الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن إسناد الأمور لأسبابها لا يعد تبريرا لها، ولكن يكون تبيانا للوقائع، وإن الأسباب فى ذاتها إثم، والإثم لا يولد إلا إثما، واللجاجة لا تولد إلا فجورا واثاما.
لقد يعجب الناس كيف يمارى أولئك وفيهم عقل فى الواحدانية، ويجادلون فى الله تعالى وهم يعلمونه، وهو شديد المحال، كيف يقف أمثال الوليد بن المغيرة وهو من أذكياء العرب، والنضر بن الحارث موقف المعارضة، وفيهم إدراك سليم، ولكن عميت عليهم الأمور بسبب ما ذكرنا فكانوا فى حيرة بين ماض ألفوه، وألفوا معه الدعة والمال والجاه والسيطرة، وحاضر قد أدركوه، ورأوا نور الحق الذى ساروا فيه، ولكن ما أن يبرق عليهم نوره ويمشوا فيه، حتى تكون غاشية المال، وغاشية الجاه، وغاشية الاستعلاء، وغاشية التعصب القبلى المردى.
ومنهم من كان يرد النور إلى قلبه رويدا رويدا، فكان فى وسط ذلك الأتون من العداوة نور يهدى إلى التى هى أحسن، والله عليم بذات الصدور.
تلقى الناس للدعوة
229-
تلقى الناس فى مكة المكرمة دعوة النبى عليه الصلاة والسلام بعد أن أعلنها على الصفا، مخاطبا عشيرته الأقربين أولا، ثم مخاطبا العرب أجمعين ثانيا، حين صدع بأمر ربه، تلقوها مشدوهين لغرابة الجديد، فقسم صغى قلبه إليها، وأولئك السابقون الأولون الذين اصطفاهم الله تعالى لحمل دعوته، ومعاونة النبى عليه الصلاة والسلام فى تبليغ رسالته، ونشرها فى الأرض ومجاوزتها الأقطار من بعده.
وكان من هؤلاء الضعفاء الذين حرموا السلطان ومتعة الحياة، ورأوا فى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أملا مرجى فى الاخرة وإذ لم يكونوا فى حال مرضية البقاء، بل هى مرجوة الإنهاء، فأوجد فيها الإسلام الأمل فى إنهائها، فسارعوا إليها، وذاقوا العذاب فى سبيلها، فصبروا من غير انزعاج أو ارتداد، بل مضوا فى الطريق حاملين البؤس والبأساء، فى جلد وصبر وإيمان، وقد مكن الله تعالى لهم، ووفاهم صبرهم وإِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» .
والقسم الثانى أعلن العداوة للنبى منذ ابتدائها، وشنوا غارة على الذين يؤمنون، وعلى رأس هؤلاء أبو لهب عم النبى عليه الصلاة والسلام، ومن هؤلاء من ذهبت غلواؤهم فى العداوة، ولجاجتهم فى الخصومة إلى إيذاء المؤمنين، وتعذيب الضعفاء من العبيد والفقراء، ومن لا حول لهم ولا طول من عشيرة تحميهم، وعزة من النفر يدافعون عنهم، وكثير ممن دخلوا فى الإسلام كانوا على ذلك النحو، إذ لم يجدوا جوارا من أحد يدفع عنهم الأذى وعلى رأس المؤذين أبو جهل.
(1) سورة الزمر: 10.
والقسم الثالث وسط بين هؤلاء، فلم يعتنق الإسلام، ولم يكن من السابقين الأولين، بل وقف وقفة المنتظر، أو وقفة من رد الدعوة من غير معاداة، ولا مناوأة، وكان من هؤلاء أكثر بنى هاشم، وبعض بنى أمية، وبعض القرشيين، وكان فى كل عشيرة بعض من هؤلاء، كما كان فى كل عشيرة بعض ممن أسلم.
ومن هذا القسم من كان يشرح الله تعالى صدره للإسلام، فيدخل فى صفوف المسلمين مجاهدا صابرا، متحملا الأذى، وأقله السخرية والاستهزاء، فقد كان الإسلام ينمو من هؤلاء، بل إنه كان ينمو أيضا من المعذبين المؤذين، وحسبنا عمر بن الخطاب، كان من المؤذين، حتى هم فيما يقول الرواة بقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن تداركته رحمة الله تعالى، فشرح الله تعالى صدره للإسلام، فكان له عزا، وكتب الله تعالى الحق على قلبه ولسانه.
أخذ النبى عليه الصلاة والسلام يدعو، ولا ينى عن دعوته، ولا يلين ولا يخفف من دعوته الإعراض مهما يكن مقدار المعرضين ولا الأذى ينزل به وبكبراء صحابته، ولا الاضطهاد يشتد على ضعفاء أتباعه، ولكنه يأسى ويحزن على ما ينزل بهم ويواسيهم ويدعوهم إلى الصبر، ويصبر هو ليتأسوا به، ويعينهم بالمال إن احتاجوا، ويعينهم كبار الذين آمنوا على فك رقابهم.
