الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين أبى طالب وأبى لهب:
218-
إن موقف أبى طالب لا يحتاج إلى تعليل، لأنه موقف الشفيق على من كفله ومن رباه، فقد كان كافله بعد جده عبد المطلب، واختاره عبد المطلب دون بقية بنيه، ولم يكن أسنهم، فكان يمنع النبى مستجيبا لداعى الشفقة والمحبة، ومستجيبا لوصية أبيه بأن يحفظه ويحوطه، فقام بحقها، حتى بعد أن صار محمد صلى الله عليه وسلم شابا سويا قويا، ووجد أن الحياطة تكبر بكبر الموصى به فتكون معاونة بعد أن كانت وصاية، وتكون مدافعة بعد أن كانت رعاية.
إنما الذى يحتاج إلى تعليل هو موقف أبى لهب، فما أعلن ما توجبه القرابة بل ما توجبه العصبية التى تجعله مع محمد صلى الله عليه وسلم عصبته وقريبه القريب، وأن عليه أن يحميه، لم يفعل ذلك، ولم يسكت مفوضا الأمر إلى أبى طالب أخيه، كما سكت حمزة والعباس، ولم يكونا قد دخلا فى الإسلام، لم يفعل ذلك أبو لهب.
ولعلنا لو أشرنا قليلا إلى طبيعته، وما أحيط به لسهل علينا تفسير موقفه، أو أدركنا فعله لهذا الموقف الذى عادى محمدا عليه الصلاة والسلام وخالف قرابته مسلمهم وكافرهم على سواء.
لقد كان عبد العزى (أبو لهب) طبيعة غير طبيعة إخوته، فإخوته يطلبون السيادة والشرف والعزة بالخلق العربى الصميم، وهو يطلب المال والدنيا، وفيه أثرة، وحب الذات، ومن يكون كذلك يميل دائما إلى الابتعاد عما يثير المتاعب، ويؤثر فى المال ويوجد اضطرابا، وبذكائه الشديد أدرك أن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام تقدمة لمتاعب لمن يعتنقها أو يحميها، فقاومها، وشدد فى المقاومة، وطبيعته المادية جعلته لا يفكر فى أى أمر معنوى، ولا فى رجاء لنصرتها، وطبيعة الأثرة فيه جعلته لا يفكر فى إحساس غيره، ولا فى معاونة من يحتاج إلى معاونة طويلة مديدة من أسرته.
وتلك الطبيعة التى لا تريد إلا استقرارا لأجل المال، وما يتصل به من متاع تكره تغيير ما كان عليه الاباء، بل ترغب فى أن تسير الحياة نمطية، لا تغيير فيها ولا اضطراب.
ولعل هذه الطبيعة هى التى جعلته لا يخرج مع قريش فى غزوة بدر الكبرى، وخرج العباس وإن كان كارها محرجا، وهناك عامل ثان، فوق ذلك العامل النفسى، وهو زوجه أم جميل الأموية أخت أبى سفيان، فقد كانت عاملا مذكيا لتلك الطبيعة المعاندة، كانت تكره رسول الله محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، وتكره زوجه أم المؤمنين خديجة، والتقى كرههما فى قرن واحد من يوم زواجهما الميمون الطاهر، ولا ندرى أكان الزواج هو السبب أم كان غيره.
وبهذه الكراهة كانت تحرضه، وتوججه إذ تصورت أن نيران العداوة قد تطفئها القرابة، وعلو شأن محمد صلى الله عليه وسلم فى دعوته وجهاده، وذكر اسمه فى كل بلدان العرب، وتجاوز ذلك إلى البلدان المصاقبة، كالرومان والشام ومصر.
ولقد كانت تتردد أخت أبى سفيان فى أن تقرض الشعر ذما للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتسميه مذمما ولا تسميه محمدا، فقد قالت فى ذلك:
مذمما قلينا ودينه أبينا وأمره عصينا
ولقد تلقى شعرها هذا بالاستضحاك، وعد ذلك ليس شتما له، لأنها لم تذكر اسمه فى شتمها، فقال عليه الصلاة والسلام:«انظروا كيف يصرف الله تعالى عنى شتمهم ولعنهم، ويشتمون مذمما، ويلعنون مذمما، وأنا محمد» ، وكان فيها مع ذلك صفة السفيهات من النساء، إنها كانت تمشى بالنميمة.
