الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
166-
هذه شجاعته عليه الصلاة والسلام فى الجهاد بالسيف، وقد ذكرنا شجاعته المعنوية فى السلم، وكيف كان لا يخشى فى الحق لومة لائم، ولا يلاحظ فى أفعاله البيئة وتقاليدها، ولو كانت مستنكرة، ولو كان منشأ هذه التقاليد أنهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، بل ما يكون معروفا يعرفه، وما يكون نكرا ينكره، وهو فى ذلك قبل البعثة وبعدها على حال واحدة، ولا يهاب الرجال، بل يهاب الله تعالى واحده، ويرفق بالرجال ما كان الرفق سبيلا للهداية، فهو الهادى المرشد الداعى إلى الحق فى كل أحواله.
وهو يستجيب لداعى النجدة. حيث تكون الاستجابة واجبة، والنجدة لازمة، وحيث يكون ملهوف يغاث، لقد فزع أهل المدينة وتصايحوا لمخوف ألم، فانطلق ناس قبل الصوت، يتعرفون مكان الاستغاثة، وكل يعتقد أنه الذى سبق، ولكنهم وجدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد سبقهم إلى الصوت، ولقوه قافلا وقد سبقهم، وقد سارع إلى الصوت على فرس لأبى طلحة ركبه النبى صلى الله عليه وسلم الشجاع القوى الأمين، والفرس عار، لا سرج عليه، وقد سبق عليه الصلاة والسلام والسيف فى عنقه، وقال لهم، وهو راجع: لن تراعوا» .
وهكذا كانت شجاعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كاملة فى كل ضروب الشجاعة.
وإذا كان الحق يتكلم، ولا يجمجم، وفى الميدان يتقدم كل الصفوف، ولا يحجم، وفى النجدة هو السباق إلى مواطن الإغاثة فهو فى كل أحواله الشجاع، ولكن فى غير خيلاء، ولا مفاخرة، ولا استعلاء، بل هو فى هذه الداعى إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
وقد روى عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «فضلت الناس بشدة البطش» والمراد البطش بالظالم، وأخذه بالقوة بعد ألا تجدى الموعظة، ويخرج من طور الجاحد، المجرد إلى طور المعتدى الأثيم، الذى يحاول أن يفتن الناس فى دينهم والفتنة أشد من القتل.
الرجل
167-
إن سمات الرجال الخلقية والعقلية ينبيء عنها أو توميء إليها صفاتهم الجسمية، فأولئك الشواذ فى تكوينهم النفسى أو العقلى يبدو شذوذهم فى أجسامهم بضمور واضح مثلا فى عضلات الوجوه، أو اعوجاج فى بعض أجزاء جسومهم، واضطراب فى عيونهم، أو انحراف فى بعض الملامح، وإن ذلك يتضح كاملا، لأهل العلم بالأعصاب، والنفوس، والمتتبعين للمرضى من الشواذ.
وإن اعتدال الجسم، وتناسب أجزائه يدل فى الجملة على استقامة العقول والنفوس، وإن المزاج النفسى يصحبه غالبا مزاج جسمى كامل، متناسق فى تركيبه الظاهر والداخل. فالعناصر المؤثره كلها متناسقة منسجمة انسجاما لا شذوذ فيه، ويكون معه انسجام نفسى كامل، وعقل كامل وخلق كامل.
ولقد وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم النبيين فى حديث المعراج بما يدل على كمالهم الجسمى. وهو كمال فيه جمال. لا يكون ما يسوغ النفرة منهم أبدا. فقد روى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى. فقال: «أما إبراهيم فلم أر رجلا قط أشبه بصاحبكم. ولا صاحبكم أشبه به منه. وأما موسى فرجل ادم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة «1» . وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل سبط الشعر. كثير خيلان الوجه، كأنه خرج من ديماس. تخال رأسه يقطر ماء. وليس به ماء، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود» .
