الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا كان العم العظيم يحتاط للغيلة أن يصيبوا بها محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فينيمه فى منامته، متعرضا للغيلة بدله وهو الشيخ الفانى. ويغير مكان الرسول من وقت لاخر، فيجعل مكانه بعض بنيه هو أو إخوته أو بنى عمه من بنى المطلب أو غيره، وبدون ذلك كان يفى للعصبية، ولكنها الشفقة والمحبة والرأفة التى ألقاها الله تعالى فى قلب أبى طالب العظيم.
اشتد البلاء على المؤمنين، وبنى هاشم وبنى المطلب، حتى كان الأطفال يتضاغون من شدة الجوع، وقد كانت المقاطعة كما روى ابن إسحاق كاملة، فقد كانت تشمل المناكحة، لا ينكحونهم، ولا ينكحون منهم.
الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:
270-
مكث بنو هاشم وبنو المطلب وعلى رأسهم أبو طالب، والنبى عليه الصلاة والسلام معهم فى هذه القطيعة ثلاث سنين دأبا، وهم يرون صبيانهم يعضهم الجوع، ولكن الكبار لا يذهب بهم
الفزع، فيستجيروا لأنفسهم أو أن يسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فألقى الله تعالى بالصبر فى قلب المؤمن والكافر معا ولقد أظهر الله تعالى آياته فى أمرين:
أولهما: أن الأرضة جاءت وأكلت كل كلمة فيها اسم الله تعالى أو صفاته التى عاهدوا الله تعالى عليه أن تكون القطيعة دائمة، وكأن الله تعالى ألهم الأرضة أن تعلمهم أن اسم الله تعالى لا يصح أن يكون فى وثيقة ظلم وفسق عن أمر ربهم، وقد أطلع الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم الصادق المصدق على ما فعلته الأرضة بإلهام من رب العالمين، تعالت قدرته، وعظمت منته.
الأمر الثانى: أنه تشققت الرحمة من قلوب هؤلاء الذين تعاهدوا على الظلم والعدوان، كما تنفجر الأنهار من بعض الأحجار، فإنه على رأس السنين الثلاث التى مرت ببنى هاشم تلاوم رجال من بطون قريش، من بنى عبد مناف، وقصى، ورجال من قريش، قد ولدوا من نساء من بنى هاشم، رأوا أنهم قد قطعوا الرحم، واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم على نقض الصحيفة، والبراءة مما جاء فيها، وقيل أنها كانت معلقة بسقف البيت.
بينا هذا التفكير قد سيطر على الملأ من قريش ذهب أبو طالب إليهم يخبرهم بأن الأرضة أخلت من صحيفتهم اسم الله، وأبقت فيها الظلم والفسق الذى دونوه، وتعاهدوا عليه.
انطلق الرجل العظيم أبو طالب، ومعه العصبة من بنى عبد المطلب، فقال فى جمع حافل من قريش:
قد حدثت أمور بينكم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التى تعاهدتم عليها فعلّه أن يكون بيننا وبينكم صلح.
فطمعوا أن يسلم بنو هاشم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، فأتوا بالصحيفة معجبين بها، لا يشكون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سيدفع إليهم، فوضعوها بين أيديهم، وقال قائلهم:
قد ان لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا لهلكة قومكم.
فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخى أخبرنى، ولم يكذبنى أن الله بريء من هذه الصحيفة، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك غدركم، وقضيتكم إيانا، وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذى قال ابن أخى كما قال، فأفيقوا، فو الله لا نسلمه أبدا، حتى يموت من عندنا اخرنا، وإن كان الذى قاله باطلا رفعناه إليكم، فقتلتموه أو استحييتم.
قالوا: رضينا بالذى تقول. وكأنهم فهموا أن النتيجة أن يسلمهم لوثوقهم من صحيفتهم.
فتحوا الصحيفة فوجدوها كما قال الصادق المصدق، وسنبين بعض الصحيفة من البيان، ومن دعا إليه ولم يذعنوا للحق إذ جاءتهم بيناته، بل أصروا على الكفر والعناد، وقالوا مقالة الكفر، وقالوا إن هذا إلا سحر من صاحبكم، وارتكسوا، وعادوا بشر مما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فزادتهم الاية كفرا.
فقال قائل للنفر من بنى عبد المطلب الذين كانوا فى صحبة أبى طالب: إن غيرنا أولى بالكذب والسحر، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذى اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم، وهى فى أيديكم، طمس ما كان فيها من الحنث، وما كان من اسم الله، أفنحن السحرة أم أنتم؟
كانت كلمات أبى طالب ومن معه من أسرته ان لم تكن قد شقت قلوبهم لقبول الحق، فقد شقت صفوفهم التى كانت مجمعة بالباطل. فظهر النفر من بنى قصى وبنى عبد مناف، وغيرهما وكانوا قد تلاوموا من قبل على الصحيفة وأمرها، وفيهم من كانت الصحيفة عنده، وجاهروا بما فى نفوسهم وقالوا حاسمين قاطعين، غير مترددين، ولا ناكصين. قالوا فى حزم: نحن براء مما فى هذه الصحيفة.
وقال أبو جهل الخبيث فى ذات نفسه، والضال فى فكره وعقله: وهذا أمر قضى بليل «1» .
271-
كان النتيجة التى تستخلص من هذه القصة أن قريشا بلغت بهم لجاجة الكفر أن يحاولوا قتل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يندفعوا فى ذلك، لا ينظرون فيه إلى عاقبة من تصدى بنى هاشم لهم، للأخذ بثأره منهم، ولعله كان قد ابتدأ التفكير عندهم فى تفرق دمه فى القبائل، بحيث يضربونه ضربة رجل واحد، فلا يكون لبنى هاشم قبل بالثأر فيقبلوا وتتم الراحة لهم فى زعمهم، إذ يستأصلون الدعوة من جذورها، إذ يقتلون صاحبها، ومحمد صلى الله عليه وسلم يستقبل ذلك التدبير اللئيم استقبال من يستعين بالله، ولا يستعين بغيره.
ولكن عمه العظيم يحمل العبء، ويتحمل الأذى، ويحاول وقاء محمد عليه الصلاة والسلام بكل الأسباب، حتى أنه ينيمه فى مضجعه متحملا ما وراء ذلك ويستعد لفدائه بنفسه، وهو لا يزال على دينهم. ولم يخرج إلى الدين الجديد، وإن كان يظهر أنه فى دخيلة نفسه كان يعتقد صحته وقد بدا ذلك فى بعض شعره.
(1) أخذ ملخص القصة من كتاب سيرة بن هشام، ج 1 ومن كتاب البداية والنهاية ج 3 ص 84، 85 وما فيها.