الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان فى خلقه طيبة نفس، واطمئنان قلب، ورضا بما يجرى به القدر مع استعداد للفداء، إن كان ما يقتضيه، لم يتردد أن يقدم نفسه لأبيه ليوفى بنذره، فاستعد لأن يذبح، فكان الذبيح الثانى بعد جده العظيم إسماعيل، وإذا كان فداء إسماعيل بذبح عظيم كان من أمر الله تعالي، لأن الله تعالى اختبر إبراهيم بما رأى فى المنام، ومادام الاختبار، فالفداء يكون بأمر الله تعالى ونهيه. أما ذبح عبد الله، فكان بنذر من عبد المطلب، فكان الفداء برأى أهل مكة، فما كان من البشر يكون منهم، وما كان من الله تعالى، ف
الأم
ر إليه، وكان لجمال وجهه، ولطيب نفسه، موضع اجتذاب الناس، ومحبتهم، فلم يسلموه لأبيه، وقد أراد قتله، ونجوه من يد أبيه الشفيق الحازم المريد القوى فيما يريد، وإن كان شديدا عليه.
وكان موضع اجتذاب النساء لوسامته وجاذبيته، ولكنه كان العفيف الذى لا يريد إلا الحلال، ولا يبتعد عنه، وكأنه يبتعد عن الحرام مروءة، وكرامة نفس، لا لتنفيذ أوامر إلهية، بل أمر مروءته واحتفاظ كرامته يستجيب لهما، كأوامر المصادر الدينية.
تعرضت له امرأة، راقتها وسامته، وجذبتها طيبته، فأرادته لنفسها، وربما راودته عن نفسه، ولكنه العيوف الذى لا يشتار إلا عسلا يملكه حلالا نكاحا، ولا يريده نزوة أو سفاحا، فيردها الشاب القوى الذى لا يستهواه الهوى قائلا:
أما الحرام فالممات دونه
…
والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذى تبغينه
…
يحمى الكريم عرضه ودينه
صان الشاب نفسه، وصان أمانته، وصان خلقه وكرامته، فلم يتدل كما تدلى الشباب من قومه، لأنه أراد أن يعيش طاهرا كريما محبوبا، لينقل وديعة الله تعالى للإنسانية الذى ينقل رسالته سبحانه وتعالى إلى خلقه وذلك بزواج طاهر حلال.
الأم:
69-
كل فتاة فى قريش كانت تتمنى أن يكون الشاب عبد الله بن عبد المطلب شيبة الحمد أن يكون لها زوجا، وأن يكون لأولادها أبا، وقد قارب العشرين أو يزيد من عمره، عفيفا، لم يزن بريبة، ولم يعرف عنه نزوع إلى شر، بل كان ينزع إلى الخير، ولا يزيد، ولأبيه عليه حق الطاعة فى غير معصية، إذ كان له ملازما، لا يستطيع له فراقا، ولا خلافا. لأنه حب أبيه، وصفيه المختار.
وقد اختار أبوه له زوجا امنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أخى قصي، وابن كلاب، وكان أبوها سيد بنى زهرة، كما كان عبد المطلب سيد بنى قصي، ثم سيد مكة جميعها غير منازع، لأنه
محمود النقيبة حكيما بين قريش لا يطيش، ولا يجبن، ولا يرهق أحدا، فكان السيد المطاع فى غير جبر، ولا إعنات، ولا تضييق، ولقد التقى الشاب مع أبيه فى الإصهار إلى بنى وهب بن زهرة، إذ أن عبد المطلب كان قد تزوج هالة بنت وهب بنت عم امنة، واختار لابنه امنة. وهى بنت عم لزوجته التى أنجب منها حمزة بن عبد المطلب «1» الذى صار فى جهاده للإسلام سيد الشهداء، وصفية أم الزبير بن العوام حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك التقت فى حمزة بن عبد المطلب ثلاث صلات بالنبي، أولها أنه عمه، وثانيها أنه ابن بنت عم أمه، وثالثها أنه أخوه فى الرضاعة، وفوق ذلك أنه ثانى عميه اللذين تصديا للدفاع عن النبى عليه الصلاة والسلام فى مواجهة قريش فى مكة، ولكنه الثانى الذى دافع عنه لا بمقتضى حكم القرابة القريبة الوثيقة، بل بذلك وبحكم الإيمان بالرسالة المحمدية، والجهاد فى سبيل الله، فكان سيد الشهداء حقا.
