الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى جاء إلى دار أبى جهل، فطرق الباب طرقة من اعتزم أن يملى إرادته على هذا الطاغوت الفاجر.
قال: من هذا؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم ، فاخرج.
خرج إليه وما فى وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه.
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمة مرهبة لمثل أبى جهل: أعط هذا الرجل حقه.
قال الطاغوت المتخاذل: لا تبرح حتى أعطيه الذى له، فدخل فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه.
انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أحق الله الحق، بهيبة محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال للأراشى: الحق لشأنك. وأقبل الأراشى على المجلس الذى وقف يدعو ناديه لينصروه، فقال عن النبى عليه الصلاة والسلام: جزاه الله خيرا فقد أخذت الذى لى.
وقال الرجل الذى أرسلوه مراقبا للواقعة: «رأيت عجبا، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه» .
جاء أبو جهل فقالوا له: «ويلك مالك، فو الله ما رأينا مثل ما صنعت؟ فقال: ويحكم، والله ما إن طرق على بابى، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته وأنيابه لفحل قط، فو الله لو أبيت لأكلنى» .
لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:
258-
لقد كان المشركون يريدون بأذاهم المؤمنين، ويختصون من لهم حلم ومروءة، ولا عنف فيهم، ولا يتوقعون مقاومة كأبى بكر وعثمان وجعفر بن أبى طالب، وعلى رأس هؤلاء محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وينالون الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة يقاومون بها.
ولكن لم يعرف أنهم نالوا من عنده قوة بطش، ويذيقهم الكأس أكؤسا، فلم يعرف أنهم نالوا بالأذى حمزة بن عبد المطلب، لأنهم يتوقعون منه المقاومة، ولا يأمنون مغبتها، فقد علم ذلك أبو جهل اللئيم بموضعها من رأسه، ولم ينالوا بالأذى عمر بن الخطاب الذى شوه وجوههم، وأرغم معاطسهم، وطاح بهم مجتمعين، ولم ينالوه بالأذى لذلك، فقد كانوا يخافونه ويرهبونه.
وما كان محمد عليه الصلاة والسلام، دون عمر مهابة، بل أعلى من ذلك كثيرا، ولا دون حمزة قوة نفس، ولا قوة بدن ولكنهم نالوا منه، فلماذا لم يستخدم مهابته وقوة نفسه وشخصه، مثل ما أجازه
لعمر وعمه حمزة، إذن لارعوى مثل أبى جهل فى نذلته، ولكنه لم يفعل، وتحمل الأذى فى سبيل الدعوة ولم يرهب ولم يفرغ، بل رضى بالبلاء ينزل به وبأصحابه الضعفاء.
وإن ذلك هو عمل النبوة، إنه عليه الصلاة والسلام ما جاء مسيطرا، ولكن جاء مبلغا، وما جاء متحكما، ولكن جاء داعيا مقنعا، فلو استخدم هيبته وأظهر الرهبة لتبعه الناس خائفين غير مقتنعين بذات الحجة، ولبدا النفاق فى الذين يجيبون دعوته، وليس الدين بقائم على المنافقين غير المؤمنين.
إن الرسول الأمين يريد مؤمنين يدخلون فى الإسلام رغبا لا رهبا، ولا يكون عن خوف أيا كانت صورة الخوف. إن الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جاء ليحمله الذين شاهدوا وعاينوا إلى الأخلاف من بعده، لأنه دين الخليقة كلها لا دين جيل من أجيالها، فلابد أن يحمله مؤمنون لا مجرد تابعين. ولا يكون ذلك إلا إذا كان الإيمان القوى الذى يصبر صاحبه ويصابر فى حضرة النبى عليه الصلاة والسلام، وينزل به البلاء فى حضرته فيحس عليه الصلاة والسلام بقوة احتمالهم، ليطمئن من بعده بقوة التبليغ بالرسالة فى مشارق الأرض ومغاربها.
إن الذين يدخلون فى الإسلام بهيبة النبى عليه الصلاة والسلام سرعان ما يتركونه إذا غاب عنهم، واعتبر ذلك بحال المؤمنين فى المدينة فإنه لم يكن فيهم نفاق، حتى صار لأهل الايمان قوة يسيطرون بها، فكان النفاق، والذين دخلوا فى الإسلام تابعين غير مؤمنين إيمان الصابرين المصابرين.
وكان من المسلمين بالاتباع بالإيمان المجاهد الصابر، وكان منهم الأعراب الذين ساروا مع القوى، وقال فيهم الله تعالي: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» وهم الذين ارتدوا بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله تعالى أمر رسوله بالدعوة بالحكمة، فقال تعالي: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» وإن ذلك يقتضى أن يكون موطأ الكنف وديعا فى دعوته متطامنا لمن يخاطبهم، ليس فظا ولا غليظ القلب، ولا مرهبا ولا مفزعا.
وإن تطامن النبى عليه الصلاة والسلام كما جرأ عليه الأقوياء الذين يؤذون الحق إذا بدا وضحه المبين، قد قرب إليه الضعفاء وبهم كانت الدعوة الأولى وقوة الحق من غير سيطرة ولا تحكم.
وإن تطامن النبى عليه الصلاة والسلام والاعتداء عليه قرب بعض الأقوياء ولم يبعدهم. ألم تر أن كثيرين كانوا يسلمون لأنهم يرون أن محمدا عليه الصلاة والسلام بماضيه الكريم، وحاضره العظيم
(1) سورة التوبة: 97.
(2)
سورة النحل: 125.