الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيطان، إن ضبط النفس أقوى مظاهر الصبر، والناظر إلى حياة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يراه منذ نشأته إلى بلوغه سن الشباب، إلى اكتمال رجولته يرى فيه إصرارا على خلق واحد، وعقيدة واحدة، يتزلزل كل شيء حوله، ولا يتزلزل، ولا يكون ذلك إلا من صبور.
لا تغريه جدة، ولا يجزعه فقر، لا يدفعه التكاثر حول تقديس الأوثان إلى الميل نحوها، ولا يحرضه التقليد للأقوياء على أن يخضع لصنم أو يقر له بسلطان، بل يدافع الاعتقاد فى الأصنام، يدافعه فى نفسه، ويدافعه فى مجتمعه، ويدافعه فى كل مظاهر حياته، غير متجانف لإثم، ولا راض عمن يخضعون به.
إن كل ذلك يحتاج إلى ضبط نفس، وضبط فكر، واستقامة نظر، وصبر عميق يتغلغل فى أطواء النفس، وثنايا الفؤاد، وكل هذا لا يكون إلا من صابر مصابر، يغالب الأحداث بالصبر، ويغالب الأعداء بعدم الفزع، إن الصبر أقسام يختلف كل قسم باختلاف موضوعه، والصدمات التى يلقاها الصبور.
[أقسام الصبر]
أولها- الصبر على النوازل
تنزل به، ومن نوازله نازلة الفقر، لا ترمض نفسه به، ولا يذل، ولا يخنع لذل الحاجة، بل يرضى بالقليل صابرا ساعيا جادا فى جلد ودأب حتى يمنعه الفقر من أن يتسرب لنفسه بالإحساس بالذل، أو بأن تذهب قوى النفس شعاعا من الاحتياج، وإن ذلك النوع من الصبر كان فى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فما ظهر منه ذل الاحتياج، بل كان حتى عندما تمد موائد الطعام، لا يكون أول من يمد ولا أكثر الغلمان تزاحما فيه، ولا تسابقا إليه، بل كان حريصا على ألا يفعل، ولو فاته الطعام.
القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها
.
وعلى دفع الخواطر الفاسدة، وعلى مقاومة ما تدعو إليه أحوال عبدة الأوثان لتحريم أمور حلال كتحريم السائبة والوصيلة والحامي، وكاستباحة المختنقة والموقوذة والنطيحة، وما كان منه شرب الخمر، وملاعبة بالميسر، واستقسام بالأزلام، فكل ذلك امتنع عنه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، قبل أن يبعثه الله تعالي، وذلك من تحصين نفسه بالصبر، وما منحه الله تعالى من قوة احتمال.
القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل
، وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم فى الحياة ليكون صبورا وشكورا.
أول ما أدرك الحياة مميزا ماتت أمه وحملته حاضنته الحبشية إلى جده، ثم لم يلبث أن فقد الجد، وقد بلغ سن التمييز الذى يعرف الحامي، وانتقل إلى بيت عمه، وكان محدود الرزق كثير العيال، فتعلم كيف يكون الصبر حيث التزاحم، فما كان يمد يده فى زحمة الغلمان على الطعام.
ثم كان الصابر فى رعى الغنم، ثم كان الصابر فى كسب القوت، وهكذا كان الصبر عدته التى يعدها لنوائب الدهر، وملمات الزمان، وأخذ يحمل واحده أعباء حياته جلدا صبورا.
وإذا كان قد صابر النوازل والقل واحتمل، فقد احتمل نعمة الكثر من المال كما احتمل القل، فلم يطغ إذ جاءه المال الموفور عندما اتجر فى مال خديجة التى صارت من بعد زوجه وأم المؤمنين، فاحتمل النعمة كما احتمل النقمة، وضبط نفسه فى نعمته؛ كما ضبطها فى نقمته، فلم يكن فى الأولى جازعا؛ ولم يكن فى الثانية فرحا فخورا. وقد بين الله تعالى فى كتابه أن الذى لا ييأس فى الحرمان؛ ولا يطغى عند الجدة هو المؤمن الصابر، فقد قال سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً؛ ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ «1» .