وكلما ازداد عدد المؤمنين، ازداد الأذى وازدادت المعارضة، فإنه كلما قوى الحق ونما أهله، يئس المخالفون من أن يطفئوا نور الله تعالى الذى انبثق فى مكة المكرمة. ولكن بوادر اليأس كانت تزيده حجة ولجاجة فى الباطل، وكل يسير فى طريق التمسك بالباطل، ففريق الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سوط عذاب يستمرون فى غيهم يعمهون، والذين ارتضوا المعارضة من غير إيذاء، والمقاومة من غير إعنات لمن جاؤا بالدين الجديد، ساروا فى طريقهم ومنهاجهم، يدعون النبى عليه الصلاة والسلام لأن يكف عن دعوته، ويجادلونه، ويعرضون عليه ما يرونه مغريا بالإعراض عن دعوته، على حسب تفكيرهم، وعلى مقتضى ما يسول لهم شيطان المادة.
230-
ويذكر الأكثرون من الرواة أن النبى عليه الصلاة والسلام كان يلقى منهم مسالمة، ودفاعا عن عقائدهم بالتى هى أحسن، أو عدم اهتمام بعضهم بمقاومته عندما كان يدعو من غير أن يذكر الهتهم بسوء، أو يسفه أحلامهم، وأحلام ابائهم، فلما أخذ يسب الهتهم، ويسفه أحلامهم، انتقلوا إلى مقاومة عنيفة، أخذت صورة الإيذاء من بعضهم والاستنكار المرير من بعض اخر، ثم تطورت الأمور إلى العداوة والإغراء بالبغضاء وقطع الأرحام الموصولة.
وفى الحق أننا لا نرى فارقا زمنيا، بل نجد أن دعوة التوحيد وتحريم عبادة الأوثان، والإشراك بالله ابتدأت منذ جاء عليه الصلاة والسلام، ومنذ أعلن عشيرته باستنكار عبادة الأصنام، فقال عقب الإنذار بالبراءة منهم إن عصوا، فقال الله تعالي: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ «1» .
وجاء مثل ذلك عند الأمر بالجهر بالدعوة، وإعلان قريش خاصة والعرب عامة، إذ قال الله تعالى:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «2» .
وإذا كنا لا نجد فارقا زمنيا يحد ما بين الدعوتين، وإذا كانت الايات التى نزلت فى أول الدعوة بمكة المكرمة تتشابه فى معانيها من ناحية الأوثان مع الايات التى نزلت فى اخر مقامه عليه الصلاة والسلام بمكة المكرمة. فإن من الحق علينا أن نقول إننا لا نجد تفريقا بين حال لم تذكر فيها أوثانهم بسوء وحال قد ذكرت فيها بسوء.
وإن الذى نجده أو نظنه ظنا أن مقاومتهم ابتدأت بحال دهشة مما فوجئوا به، وتساؤل فيما بينهم، ما شأن هذا الذى جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وهم بين من علم أن محمدا عليه الصلاة والسلام دعا إلى هذه الدعوة، وبين متشكك فى نسبة القول إليه، وبينما هم يتسائلون كانت الدعوة تسرى فى الأوساط، وتجد لها من بينهم مصادقين ما بين سادة وعبيد، وأشراف وضعاف، فتنبهوا حينئذ للمقاومة، لأمر وجدوه جدا لا هزل فيه، وقويا لا ضعف يعتريه، وإذا كان الذين يتبعونه قليلا، فهم يزيدون وسيكونون كثيرا ولابد أن يأخذوا الأهبة لمدافعة هذا الواقع، وهو لا يزال نبتا، قبل أن يستغلظ سوقه.
231-
وعلى ذلك نقرر أن المقاومة كانت تتزايد فى الشدة كلما تزايدت الدعوة عموما، وتكاثر المستجيبون لها، فهم كلما رأوها تنمو ولو قليلا يحسون بالخطر شديدا، وكلما أحسوا بالخطر ازدادوا لجاجة وعنفا، لأنهم يرون الخطر على سيادتهم، ونظمهم الاجتماعية، والأرض تنهار من تحتهم شيئا فشيئا، فتزداد المقاومة بصورها المختلفة، وكل يعمل على شاكلته، وعلى الطريقة التى يرضاها خلقه، ففريق بالايذاء، وفريق بالاستهزاء، وفريق بالشكوى لأبى طالب حاميه، ويتلاقى الجميع على أمر يكون متلاقيا مع كل طبائعهم
…
هكذا.
(1) سورة الشعراء: 214- 217.
(2)
سورة الحجر: 94.