المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ويقول ابن كثير: «معلوم لكل ذى لب أن محمدا صلى - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ويقول ابن كثير: «معلوم لكل ذى لب أن محمدا صلى

ويقول ابن كثير: «معلوم لكل ذى لب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من أعقل خلق الله تعالي، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق فى نفس الأمر» «1» .

وإن مظاهر عقله بدت واضحة بعد البعثة فى سياسة رعيته، فقد كان الله يوحى إليه بالأحكام الشرعية، وما يجب من الرفق بالرعية، والأخذ على يد الظالم، وحماية الحق من الباطل، ويترك الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينفذ الحق فى رعيته، بالمسلك الذى يسلكه مختارا، مسددا، فإن تبين خطأ نبهه سبحانه وتعالى عليه إذا كان أمرا متصلا ببيان الشريعة وأحكامها.

وإنه فى الأمر الذى تركه سبحانه وتعالى له بدا عقل النبى عليه الصلاة والسلام فى إحكام التدبير وكياسة الحكيم.

اشتد أمر النفاق والمنافقين، وكثرت أضرارهم، فطلب عمر رضى الله تعالى عنه من محمد ابن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتلهم، فقال عليه الصلاة والسلام «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ثم اشتد النفاق، حتى هم أهل كل بيت فيه منافق أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: أين عمر، لو قتلتهم حين رأى قتلهم لأرعدت لهم أنوف هى اليوم تريد قتلهم.

فبهذا العقل الحكيم استقبل رسالة ربه، وبهذا العقل الحكيم أدار المدينة الفاضلة التى قامت على حكم الله تعالى وأمره ونهيه، ونفذت فيها النظم الاسلامية.

‌2- بلاغته

130-

كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرشيا قد نشأ فى قريش، وهى أفصح اللهجات العربية، وكان يحضر أسواق مكة فى موسم الحج، ويتذوق ما ينشد فيها من شعر، وقد تفصح فى بنى سعد بهوازن، وهوازن من أفصح العرب، فالتقى فى بيانه لغة العقل والحضارة النسبية فى مكة المكرمة، وسذاجة البداوة مع حلاوة اللفظ وسهولته فى لهجة أفصح أهل البادية.

ولذلك كان النبى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أفصح الناس منطقا، ينطق بالحكمة وفصل الخطاب، فهو إذا أرشد كانت ألفاظه كالجوهر تنثر بين الناس من غير بهرجة، وفيها جوامع الكلم وفصل الخطاب.

وإذا تحدث فى معاملات الناس وفى سمرهم الذى لا مجون فيه كان كلامه النمير العذب يسرى فى النفوس سريان النسيم العليل، والماء العذب، ينعش القلوب، ويروى ظمأ النفوس.

(1) البداية والنهاية ج 6 ص 65.

ص: 165

وقد وصفت حديثه أم معبد بعد البعثة فقالت: «إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن» .

هذا وصف لكلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن بعثه الله تعالي، وهو غاية ما كان منه قبل البعثة، فحال ما قبل البعثة ابتداء، وما بعدها هو الانتهاء، وهو اصطفاء الله تعالى ليكون موضع رسالته، ومبلغ وحيه، كان يجمع بين الإيجاز والوضوح، فألفاظه قليلة، ومعانيه كثيرة من غير تعقيد ولا اعظال، بل هو السهل الذى لا توعر فيه، ترى فى كلامه عليه الصلاة والسلام جمال الألفاظ من غير تكلف، وحلاوة اللفظ من غير تحسين ولا تزيين، فهو الجمال الطبعى الذى لا طراوة فيه، ولا جفوة، ولا خشونة.

وكان فيه معانى الإلهام، وجمله الله تعالى بالصفاء، لأنه خرج من نفس صافية، وقلب مفعم بالإيمان والصدق، فكان صافيا كنفسه، خاليا من الشوائب خلو نفسه منها.

وقد وصفه الجاحظ، فقال:«الكلام الذى قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصفة، ونزه عن التكلف، استعمل المبسوط فى موضع البسط، والمقصور فى موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذى ألقى الله تعالى المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإلهام، وقلة عدد الكلام، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبدأ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل ولا يهب، ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أتم نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح فى معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم» .

وإنه قد اجتمع له عليه الصلاة والسلام مع سلامة المعانى حسن اختيار الألفاظ المناسبة فى الحال المناسبة من غير أن يقرع الأسماع، بكلام له رنين، بل بكلام يدخل على القلوب فى أناة ورفق فينساب فيها انسياب النمير العذب، ويكون ثمة تناسق بين المعنى الكريم، واللفظ الجميل من غير إعنات للأفهام، ولا إرهاق للأسماع.

