الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث:
اختلف العلماء في إمكان رؤية الإنس للجن على مذهبين:
الأول: إمكان رؤية الإنس للجن.
وهذا مذهب أهل السنة (1)، إلا أنهم اختلفوا في تأويل الآية، والجمع بينها وبين الحديث، على أقوال:
الأول: أنَّ الآية محمولة على الأعم الأغلب، وليس المراد نفي رؤيتهم مطلقاً؛ حيث إنَّ الغالب هو عدم رؤيتهم من قِبَلِ الإنس، ولكن لا مانع من رؤيتهم في بعض الأحيان، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا رأي: الخطابي، والبغوي، والقاضي عياض، وأبي العباس القرطبي، والنووي، وابن رجب، والآلوسي. (2)
القول الثاني: أنَّ المراد في الآية نفي رؤيتنا لهم في الحال التي يروننا فيها، وليس في الآية ما يُفيد نفي رؤيتنا لهم مطلقاً؛ إذ المستفاد منها أنَّ رؤيتهم إيانا مُقيدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في وقت رؤيتهم لنا فقط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت. (3)
وهذا رأي: شيخ الإسلام ابن تيمية (4)، والكرماني (5)، وابن حجر الهيتمي (6)، والشوكاني.
(1) حكاه مذهب أهل السنة: العيني، في "عمدة القاري"(7/ 102)، والآلوسي، في "روح المعاني"
(8/ 481).
(2)
انظر على الترتيب: أعلام الحديث، للخطابي (1/ 400)، وشرح السنة، للبغوي (2/ 325)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (2/ 473)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 150)، وصحيح مسلم بشرح النووي (5/ 40)، وفتح الباري، لابن رجب (6/ 398)، وروح المعاني، للآلوسي (8/ 481).
(3)
انظر: عمدة القاري، للعيني (4/ 234).
(4)
مجموع الفتاوى (15/ 7)، والرد على المنطقيين (1/ 470).
(5)
نقله عنه العيني في عمدة القاري (4/ 234).
(6)
تحفة المحتاج (7/ 297).
قال الشوكاني: "وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أنَّ رؤية الشياطين غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها: أنه يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً؛ فإنَّ انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً". اهـ (1)
واعترض: بأنَّ في حديث أبي هريرة رؤية الاثنين، بعضهم لبعض، في آنٍ واحد، وليس فيه ما ذُكِرَ من التفصيل.
القول الثالث: أنَّ رؤيتهم على طبيعتهم وصورهم الأصلية التي خُلِقوا عليها ممتنعة؛ لظاهر الآية، لكن إذا تشكلوا في غير صورهم أمكن رؤيتهم، وعليه تُحمل الأحاديث والآثار الواردة في المسألة.
ذكر هذا القول: القاضي عياض (2).
وهو اختيار: الحافظ ابن حجر (3)، والعيني (4).
واعترض عليه النووي قائلاً: "هذه دعوى مجردة؛ فإن لم يصح لها مستند؛ فهي مردودة". (5)
القول الرابع: أنَّ رؤيتهم على صورهم التي خُلِقوا عليها هو مما اختص به الأنبياء عليهم السلام وهو من معجزاتهم، وعليه تحمل الآية، وأما سائر الناس فلا يمكنهم رؤيتهم إلا إذا تشكلوا في غير صورهم التي خُلقوا عليها.
وهذا رأي: ابن بطال، والنحاس (6)، وابن عاشور (7).
قال ابن بطال: "رؤيته صلى الله عليه وسلم للعفريت هو مما خُص به، كما خُص برؤية الملائكة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ جبريل عليه السلام له ستمائة جناح (8)، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم الشيطان في هذه الليلة، وأقدره الله عليه لتجسُّمِه؛ لأن الأجسام ممكن القدرة
(1) فتح القدير، للشوكاني (2/ 288).
(2)
إكمال المعلم (2/ 473).
(3)
فتح الباري (4/ 571).
(4)
عمدة القاري (12/ 148).
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي (5/ 40).
(6)
نقله عنه القرطبي في تفسيره (7/ 120).
(7)
التحرير والتنوير (9/ 79 - 80).
(8)
عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب بدء الخلق، حديث (3232)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (174).
عليها، ولكنه ألقى في روعه ما وُهِبَ سليمان عليه السلام فلم يُنفِذ ما قوي عليه من حبسه رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصاً على إجابة الله تعالى دعوته، وأما غير النبي من الناس فلا يمكن منه، ولا يرى أحدٌ الشيطانَ على صورته غيره صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية فقتله فمات الرجل به، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:"إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ"(1) ". اهـ (2)
القول الخامس: أنَّ رؤية الجن ممتنعة مطلقاً إلا لنبي، أو في زمن نبي.
وهذا رأي: ابن حزم، حيث قال عن الجن:"وهم يروننا ولا نراهم، قال الله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) .... ، وإذ أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم، فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم، كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال: فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان، ولولا ذلك لأصبح موثقاً يراه أهل المدينة، وكذلك في رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه للذي رأى (3)؛ أنها هي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية حتى بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي منقطعات، أو عمن لا خير فيه". اهـ (4)
ونُقِلَ عن الإمام الشافعي أنه قال: "من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلت شهادته؛ لأن الله عز وجل يقول: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، إلا أن يكون نبياً". (5)
القول السادس: أنَّ الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكر الشيطان وخفي حيله، وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب السلام، حديث (2236).
(2)
شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 109).
(3)
سيأتي تخريجه في الصفحة الآتية.
(4)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 179).
(5)
انظر: أحكام القرآن، للشافعي، ص (541).
ذكره الآلوسي في تفسيره احتمالاً آخر في الجمع (1)، ولا يخفى بعده، بل هو من التفسير الإشاري المخالف لظاهر القرآن الكريم.
أدلة هذا المذهب:
استدل القائلون بإمكان الرؤية - وهم أهل السنة - بأدلة منها:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الوارد في المسألة.
الدليل الثاني: قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان، وقد رآه أبو هريرة في صورة مسكين على هيئة إنسان (2)، وهذا يدل على أنَّ الشياطين والجن يتشكلون في غير صورهم.
الدليل الثالث: أنَّ الله تعالى نص في كتابه على عمل الجن لسليمان عليه السلام ومخاطبتهم له، في قوله تعالى:(قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)) [النمل: 39]، ومثل هذا لا يُنكر مع تصريح القرآن بذلك، وثبوت الأحاديث الصحيحة. (3)
المذهب الثاني: نفي إمكان رؤية الجن مطلقاً، لا لنبي، ولا لغيره.
وهذا مذهب المعتزلة (4)، وبعض الأشاعرة (5).
(1) روح المعاني (8/ 482).
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ".
أخرجه البخاري في صحيحه - تعليقاً - في كتاب بدء الخلق، حديث (3275).
ووقعت لمعاذ رضي الله عنه قصة شبيهة بهذه، أخرجها الحاكم في المستدرك (1/ 751)، والطبراني في الكبير (20/ 51)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 322):"رواه الطبراني عن شيخه يحيى بن عثمان بن صالح، وهو صدوق إن شاء الله - كما قال الذهبي- قال ابن أبي حاتم: وقد تكلموا فيه. وبقية رجاله وثقوا".
(3)
انظر: عمدة القاري، للعيني (7/ 102)، وروح المعاني، للآلوسي (8/ 481).
(4)
انظر نسبته للمعتزلة في: عمدة القاري، للعيني (7/ 102)، وروح المعاني، للآلوسي (8/ 481).
(5)
انظر نسبته للأشاعرة في: روح المعاني، للآلوسي (8/ 482).