بالغت فى الإيذاء ولكنها تحس بأن الأرض تميد من تحتها، وقد ازداد عنادها وازدادت لجاجتها وعنفوانها كلما رأوا دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم تجد مستجيبا، وخصوصا أن بعض الأقوياء ذوى الشكيمة قد دخلوا فى الدين الجديد، فقد دخل عمر فى السنة التى كانت فيها الهجرة إلى الحبشة.
وهم فى هذه الشديدة التى وضعوا أنفسهم فيها عدوانا وظلما أرادوا أن يسكتوا محمدا عليه الصلاة والسلام عن طريق عمه الذى لا يزال على دينهم وهو شيخ البطحاء، ولهم عليه حق الرعاية، كما لابن أخيه عليه حق الحماية.
لقاؤهم بأبى طالب:
287-
دبروا أمرهم، وجمعوا ممن لهم مكانة فيهم وفدا ذهب إلى أبى طالب بعد أن رأوا أنه لا يجيبهم فرادى فأرادوا أن يذهبوا إليه جماعة، والرسول سائر فى طريقه، لا يعوقه عائق من أذى أو استهزاء أو سفاهة حمقاهم، فهو ماض فى الطريق الذى رسمه الله تعالى له يدعو بالتى هي أحسن، من غير أن ينكص على عقبيه، لذلك تركوه مليا فلم يجادلوه، وإن كان الأذى مستمرا؟
ذهب وفدهم إلى أبى طالب، فقال قائلهم:
يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب الهتنا، وعاب ديننا، وسفه وضلل أحلامنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.
فقال لهم أبو طالب الكيس قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماض على ما هو عليه، ويظهر دين الله تعالى من غير مواناة ولا تقصير، والمسلمون يزيدون، ولا يقلون، والأمر قد خرج إلى القبائل وإلى الحبشة.
ازداد غيظهم، واشتد الأمر عليهم بسبب حقدهم، وتضاغنوا فيما بينهم، وتذمروا، وتحاضوا على وجوب إيذائهم، ورأى أهل الروية منهم أن يذهبوا إلى أبى طالب مرة أخرى، ولكن بوجه أعنف، وبلسان أجف.
اجتمعوا فقال قائلهم: «يا أبا طالب إن لك سنا ومنزلة وشرفا فينا، وإنا قد استأنيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر علي هذا من شتم ابائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب الهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك فى ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.
فى هذه المرة كان التهديد لأبى طالب بإعلان عداوتهم، وقد أزالوا كل الحجز فى القول، ولم يراعوا سنا ولا شيخوخة، ولا شرف منزلة كما ذكروا فى الأولى، ولا شك أن تغير لهجة القول كان له أثر فى نفس أبى طالب، وأحس بضيق فى الأمر، وإن لم يتبرم من حماية حبيبه ابن أخيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه أراد أن يعرض عليه ما أصابه من ضيق، ويشركه فى أمر قومه الذى تفاقم، فقال له: يابن أخى إن قومك قد جاؤنى، فقالوا كذا وكذا فأبق على وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر مالا أطيق.
لم تضعف عزيمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد من الله تعالى والذى لا يرجو النصرة إلا منه، وإن كان يرغب فى أن يشعر بأنه فى عزة من أهله، تألم، لا خوفا من الأذى، ولكن لظنه تخلف عمه الحبيب عن نصرته، وهو فى ميدان الجهاد والمناضلة إذ ظن أنه خاذله ومسلمه، وعلم أنه ضعف عن نصرته.
عندئذ قال مقالة أولى العزم من الرسل: «يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته» ثم استعبر فبكى ثم قام، وما كان استعباره ضعفا، ولكن لأنه يرجو من عمه وحبيبه ألا يسلمه ولا يخذله.
أدرك أبو طالب الكريم أنه أسرف على ابن أخيه فى ذكر ما كان من قول وفد قريش، وأنه كرثه بذلك. فلما ولى ناداه: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب العظيم:«اذهب يا ابن أخى، فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا» .
تواردت الأخبار على قريش، وعلموا أنه لا سبيل لأن يصلوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام ليقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه وأبو طالب مانعه، ولكن حيلتهم لم تنته، والرغبة ولو اثمة لا تسكت عند الصدام، ففكروا، وانتهوا إلى أمر غريب، وإن لم يكن ظاهر الغرابة عند العرب فى جاهليتهم.
ذلك أن التبنى بكل ضروبه كان أمرا معروفا عند العرب، أخذوه من جيرانهم الرومان، فكان من الممكن تبادل الأبناء، ويمكن تبادل الإخوة، وأبناء الإخوة فى نظرهم.
ذهبوا إلى أبى طالب يعرضون عليه أن يسلمهم ابن أخيه فى نظير أن يعطوه فتى من قريش يكون ابن أخيه بدل محمد عليه الصلاة والسلام، وكأن المحبة سلعة تقبل المبادلة، والانتقال من شخص ليحل محله شخص اخر.
قال قائلهم لأبى طالب الجليل: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى فى قريش، وأجمله، فخذه، فلك عقله ونصره «1» ، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى قد خالف دينك ودين ابائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، ونقتله، فإنما هو رجل برجل.
لا شك أنها فكرة سخيفة يعطيهم ابن أخيه ليقتلوه، ويأخذ ولدهم ليحميه، وقد سارع إليهم الرجل العظيم ليبدى سخفها.
قال لهم أبو طالب: والله لبئس ما تسوموننى، أتعطونى ابنكم أغذوه لكم. وأعطيكم ابن أخى لتقتلوه، هذا والله ما لا يكون أبدا.
قال المطعم بن عدى من بني عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجاهدوا على التخلص. فقال: أبو طالب للمطعم لائما أو عاتبا: يا مطعم، والله ما أنصفونى، ولكنك قد أجمعت خذلانى، ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك.
وإن القوم قد اشتدوا فى ذلك، وكما قال ابن كثير: حقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضا «2» .
268-
لقد صار أبو طالب فى أمر مرير، وشدة من قومه، وهو لا يريد أن يتخلى عن ابن أخيه مهما تكن الأحوال، ومهما تكن الشديدة، فشيخ البطحاء ابن عبد المطلب يتحمل كل شيء فى سبيل مروءته وهمته، وعزمته الهاشمية، ولقد أدنى ذلك مؤقتا أبا لهب إلى أخيه رحمة به وشفقة عليه، فغضب على قريش لأنها أحرجت شيخها، وجعلته من الأمر فى عسر، وخصوصا أنه أراد أن يجعل ابن أخته أبا سلمة فى جواره، كما أن محمدا فى حمايته، فقالوا: يا أبا طالب، أنت منعت ابن أخيك محمدا (عليه
(1) العقل دفع الدية أى يدفع عنك الدية، وتدفع عنه، وينصرك وتنصره.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 48