ص: 166

وكان فى منطقه حلاوة، فيخرج اللفظ من لسان واضح بين، تخرج الحروف من مخرجها، وتقع فى مواضعها، والسامع مشدوه من حلاوة الكلمة، وحلاوة اللفظ، والمعانى الأبكار، فى أسلوب لا توعر فيه، ولا تكلف. ولقد قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فى وصف كلامه «ما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسرد الكلام كسردكم هذا «1» . ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه» .

فكان كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم يكون بأناة، غير مندفع فى القول، ولا متابع له فى استعجال، حتى إن عائشة رضى الله تعالى عنها تروى أن حديثه لو عد السامع حروفه عدا لأحصاها.

وإن ذلك هو أفصح النطق، وأبلغ الإلقاء، ذلك لأن الإمهال فى القول يجعل السامع يتذوق جمال الألفاظ، ويتأمل المعاني، ويستحفظ ما قال القائل، ويتابعه فى أفكاره من غير إعنات لنفسه، ولا ملال، وإن الملل يعترى السامع، إذا فاته تتبع المعانى، وإدراك المرامى والغايات.

131-

ومنطق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان خاليا من الفأفأة والتمتمة، وكل عيوب الكلام فى صوت هاديء عميق يجمله الصدق ويدخله فى مداخل النفس، ويوجه الرشد إلى الحق، ونغمات صوته هادئه قوية فى صوت غير أجش، ولا جفوة، ولكن التقى فيه عمق النغم الفطرى بجمال الصوت، وجهارته فى غير ضجيج ولا صخب.

ولقد روى أن الحسن بن على أحد السبطين الكريمين قد سأل هند بن أبى هالة ربيب النبى عليه الصلاة والسلام من خديجة أم المؤمنين، وكان هند رجلا وصافا، سأله حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: قلت صف لى منطقه، قال:«كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، متواصل الأحزان، دائم الفكر ليس له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه «2» . ويتكلم بجوامع الكلم، فضلا، لا فضول فيه، ولا تقصير، دمثا ليس بالجافى ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، لم يكن يذم، ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض أحد للحق بشىء حتى ينتصر له، إذا أشار فبكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسري، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام» .

(1) السرد هو متابعة الكلام من غير تمهل، بل على الولاء والاستعجال فلا يعطى السامع فرصة تذوق الألفاظ والمعانى.

(2)

أى يستعمل جميع فمه عند الكلام، فلا يتكلم بطرف اللسان، بل يقبل على القول إقبال المهتم به.

ص: 167

وإنه مهما يقل الرواة فى بلاغة كلمه، وفصاحة لفظه وجمال نطقه، لا نصل إلى حقيقة بلاغته، فإن المأثور الذى نقرؤه، نجد فيه العلم المجتمع، والعبارات التى يستطيبها كل مستمع، يجد فيها نفاذ الإلهام، وتناسق الألفاظ، وترى فيه الحكم، وحسن المأخذ، والجمع بين الأطراف فى لين ويسر، فلا لفظ جاف، ولا معنى مستخف بل كل الكلام فى معناه وخواطره، وماخذه، يدخل إلى القلوب، فيجد مساكنه، وإن المستشهد بقوله يردده أمام العامة، فليقفونه، وأمام الخاصة فيهضمونه، يفهمه كل إنسان مهما تكن طاقته، لا يتخير غريبا لغرابته ولا لفظا لحلاوته، ولكن كل ذلك يجىء فى رفق، بل هى السليقة الكاملة تنطق، والفصاحة الفطرية تتكلم، وليس ذلك قولنا للمحبة فقط، ولكن للحقيقة وحق علينا أن نقول مقالة الجاحظ بعد وصف كلامه، وخشى على نفسه أن يقال أنه انبعث من المحبة، فقد قال: ولعل من لم يتسع فى العلم، ولم يعرف مقادير الكلام يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلا والذى حرم التزيد عند العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ظل سعيه.

كبرت كلمة من يقول أننا تجاوزنا الحد فى وصفنا لبلاغة خطاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال تحديثه، وبلوغه من البيان الإنسانى أعلى مراتبه الذى لا يبلغ شأوه أحد، بل هو الحق الذى لا امتراء فيه، إننا لم تتجاوز الحد، ولكن لم نبلغه ولم نصل إليه.