وإن هذه الأوصاف لأولئك الأنبياء الثلاثة، وهم من أولى العزم من الرسل، تدل على كمال التناسق الجسمى فيهم مع اختلاف فى الأوصاف الجزئية. واتفاقهم فى أصل التنسيق، وقد روى الدارقطنى من حديث أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن النبى عليه الصلاة والسلام قال:«ما بعث الله تعالى نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت. وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا» (صلى الله تعالى عليه وسلم) .
لم يكن بدعا من الأنبياء أن يكون كل ما عليه محمد، صلى الله تعالى عليه وسلم من الخلق والتكوين مسترعيا للأنظار، هو جميل فى جسمه، كما هو جميل فى خلقه، وإنه عندما تحدى قريشا بالقران الكريم، وعاب الهتهم، وبين بطلان عبادتها، ورأوا أبا طالب عمه فكلموه. وهو يحميه دونهم.
أتوا بفتى نهد هو أجمل قريش فى زعمهم، ليكون ولدا لأبى طالب، ويسلم لهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ليقتلوه، فرفض تلك المساومة على ابن أخيه، وقال فى تهكم لاذع «تعطونى ولدكم أغذوه لكم، وأعطيكم ولدى تقتلونه» وهذا الخبر يدل على أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الكمال الجسمى، إذ سواه الله تعالى فأحسن خلقه.
ولا شك أن ذلك التناسق الجسمى له أثره فى الدعوة، والاستجابة لها إذ كان مصحوبا بإشراق روحي، وإنه مما يروى فى ذلك أنه بعد أن تجاوبت الدعوة المحمدية فى الأصداء، وعرفت فى أرجاء الجزيرة العربية، وشاع خبر المكاذبين وهم الكثرة، كالشأن فى كل دعوة جديدة تجيء على لسان رجل يأتيهم بجديد لم يألفوه، فى هذه الأثناء قابل أعرابى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فراعه منظره، وإشراق وجهه، وتلألؤ النور فى جبينه، فسأله: من أنت؟ فقال: محمد بن عبد الله- صلى الله عليه
(1) الضرب الخفيف اللحم، والجعد المنكسر الشعر، والأقنى المرتفع قصبة الأنف، وشنوءة من الأزد، والادم ذو الحمرة المشرب بسمرة.
وسلم- فقال الرجل فى إيمان مدرك: أأنت الذى تقول عنه قريش إنه كذاب!! فقال الرسول الكريم:
نعم. فقال الرجل: ليس هذا بوجه كذاب، ما الذى تدعو إليه؟ فذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقة الإسلام، فأعلن الأعرابى إيمانه.
ولقد أكثر الواصفون لتكوين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وجاء من طرق أنه كان فيه جمال يتلألأ وجهه إشراقا، ونختار من هذه الروايات وصفين جامعين: أحدهما وصف هند بن خديجة رضى الله تعالى عنه، وكان رجلا وصافا فيه دقة ملاحظة، وإدراك للصفات- وثانيهما- لأم معبد، ولنختر هذين الخبرين ففيهما الغناء.
168-
حديث هند بن أبى هالة ربيب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رواه الحسن بن على رضى الله عنهما، فقد قال الحسن أول سيدى شباب أهل الجنة:
سألت خالى هند بن أبى هالة عن حلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان وصافا، وأنا أرجو أن يصف لى شيئا منه أتعلق به، فقال:«كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر «1» أطول من الربوع «2» وأقصر من الشذب «3» ، عظيم الهامة، رجل «4» الشعر، إن انفرقت عقيقة «5» فرق، وإلا لا يجاوز شعره شحمة أذنه، ذا وفرة. أزهر «6» اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ فى غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى «7» العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع «8» الفم أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية فى صفاء الفضة معتدل الخلق باديا متماسكا، سواء البطن والصدر، فسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس أبذر المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجرى كالخط، عارى الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة شسن الكفين «9» والقدمين، سائل الأطراف سبط العضب خمصان «10»
(1) وخيلان جمع خال، وهو شام الوجه الذى يعطيه حسنا، فى الماء السائل.