فتوقد نيران العداوة، وقد قال الله تبارك وتعالى فيها تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «1» .
هذا هو أبو لهب، وهذا هو السر فى عداوته للحق، ولمحمد عليه الصلاة والسلام مع قرب رحمه، ومع أنه سرّ لولادته وقت أن ولد.
219-
هذا أبو لهب، وذلك موقفه من دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم التى كرهته فيه بعد ود، أو إن شئت فقل محبته له فى صباه حتى بدا ما يتخالف فيه الطبعان، طبع العم المادى، وطبع ابن أخيه الروحى الذى لا يحرص على المال.
أما أبو طالب، فلم يكن عدوا لدعوة محمد عليه الصلاة والسلام، وعباراته توميء بأنه لا يعاندها، وما عند أبى لهب من صفات تناقضها، صفات أبى طالب توافقها فى أصلها، فأبو طالب لم يكن أثرا يحب المال، بل كان فيما يبدو من خلق يجعله يميل إلى الإيثار بالمحبة، فاثر التعب على الراحة فى مناصرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبينما أبو لهب يؤثر الدعة والاستقرار على أى صورة كانت، كان أبو طالب شيخ البطحاء لا يؤثر الدعة والاستقرار مع الضيم، بل يقاوم الضيم راضيا بملاقاة أسباب الإرغام بقلب صابر قوى.
(1) سورة المسد كلها.
وبينما كان أبو لهب محبا للمال مؤثرا له على كل شيء من أسباب الحياة الكريمة كان أبو طالب يكتفى من المال بالقليل من غير أن يبذل مروءته فى سبيل طلبه، فالمروءة عنده أولى بالطلب من الاستكثار من المال، ولذلك كان محدودا، ولم يكن مجدودا، ولكل هذا قبل أبو طالب أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام نصيرا، لأن الشفقة والمروءة، والمناصرة العربية الكريمة تقاضته، فاستجاب لسجيته له، وما وهن ولا استكان، ولا ولى، بل استمر مناصرا فى كل الشدائد، حتى قبضه الله تعالى.
وليست الغرابة فى نصرته للنبى عليه الصلاة والسلام، إنما الغرابة فى أنه لم يدخل فيما يدعو إليه!! ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «1» وقد ذكرنا من قبل أن ذلك دفع لوهم يقوله بعض الواهمين، إن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كانت عصبية جاهلية.
ولقد ذكر ابن كثير أنه لو أسلم كما كان يظهر من لحن قوله أنه يميل إلى الإسلام، إذ يقول:
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
لو أسلم لكان المشركون له أعداء كما عادوا محمدا عليه الصلاة والسلام، وقد كان عندهم من قبل ذلك الأمين المحبوب الذى يسمع قوله ويطمأن إلى حكمه، ولكن أراد الله تعالى أن يبقى على دين قومه، لكى يكون ردا للنبى وعضدا فى وسط المدلهمات، وقال ابن كثير فى ذلك:«وكان رسول الله أحب خلق الله تعالى إاليه (أى إلى أبى طالب) ، وكان يحنو عليه، ويحسن إليه، ويدافع عنه، ويحامى، ويخالف قومه فى ذلك مع أنه على دينهم، وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبيعيا لا شرعيا، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو أسلم أبو طالب، لما كان له عند مشركى قريش وجاهة، ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه، ولا جترؤا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وقد قسم خلقه أنواعا وأجناسا «2» .
220-
كانت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء سرية يدعو من يعرف من أصدقائه وأوليائه الذين كانوا كنفسه، ثم يدعو كل من ذاق بشاشة الإسلام وخالطت نفسه من أصدقائه وأحبابه، فكانت تصغى إاليه الأفئدة طالبة الحق، بقوة المحبة للخل الوفى، وللحق البدى، من دعوة علنية، ولكن الأمر النورانى لا يخفى طويلا، فعلم وإن كان فى أضيق دائرة.
وكان لابد أن يتولى النبى عليه الصلاة والسلام الإعلان، والجهر، وكما بدأ بدعوة أهل بيت النبوة، الذين أشرق الوحى عليه، وهو بينهم، فقد أخذ بأمر الله تعالى يعلنه بين ذوى قرابته يؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر.
(1) سورة يس 38.
(2)
البداية والنهاية ج 3 ص 41