132-

وأنه من الحق علينا أن ننقل إلى القارئ ما قاله القاضى عياض فى وصف فصاحة محمد عليه الصلاة والسلام وبلاغته، فقد قال رضى الله تعالى عنه: «وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذى لا يجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها فى منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله

ومن تأمل حديثه وسيره علم ذلك وتحققه، وليس مع قريش والأنصار وأهل الحجاز، ونجد كلامه مع وطيفة الهندى وقطن بن حارثة العليمى والأشعث بن قيس، ووائل بن حجر الكندى وغيرهم من أقيال حمير، وملوك اليمن» «1» .

وإن هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم كل لهجات العرب، وقد أتاه ذلك من إقامته بمكة المكرمة التى كان يلتقى فيها بقبائل العرب، فى موسم الحج، مع حرص على تعرفها، وذكاء

(1) الشفاء ص 447.

ص: 168

مدرك لها، وتحصيل واع لكل ما يسمع، وحفظ لكل ما يجرى حوله. ولقد ذكر بعض الرواة أنه كان يعرف ألفاظا كثيرة من الفارسية، والرومانية، وإن لذلك شاهدا من كتبه للرومان، فقد جاء فى ذلك الكتاب:

«أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم البريسيين» ، وهذا لفظ رومانى استعمل فى معناه الدقيق، وهم العامة والزراع وغيرهم من الدهماء.

وإن تعلمه لهجات العرب وفوارق لغاتهم يدل على أن الله تعالى كان يعده لهذه الرسالة الإلهية العامة، ولقد ساق القاضى عياض شواهد من كتبه عليه الصلاة والسلام إلى همذان، ووائل بن حجر، ووازنها بكلام قريش فى الصدقات.

ثم يقول القاضى عياض فى الشفاء:

«وأما كلامه المعتاد وفصاحته المعلومة، وحكمه المأثورة، فقد ألفت فيها الكتب، ومنها ما لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة كقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» ، وقوله:«الناس كأسنان المشط» . «والمرء مع من أحب» . «ولا خير فى صحبة من لا يرى لك ما ترى له» ، «الناس معادن» «وما هلك امرؤ عرف قدره» . «والمستشار مؤتمن» .. «ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» وقوله «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» وقوله:«إن أحبكم إلى وأقربكم منى مجالس يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون» . وقوله: «ولعله كان لا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يبخل بما لا يغنيه» وقوله: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» ، ونهيه عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات» وقوله:«اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» ، و «خير الأمور أوسطها» ، وقوله:«أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما» وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ، وقوله فى بعض دعائه:«اللهم إنى أسألك رحمة من عندك تهدى بها قلبى وتجمع بها أمرى، وتلم بها شعثى، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدى، وتزكى بها عملي، وتلهمنى بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمنى بها من كل سوء، اللهم إنى أسألك الفوز عند القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء» . هذا ما روته الكافة عن الكافة من مقاماته ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته ومخاطباته» «1» .

ولقد ذكر من بعد ذلك القاضى عياض عهوده عليه الصلاة والسلام التى كان يعاهد بها القبائل، والهدنات التى يهادن بها، فإنها بلغت من إحكام المواثيق، ودقة الشروط ما لا يصل إليها تحرير كاتب، ولا توثيق معاقد، فإنها بلغت مرتبة لا يقاس عليها، ولا تحاكي، وسبق فيها سبقا بعيدا لا يقدر قدره.

(1) الشفاء ج 1 ص 46.

ص: 169

وذكر أن لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام عبارات لم يسبق بها، فقال رضى الله تعالى عنه:

وقد جمعت من كلماته التى لم يسبق إليها، ولا قدر أحد أن يفرغ فى قالبه عليها، كقوله:

حمى الوطيس، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، السعيد من وعظ بغيره» «1» .

وهكذا يثبت القاضى عياض فصاحة الكلم النبوي، والبلاغة المحمدية، بما ساق من عبارات جامعة، ومعان رائعة، وألفاظ ينبثق منها النور، وتضبط بها حقائق هذا الوجود.

133-

وإننا إن تركنا أقوال الذين شاهدوا وعاينوا من صحابته والذين رووا المنقول فى سيرته، وعمدنا إلى الأحاديث المدونة الصادقة النسبة، والتى رواها العدول طبقة بعد طبقة، وأردنا أن نتعرف نسق بيانه من عباراتها، ومحكم معانيها من ألفاظها، لو جدنا من بعض ما يتبين فى ذلك النسق:

(1)

أن اللفظ يجيء سهلا، نجد فيه الجمال الطبعي، نجد الألفاظ متناسقة يأخذ بعضها بحجز بعض، مع الإيجاز، وإحكام المعني، والاتجاه إلى مقصد القول، وتصوره، أحيانا بالحقيقة، ويكون لها جمال كجمال الطبيعة، اقرأ إن شئت قوله عليه الصلاة والسلام، فى الدعوة إلى القناعة، والرضا بالقليل، وعدم اللجاجة التى تؤذى. «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» وقوله فى الدعوة إلى ضبط النفس: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب» وهكذا التعبير السهل العميق فى معناه يسرى فى كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى كل توجيهاته، ولذلك سرعان ما تحفظ، فهو كلام يقال ليحفظ.