والصبر فى هذا المقام أجل أنواع الصبر، لأنه هو الذى يكون فى أعاظم الرجال الذين أوتوا القدرة على تحمل الأعباء. لا يأشرون ولا يبطرون فى سرائهم فيكونوا صابرين، ولا يجزعون ويهلعون فى شدائدهم فيذلوا.
وكذلك كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعثه الله تعالى نبيا، فكان مهيأ لأعظم رسالة فى الوجود.
157-
بهذا الخلق الصابر يختار الله تعالى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ليكون رسوله الذى يدعو الناس إلى التوحيد فى وسط قوم صلاب شداد غلاظ، فالدعوة فيهم تحتاج إلى عزم الأمور، والصبر من عزم الأمور، بل إن عزم الأمور يحتاج إلى صبر شاق مرير، لا يتحمله إلا أولو العزم من الرجال، وأولو العزم من الرسل، كما قال تعالى مخاطبا محمدا صلى الله عليه وسلم الصبور، والمكاره تحيط به إحاطة الدائرة بقطرها: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ «2» .
كان لابد بعد البعثة من أن يكون علاج الأمور كلها بالصبر، صبر على المشركين فى أوهامهم، وصبر عليهم فى دعوتهم منه إلى الحق، وقد أصروا على الباطل، وصبر على سفهائهم، وصبر على أذاهم المستمر، الذى أقدم عليه ذوو الحقد والعصبية، ولم يستنكره كبراؤهم، وصبر فى الدعوة إلى الإسلام، وما يكأد طريقها، ويعرقل سيرها. ولذلك جعل الله تعالى أقوى أوصاف المؤمنين الصبر. فقال تعالى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «3» .
(1) سورة هود: 9: 11.
(2)
سورة الأحقاف: 35.
(3)
سورة البقرة: 155، 156.
ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام الصابر حقا وصدقا ودعا إلى الصبر، فقد أثر عنه أنه قال:«ما من أحد تصيبه مصيبة، فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون؛ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون، اللهم أجرنى فى مصيبتى، وأخلف لى خيرا منها، إلا اجره الله تعالى فى مصيبته وأخلف له خيرا منها»
وإن فضيلة الصبر الجميل، وهو الصبر من غير تململ، بل فى ثبات جأش واطمئنان قلب وتحمل، هى قوة لصاحبه، فوق أن فيها تفويضا لله تعالى مع العمل من غير تخاذل، فالمفوض الصابر يؤمن بقدرة الله تعالى حق الإيمان، وأنه المغير، ولذلك طلب الرسول الصابر صلى الله عليه وسلم ممن يصاب أن يدعو الله تعالى، ويفوض إليه أمره، فإن ذلك يعطيه جلدا واحتمالا. ولقد قال ابن القيم فى علاج النفس بحملها على الصبر بالتفويض.
«وهذه الكلمة أى التى قالها محمد عليه الصلاة والسلام فى العلاج بالصبر، وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه فى عاجلته واجلته، فإنها تتضمن أمرين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته. أحدهما أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له منحة معارة فى زمن يسير، وأيضا فإنه أليس أوجده من عدمه حتى يكون ملكه حقيقة، ألا هو الذى يحفظه من الافات بعد وجوده، وألا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، وتصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقى
…
» .
والثانى: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله تعالى مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردا، كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما حوله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «1» .
(1) زاد المعاد فى هدى خير العباد والايات من سورة الحديد: 22، 23.
158-
كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام صبورا أبلغ ما يكون الصبور، فقد كان قبل البعثة الصابر فى المنشط والمكره، والصابر فى الفقر والغني، والصابر فى العجز والمقدرة، ثم كان بعد البعثة الصابر فى أداء الرسالة، وتبليغها والدعوة إليها، صابر المشركين عند الدعوة، صابر قومه الذين جفوه، ونكروه وهم يعرفونه، وكذبوه، وهو الصادق الأمين، ورموه بالسحر كذبا، والجنون افتراء، وقالوا ما قالوا فيه وفى رسالته، وقد وسع صبره كل افترائهم، فما وهن فى دعوته، ولا يئس من إجابته، وكان يرضى فى أن يصدع بأمر ربه وهو يصبر على إنكارهم من غير أن ييأس من إيمانهم، ويدعو عليهم، فلم يقل كما قال نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «1» بل قال:«إن قومى لا يعلمون» وقال: «إنى أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله» ، ولكل نبى من أنبياء الله تعالى فضل، وقد فضل بعض النبيين على بعض.