وكذلك كانت صفية بنت عبد المطلب لها بالرسول قرابتان: قرابة العصب، وقرابة الرحم، فهى عمته أخت أبيه، وهى ابنة هالة بنت عم أمه، وكانت معه فى الرخاء وفى الكريهة، وفيها شجاعة ال عبد المطلب.
وبنو زهرة مع التقائهم فى نسب النبى فى جده كلاب كما سماه العرب، وحكيم كما سماه التاريخ لما فيه من حكمة، لم يكونوا مع بنى هاشم فى خلاف، ولا منافسة جرت إلى عداوة فى جاهلية أو إسلام، بل كانوا لهم معاونين ومناصرين وموادين، لا بقضاء يسيطر على نفوسهم، ولكن مودة تربط على قلوبهم.
ولقد قالوا فى الأخبار كان كلابا ممن يؤمن بأنه سيكون نبى من قريش، وكان يخطب قومه كل جمعة ينبههم بذلك «2» وإن صح ذلك الخبر فمؤداه أن كلابا هذا كان من أشد المستمسكين بإبراهيم، ونبى من بنى إسماعيل، ولا يمنعنا ذلك من أن نقول أنه تأشب إيمانه بالله تعالى بعض أثارة من الوثنية الجاهلية، فنحن لا ننفى هذا عن عقلاء العرب، وذوى الأخلاق والهمة فيهم كعبد المطلب، ومن بعده ابنه أبو طالب سيد مكة، وحامى الرسول، ومانعه من الأذى.
وامنة تلتقى مع النبى صلى الله عليه وسلم من جهة أمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى جد النبى صلى الله عليه وسلم.
(1) ابن كثير الجزء الثانى ص 251.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 254.
70-
وهنا يثور كلام يجيء فى أخبار عن عبد الله أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكانت له زوج غير امنة تزوجها قبلها أو بعدها وأن امنة إحدى اثنتين كانتا زوجين لعبد الله.
قال ابن إسحاق صاحب السيرة «فقد ذكر أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع امنة بنت وهب وقد عمل فى طين له وبه اثار من طين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به من أثر الطين فخرج من عندها فتوضأ، وغسل ما كان به من ذلك الطين» ، ثم خرج عامدا إلى امنة فمر بالمرأة فدعته إلى نفسها، فأبى عليها، وعمد إلى امنة فدخل عليها عليها وأصابها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم مر بامرأته تلك، فقال لها: هل لك؟ قالت، لا، مررت بي، وبين عينيك غرة بيضاء فدعوتك فأبيت على، وذهبت إلى امنة، فذهبت بها» «1» .
وإنا نرد ذلك الخبر، ونؤمن بأن عبد الله ما تزوج إلا امنة أم محمد خير الخلق والنور المنبثق فى هذا الوجود، وإنما نقرر ذلك:
أولا:: لأنه خبر انفرد بذكره ابن إسحاق، ولم ينقله، ولم يأت فى كتب السنة الصحاح، ولو كان عبد الله له زوج أخرى لاشتهر ذلك، ولذكر فى الأخبار، كما ذكر خبر زواج عبد المطلب المتعدد، وأولاده من كل زوجة تزوجها وبيان نسبها، ومن تنتمى إليهم، وما كان عبد الله أبو سيد الخلق بأقل شأنا من أن يعرف زواجه الأول والثانى، من عبد المطلب إن كان قد عدد الأزواج، وقد علا شرف عبد الله بأبوته لمحمد، فليس بأقل من أبيه الكريم، والسيد العظيم.
وثانيا: أن هذه الزوج المزعومة لم تذكر متى كان زواجها منه، وما أحوال ذلك الزواج لو كان حقا، وما الذى انتهى إليه، ولماذا تزوج أخرى فى هذه السن المبكرة؟
إن عدم ذكر شيء من هذا فى ذلك الخبر يجعله غير قابل للتصديق، وهو غريب فى ذاته.
وثالثا: أن المذكور فى السير أن المرأة المشار إليها كانت قد طلبت أن يصيبها، ولم تذكر زواجا، وأنه أجابها بالاستنكار، وقال البيتين المشهورين عنه اللذين يفيدان أنه لا يقبل إلا الحلال الذى يسوغه له عرضه وكرامته، وشرف أسرته، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
ورابعا: أن الخبر يحمل فى نفسه دليل بطلانه، لأنه يذكر أنه طلبها وهو مغبر بطين، فلم ترض، وكان المعقول وقد طلبها طلب الرجل لامرأته وأنها مانعته حتى يغتسل، وأنه اغتسل أن يذهب إليها،
(1) السيرة لابن هشام ج 1 ص 157 طبع الحلبى.