(ب) وإن من خصائص البلاغة النبوية أنها لا تعلو على العقول الفطرية، فهى تدركها فى أيسر كلفة مع جلال المعنى وعمقه وقوة نفوذه فى النفوس، والخاصة يجدون فيه علم ما لم يعلموا، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام فى بيان واحدة الأمة الإسلامية وما ينبغى لتعاونها:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وقوله: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» واقرأ قوله عليه الصلاة والسلام فى المعاهدات التى تعهد والنفوس على أحقادها ولا تستل منها سخائمها: «هدنة على دخن» فإن كل إنسان يفهم أن القلوب فاسدة، وأن الصلح الظاهرى لا يصيب الأحقاد التى طويت عليها القلوب. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام فى فضل العمل، وأن يكفى كل إنسان مئونة نفسه، ويستعد لمعونة غيره للاستعانة به «اليد العليا خير من

(1) الكتاب المذكور ص 46.

ص: 170

اليد السفلى» وقوله فى الأمر لا يختلف فيه «ولا ينطح فيه عنزان» وقوله عليه الصلاة والسلام فى توزيع خيرات الله تعالى فى أرض الله، كل أرض بحصتها من الرزق:«كل أرض بسمائها» وقوله فى الرفق بالنساء وقد سار السائق يسوق رحالهن بعنف: «رويدك رفقا بالقوارير» .

وإن هذه التعابير جلها جديد فى العربية لم يسبق بها فى قول قائل، وهى واضحة المعنى بينة المقصد، لا تعلو على العامة، ولا تجفو عنها اذان الخاصة، بل كل الناس يجد فيها علما لم يكونوا به عالمين.

(ج) أن كلامه عليه الصلاة والسلام من جوامع الكلم، فيه حكمة، وفيه ألفاظ قليلة ومعان جديدة لم تكن معروفة. انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل: أنحاسب على ما تنطق به ألسنتنا. فقد قال عليه الصلاة والسلام مجيبا، «وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» وقوله فى صلة الرحم عند المنابذة والقطيعة:«ليس الواصل بالمكافيء، إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة» ، ومثل قوله:«رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم» .

(د) وإنه من الظواهر العامة فى كلامه عليه الصلاة والسلام أنه يخاطب العقل والوجدان من غير استكراه للألفاظ أو تكلف فى المعاني، بل كل ذلك يجرى سهلا طيبا قيما. فيه إرشاد وتوجيه، اقرأ قوله عليه الصلاة والسلام يدعو المؤمنين إلى أن يكونوا إيجابيين فى أقوالهم وأفعالهم، لا يتبعون من غير تفكير:

«لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساؤا فتجنبوا الإساءة» .

(هـ) خلو كلامه عليه الصلاة والسلام من الصناعة البديعية، فهو بديع فى ذاته من غير صناعة، وقد يجيء أحيانا فى كلام الرسول بعض السجع، ولكنه سجع غير مقصود، بل هو من إحكام القول، فمثلا قوله عليه الصلاة والسلام:«رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم» لا شك أن فيه سجعا، أو ما يقرب منه، ولكن التكلف غير موجود، وإن كل لفظ منه موضوع فى معناه، لو أردت أن تغيره ما طاوعك المعني، فهل يمكن تغيير كلمة غنم مع ما فيها من ثروة فى المعانى بغيرها يؤدى مؤداها، ويكون فى إيجازها، ونسقها، وكذلك الأمر إذا أردت استبدال سلم مع ما يرمى إليه من سلامة العرض واللسان عن لغوه، وتوفير العقل، والابتعاد عن لجاجة القول، فهو عليه الصلاة والسلام، لا يقول إلا حكما، ولا ينطق إلا فصلا، وتلك غاية قوله، فإن كانت حلية، فهى الحلية التى لا تكلف فيها، ولا استكراه فى نسقها، أو محاولة الصناعة التى تغطى الكلام الفطري، وتغشاه بغواش من ضجيج الأوزان.