ولقد اذوه، واذوا أصحابه، وهو القادر على أن يقمعهم، أو يدعو عليهم بالمقت، ويسخط عليهم، وإنزال غضب الله تعالى عليهم، بل إنه كان يتلقى كل ذلك بالرجاء والاطمئنان إلى أنه مبلغ رسالة ربه، غير وان ولا مقصر، مدركا أن الله تعالى بالغ أمره، وأن العاقبة للمتقين.
كان طاغيتهم يلقى عليه فرث الجزور، وهو يصلي، فما يغضب، ولا يثور، لأن الغضب يفقد الحق قوته، والثورة تطيش حولها أحلام من يدعوهم، وهو حريص على أن يترك لهم حرية الاختيار، وتقدير الأمر فى أناة، وهدأة مدركة، والغضب يدفع إلى الملاحاة والمنازعة، وهو يريد أن ينزع من قلوبهم سخيمة الحقد الملاحي، بل يضع فى قلوبهم قوة الحقيقة تسرى فى قلوبهم، وتنساب فى نفوسهم، وهم مطمئنون من جانبه غير منزعجين.
يصبر عليه الصلاة والسلام صبر الطبيب يعالج المريض، وقد هاج هياجه، وأرغى زبده، فيأخذه فى حكمة، عالما أن المقاومة من المرض ذاته، وأن غايته معافاة المريض، فليصبر، حتى يصل إلى هذه الغاية غير منزعج، ولا مخاصم، ولا معاند.
ولقد صبر عليه الصلاة والسلام على استهزائهم وعلى سخريتهم، وهو اخذ نفسه بأنهم كلما سخروا منه زادت عنايته بالدعوة، وزادت قوته فى الاحتمال ورغبته فى المصابرة، غير متحمل ولا ييئس، فإن
(1) سورة نوح: 26، 27.
الصبر يبعد اليأس ويقرب الرجاء، ويهدى للتى هى أقوم، ويوقظ الضمائر إن كانت فيها قوة الحياة، وإن الصبر للذى تشمس نفسه يكون كالسقى والرعى يحيى ولا يميت، والملاحاة تشغل النفس عن الحق، وتوجب انحياز كل إلى جانبه، فلا يرى إلا ما عنده، ويعمى عما فى الجانب الاخر، فتكون النظرة الجانبية، والنظرة الجانبية لا تفيد صاحبها.
وصبر عليه الصلاة والسلام على الأذى ينزل بجسمه، وبأهله، ألم تره صبر على الحرمان هو وبنو هاشم عندما قاطعتهم قريش ثلاث سنين دأبا. لاقوا فيها العنف من قومهم، فما أسلموا محمدا عليه الصلاة والسلام لأعدائه.
فكان صبر محمد عليه الصلاة والسلام صبرين، صبر الداعى إلى الحق يحمل فى أثنائه ما يلاقى من جفوة قاطعة لما أمر الله تعالى به أن يوصل، وصبرا على أذى القريب الواصل الذى يرى أنه كان سببا فى أنه ذاق اله وأحبابه مرارة الحرمان والقطيعة.
وصبر عليه الصلاة والسلام يوم ذهب إلى ثقيف يطلب منهم الإيمان، فاذوه، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم يقذفونه بالحجارة حتى أسالوا دمه الكريم، وكان الصابر الكريم عندما عرض عليه جبريل أو ملك الجبال أن يطبق الأخشبين عليهم، فطلب من ربه أن يستأنى بهم، ويقرر فى اطمئنان الصابر أنه لا يبغى إلا رضاه، فيقول لربه: إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى.
