الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد سلك بهم طريق الساحل، ولم يكن مألوفا فى الوصول إلى يثرب منه، ولنترك الكلمة لابن إسحاق فى سيرته يذكر الأماكن التى مر بها فهو يقول:
«لما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط (أريقط) سلك بهما أسفل مكة المكرمة، ثم مضى بهما (النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر) على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجار بهما حتى عارض بهما الطريق، بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخرار ثم سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة محاج «1» ، ويقال له مجاج، ثم سلك بهما مرجع مجاج، ثم تبطن بهما مرجع ذى العضوين، ثم بطن ذى كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما سلم، من بطن أعداد مدلجة تعهن (وزن فعلل) اسم عين ماء، ثم على العبابيد.. ثم أجاز بهما الفاحة» .
هذا هو البيان الذى ذكرت فيه أسماء الأماكن التى مر بها ذلك الركب المبارك، فما ذكر كله أسماء أماكن فى الصحراء العربية، وهى مجاهل فيها، ما كان ليعلمها إلا خبير بها، وهو ذلك الدليل الذى كان عليما بها، وكان أمينا على من معه مع بقائه على الشرك.
وهذا البيان يدل على مقدار صعوبة الرحلة، حتى أجهدت الرواحل، واضطر النبى صلى الله عليه وسلم إلي تغيير الراحلة.
أم معبد:
328-
هذا خبر عن امرأة نقية طاهرة مخلصة، التقى بها النبى صلى الله عليه وسلم فى القديد فى أثناء رحلته، وقد ظهر فى لقائه بها عليه الصلاة والسلام من خوارق العادات، مما يضاف إلى خارقة خروجه عليه الصلاة والسلام، وقد وضع الله تعالى على بصرهم غشاوة، فلم يروه، ويضاف نسج العنكبوت فى الغار، وإلى تعشيش الحمام عليه، وإلى غوص قوائم فرس سراقة، وعثرته عدة مرات.
(1) في معجم البلدان لياقوت (مجاج)
(2)
سيرة ابن هشام ج 1: 2 ص 491. 492.
فإن كل هذه خوارق عادات حسية، لا تقل عن معجزات موسى وعيسى الحسية، ولكن النبى صلى الله عليه وسلم لم يتحد قريشا بها، ولم يتحد الوجود الإنسانى بها، بل تحداه بالقران الكريم المعجزة الكبرى.
والخارق الذى بدا فى المرور على أم معبد، هو أن اللبن در من شاة عجفاء حائل لا لبن فيها، وسقى جميع الركب، وتكرر السقى، وشاركهم أهل المنزل الذى نزل فيه النبى صلى الله عليه وسلم، وإليك القصة كما رواها البيهقى بسنده عن أبى معبد الخزاعى:
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثى، فمروا بخيمتى أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة، تحتبى بفناء الخيمة فسألوها هل عندها لحم أو لبن، يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، وإذ القوم مرملون مسنتون (أى فى سنة جدب) .
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا شاة فى كسر خيمتها، فقال عليه الصلاة والسلام:«ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت: هى شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال عليه الصلاة والسلام: فهل بها من لبن؟ فقالت هى أجهد من ذلك. قال عليه الصلاة والسلام: تأذنين لى أن أحلبها؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله تعالي، ودعا بإناء لها يريض الرهط «1» ، فتفاجت واجترت فحلب منها ثجا حتى ملأه، وأرسله إليها، فسقاها، وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل «2» ، حتنى اذا أرووا شرب (أى عليه الصلاة والسلام اخرهم، وقال: ساقى القوم اخرهم، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء، فغادروه عندها، ثم ارتحلوا. فما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزات عجفا يتساوكن هزلا لا نقى بهن «3» ، فلما رأى اللبن عجب، وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة فى البيت، والشاة عازب؟ فقالت: لا، والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت، وكيت، فقال: صفيه، فو الله إنى لأراه صاحب قريش الذى تطلبه، فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة «4» ، قسيم وسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أكحل، أزج، أقرن (أى سيد) فى عنقه سطع، وفى لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار وإذا تكلم سما، وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم
(1) أى يشبع الجماعة، وتفاجت معناها فرجت بين رجليها.
(2)
النهل الشرب الأول، والعلل الشرب الثانى.
(3)
النقى: المخ.
(4)
التجلة: ضخامة البطن، والصعلة: صغر الرأس والوطف: كثرة الشعر.