ص: 171

وإن الجمال الفطرى فى القول، والحسن اللفظى من غير تحسين، بل السجع الذى يكون كسجع الحمام. يأتى من غير إعمال ولا قصد إليه، حتى فى بيان الحقائق الشرعية، ودقيق المعانى الفقهية، ففى بيان الشروط الباطلة المقترنة بالعقود، وأساس البطلان فيها، يقول عليه الصلاة والسلام «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله. ما كان من شرط ليس فى كتاب الله تعالى فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله حق، وشرط الله تعالى أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» .

ألا ترى أنه كلام جميل جاء فى نسق محكم، والحسن فيه باد من غير تحسين، والجمال فيه بارز من غير تجميل، وهو مع كل هذا فقه عميق، يدرك مغزاه الفقهاء، ويعرف معناه من لم يبلغوا فى الفقه شأوا.

وإنه لواضح كل الوضوح أنه جاء عفو الخاطر، ولم يكن بإجهاد فكر، وتجميع ألفاظ وتنسيق كلمات، إنما كان المعنى الجيد القاصد فى اللفظ المحكم المصور الواضح.

(و) وإنه أحيانا يجيء كلامه القصصى الذى يحكى قصة فى أسلوب تصويري، تنطق فيه حقائق القصة وأبواب العبرة فى كلام مرسل سهل، يمكن القارىء أو السامع من أن يصل إلى غايتها، ويدرك معانى هدفها الصادق من غير إسراف فى اللفظ، ولا نقص فى الأداء، ولكن وفاء وكمال فى غير حشو، ولا لغو، وإليك قصة أصحاب الغار، كما روى البخارى وغيره: «بينما ثلاثة نفر يمشون فأخذهم المطر، فاووا إلى غار فى جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم. اللهم إنه كان لى والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولى صبية صغار أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدىّ فسقيتهما قبل بني، وإنه نأى بى ذات يوم الشجر، فلم ات حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقى الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمى، فلم يزل ذلك دأبى ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء.

ففرج الله منها فرجة، فرأوا منها السماء.

وقال الاخر اللهم إنه كانت لى ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبتها فأبت، حتى اتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت لها مائة دينار فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق

ص: 172

الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم.

وقال الثالث: اللهم إنى كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز «1» ، فلما قضى قال أعطنى حقي، فعرضت عليه فرقه، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه، حتى جمعت منه بقرا ورعاءها، فقال: اتق الله تعالي، ولا تظلمنى حقى. قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها، فخذها، فقال: أتهزأ بي، اتق الله ولا تستهزىء بى فقلت انى لا أستهزيء بك خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب.

فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي.

وإننا نقف عند القصة الصادقة، فإنا نجد العبارات السهلة المستقيمة، وبجوارها التصوير للأفعال التى تنبعث من القلوب، ويقصد بها فاعلها وجه الله تعالي، والحديث واضح فيه مع صدق القصة العبر والمعانى التى ذكرها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومنها يبرز:

أولا: أن الأعمال بالنيات، وأن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب من الأعمال، ولا يكون العمل طيبا إلا إذا قصد به وجه الله، وابتغاء ما عنده لا يريد جاها، ولا شرفا ولا مالا، إنما يريد الله تعالي، كما قال عليه الصلاة والسلام:«لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشئ، لا يحبه إلا الله» .

وثانيا: أن قدر الله تعالى يسير على نظام محكم فى عمله، وبحكمة بالغة يقدرها، وأنه سبحانه وتعالى ينزل الفرج، لمن يتجه إليه، وأنه يجيب دعوة المكروب، لخير قدمه، ولإخلاص قلبه، وابتغاء ما عند ربه، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «2» :

ويدل ثالثا: على أن الله سبحانه وتعالى يجازى المؤمن بالفعال التى يتجه فيها إلى العمل الإيجابى الذى ينفع الناس، وخصوصا الأقربين، كما رأيت فى الخبر الذى قدمه الرجل الأول، من إحسان إلى أبويه، وتقديمهما على أولاده الصبية الصغار، وتركهم يتضاغون، ولا يزعج أبويه، وأن ذلك الإيثار لأن الأولاد قطعة منه فتقديمهم تقديم لنفسه، فتقديمهم أثرة، وتقديم أبويه إيثار، فهو ممن ينطبق عليه قول الله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «3» .

(1) جاء فى القاموس المحيط: الفرق بسكون الراء وفتحها وفتح الفاء مكيال بالمدينة ثلاثة أوسق، ستة عشر رطلا، وجمعه فرقان، والخلاصة أنه وعاء لكيل الحب من أرز وغيره.

(2)

سورة الحشر: 96.

(3)

سورة الحشر: 9.

ص: 173