159-
ولما رأى الأذى الشديد ينزل ببعض من أسلموا، أذن لهم فى الهجرة إلى الحبشة، وهو المقيم الصابر، لا يتخلى عن دعوته، ولا يفر ممن يدعوهم، بل يصابرهم، ويلقاهم بالرفق، ولطف المعاملة، وإن لم يقابلوه بمثلها، بل يجافونه ويعادونه.
وإذا كان قد خرج من مكة المكرمة مهاجرا، فليس ذلك لأجل الخوف، أو نفاد الصبر، بل لأن الدعوة استوجبت الهجرة بعد أن استمكن لها فى يثرب، وهو إذ يخرج كان صابرا، إذ أنه يخرج من مكة المكرمة، وهى أحب أرض الله إليه، ولولا أن أهلها لم يستجيبوا واذوه ما خرج منها، فكان الصابر فى خروجه، ولم يكن خروجه جزعا وفرارا.
ولما هاجر كان المجاهد الصبور، ولقد صابر وصبر فى ثلاثة ميادين من الجهاد.
صابر فى محاربة الأهواء والشهوات، وسمى ذلك الجهاد الأكبر، ودعا المؤمنين إلى متابعته فيه.
وصابر فى ميدان الحرب، فكان المجاهد الثابت الذى لا تزلزله قوة، ولا يذهب تفكيره شعاعا ولو تألب عليه العرب جميعا، كما فى غزوة الأحزاب، وقد جاء المشركون من الخارج واليهود من الداخل إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «1» ، ونجد النبى عليه الصلاة والسلام كان فى هذه المعركة، الصابر، المصابر، الذى لم يذهب ساعة من نهار الرجاء منه، وإن كانت الشديدة قد بلغت أقصاها. وصابر صلى الله عليه وسلم فى الداخل طوائف ثلاثا فأخذ بالرفق الضعفاء، فكان يبث فيهم روح الإيمان، وكان الضعف يبدو أحيانا منهم فى وقت يحتاج فيه إلى الجلد وقوة العزيمة، والثبات فى البأساء والضراء، وحين البأس.
وصابر المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويلقون باليأس والهزيمة، ويدعون إلى التردد فى صفوف المؤمنين، ويستجيب لهم بعض الضعفاء من المؤمنين، ويصبر عليه الصلاة والسلام على ما يثيرونه حول شخصه واله، كما خبوا ووضعوا فى الحديث الذى أشاعوه عن أم المؤمنين عائشة.
ويشير عمر بقتل كبيرهم، فيرده محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لا يريد أن يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ويستمر صابرا حتى ينهى الشر نفسه.
وكان اليهود فى المدينة، فكان يصابرهم حتى ينكشف فسادهم، فإذا انكشف أخذهم ببعض ذنوبهم صابرا مصابرا، وإن الصبر فى الشدائد هو صبر العافى المدرك بأن غايات الأمور لا تدرك إلا بالصبر المرير، وكان إذا ادلهم الأمر لا يجزع، ولا يفزع، بل يتأنى الأمور، ويصطبر لها، معالجا أمرها فى أناة وحكمة، ويقول عليه الصلاة والسلام:«إنما الصبر عند الصدمة الأولى» فإذا دهمه الأمر لا ينزعج ولا يضطرب، ولا يذهب لبه وتفكيره، بل يسيطر على نفسه، ويدبر الأمر من غير هلع ولا جزع، وكان يرى أن الصبر من الإيمان.
وإن الشدائد النفسية تحتاج إلى الصبر أكثر من الشدائد المادية، وانظر إلى موقفه الصابر عندما أشاعوا قالة السوء عن حبّه أم المؤمنين عائشة، فقد تلقى الخبر، وساوره الظن، وبدا فى بعض عمله، وفى ملامح وجهه، ولكنه كان المثل الكامل فى الثبات، وتقدير الأمر، ودعا بعض خاصته للاستشارة فى هذا الإفك، وليتعرف مقدار الحق فيه، فمنهم من نفى الوقوع وأكد النفى كعمر رضى الله عنه، ومنهم من دعا إلى التحرى بسؤال جاريتها وهو علي، وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى هدأة الصابر أن ذلك هو الأسلم والأحزم،
(1) سورة الأحزاب: 10.