(2)
أى أنه ربعة من الرجال أقرب إلى الطويل منه إلى القصير.
(3)
الشذب البائن الطول.
(4)
الشعر الرجل المرسل كأنه مشط.
(5)
العقيقة شعر الرأس.
(6)
الأزهر النير.
(7)
الأقنى السائل الأنف.
(8)
الضليع الواسع والمشنب رواق الأسنان، والمسربة، خيط الشعر بين الصدر والسرة، وسواء معناه سوى.
(9)
شسن الكفين والقدمين، أى أنهما ذواتا لحم، فليسا معروقين. والزندان عظما الذراعين، سائل الأطراف، أى أن أطرافه عليه الصلاة والسلام فخمة لا تعوج، بل إنها مستقيمة، ورحب الراحة أى واسع اليد.
(10)
خمصان الأخمصين: الأخمص وسط القدم الذى ينزل إلى الأرض، ولا تمسه، وخمصانهما أنه طويل، أى أنهما متباعدان.
الأخمصين، مسبح للقدمين، ينبو عنهما الماء. إذ زال تعلقا «1» ، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام» .
وإن هذا يدل على الجمال والكمال، جمال الرجولة، وكمال الإنسان، فكل ما فيه يسترعى الأنظار، ولا تنصرف عنه، ولذلك من لقيه ممن هو خالى الذهن، لا يتجه اليه بحقد أو حسد، أو ضغن يلتفت إليه، ويجد فيه مثلا كاملا للرجل، ومكانة عالية فى الخلق، والإشعار بالمودة، فهو لا يتقدم مباهيا، ولا يسبق معتزا، ولكن يسير وراءه متواضعا، متطامنا، ويلقى السلام على كل من يلقاه إشعارا له بالمودة والمحبة، حتى لا تسبق الجهامة، والمنافرة، فهو جميل التكوين والتنسيق فى جسمه مرضى اللقاء، بل محبوب اللقاء فى خلقه، وما قام بينه وبين أحد فى الجاهلية عداء، ولا كانت شحناء بينه وبين أحد منهم، ولا ملاحاة فى عصبية أو ما يشبهها من المشادات الجاهلية، بل كان الأليف المألوف، القريب إلى النفوس خصوصا النفوس المستقيمة التى لا التواء فيها ولا منافرة.
وذلك فوق ما خصه الله تعالى به من جاذبية شديدة تعلن الطيبة، وتكشف عن خبيئة نفسه الطاهرة المسالمة التى لا تنافر ولا تغاضب، ولا تصخب.
ولنقرأ وصفا، لامرأة مر عليها عابرا فى هجرته من مكة إلى المدينة، فقد قالت واصفة له. وقد سئلت عنه أم معبد:
لقد مر محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الديلمي، فسألوها هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القري، وكانوا ممحلين، فنظر عليه الصلاة والسلام إلى شاة فى كسر خيمتها فقال ما هذه الشاة يا أم معبد، فقالت: نحلها «2» الجهد، فقال عليه الصلاة والسلام أنأذنين لى أن أحلبها، فقالت إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا بالشاة فمسحها، وذكر اسم الله، فكان فى حلبه منها ما كفاهم أجمعين، ثم حلبها، وترك عندها إناءها ملان. فلما جاء بعلها استنكر اللبن، وقال: من أين لك هذا يا أم معبد، ولا حلوبة فى البيت والشاء عازب!!.
فقالت: لا، والله مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، فقال صفيه، فو الله إنى لأراه صاحب قريش الذى تطلب!!.
(1) التقلع، رفع الرجل بقوة، والتكفؤ، التزام طريقة الشئ، والقصد فيه، والهون الرفق.
(2)
المحل الجدب، ونحل يعنى ضعف وهزل.