الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حد عليها إذا كانت غير محصنة، وأمَّا منطوق الحديث فَيُوهِمُ مُعَارَضَة هذا المفهوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الأمة إذا زنت ولم تُحصِن؛ فأجاب: بأنَّ عليها الحد. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث:
أجمع العلماء على إعْمَالِ منطوق الآية؛ فإذا زَنَت الأَمَة المسلمة بعد زواجها فعليها نِصْفُ ما على الحرَّةِ المسلمة البِكْرِ من العذاب، وهو خمسون جلدة.
حكى الإجماع: ابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد الحفيد (2). (3)
ولم يأتِ في ذلك خلاف إلا ما نُقِلَ عن أبي ثور (4)
من إيجاب الرجم على الأَمَة إذا كانت محصنة; لعموم الأخبار فيه، ولأنَّه حَدٌّ لا يَتَبَعَّض، فوجب تكميله، كالقطع في السرقة. (5)
= والتعريف المشهور عند أهل الأصول: هو أنَّ المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.
والمفهوم قسمان:
1 -
مفهوم موافقة: وهو ما يكون فيه المسكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق، مع كون ذلك مفهوماً من لفظ المنطوق.
2 -
ومفهوم مخالفة: وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفاً لحكم المنطوق؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة"، فالمنطوق: السائمة، والمسكوت عنه: المعلوفة. والتقييد بالسوم يُفهم منه عدم الزكاة في المعلوفة.
ومفهوم المخالفة على ثمانية أقسام: منها مفهوم الشرط، ومن أمثلته الآية الكريمة التي في مسألتنا.
انظر: كشف الأسرار، للبخاري (2/ 253)، والبحر المحيط، للزركشي (5/ 124 - 134)، وشرح الكوكب المنير، للفتوحي، ص (448)، ومذكرة في أصول الفقه، للشنقيطي، ص (281 - 285).
(1)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: تفسير ابن جرير الطبري (4/ 23)، ومفاتيح الغيب، للرازي
(10/ 52)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (5/ 122)، وتفسير ابن كثير
(1/ 487)، وأضواء البيان، للشنقيطي (1/ 327).
(2)
هو: محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، الأندلسي، أبو الوليد، يُلقب بابن رشد الحفيد تمييزاً له عن جده أبي الوليد محمد بن أحمد، المتوفى سنة 520هـ، ويعد ابن رشد الحفيد فيلسوف وقته، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن أبي مروان بن حزبول، ثم أقبل على علوم الأوائل حتى صار يُضرب به المثل في ذلك. قال الأبار: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالاً وعلماً وفضلاً، يقال عنه: إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، ومال إلى علوم الحكماء فكانت له فيها الإمامة، وكان يُفزع إلى فُتياه في الطب كما يُفزع إلى فُتياه في الفقه، له من التصانيف "بداية المجتهد" في الفقه، و "الكليات"، وغيرهما. (ت: 595هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (21/ 307)، والأعلام، للزركلي
(5/ 318).
(3)
انظر: المحلى، لابن حزم (12/ 68)، والتمهيد، لابن عبد البر (9/ 98)، وبداية المجتهد، لابن رشد
(2/ 327).
(4)
هو: إبراهيم بن خالد، الإمام الحافظ الحجة المجتهد مفتي العراق، أبو ثور الكلبي البغدادي الفقيه، ويُكنى أيضاً أبا عبد الله، قال أبو حاتم بن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، صنَّف الكتب، وفرَّع على السنن، وذبَّ عنها، رحمه الله تعالى. وقال الخطيب: كان أبو ثور يتفقه أولاً بالرأي ويذهب إلى قول العراقيين حتى قدم الشافعي فاختلف إليه ورجع عن الرأي إلى الحديث.
(ت: 240هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (12/ 72).
(5)
انظر: الإشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر (3/ 34)، والمغني، لابن قدامة =
وقد أنكر العلماء عليه رأيه هذا، لمخالفته الإجماع. (1)
إلا أنَّ ابن المنذر نَقَلَ عنه أنه قال: "إنْ كان إجماع فالإجماع أولى". اهـ (2) وقد ثَبَتَ الإجماع، فصار أبو ثور موافقاً له.
واختلف العلماء في دفع التعارض بين مفهوم الآية، ومنطوق الحديث على مذاهب:
الأول: مذهب إعمال منطوق الآية والحديث، وإلغاء مفهومهما:
فإذا زَنَت الأَمَة المسلمة فعليها نصف ما على الحرَّة المسلمة البكر من العذاب، وهو خمسون جلدة، ويستوي في ذلك المُزَوّجة وغير المُزَوّجة.
وهذا مذهب الجمهور من العلماء، على اختلاف بينهم في التغريب هل يجري على الأَمَةِ أم لا. (3)
وأجاب أصحاب هذا المذهب عن مفهوم الآية:
بأنَّ قيد الإحصان في الآية إنما سِيقَ لرفع إيهام أنَّ على المحصنة الرجم، وعليه فلا دلالة لمفهوم الآية.
وممن قال بهذا الجواب: الطحاوي، والبيهقي، وأبو بكر الجصاص، والبغوي، والقاضي أبو يعلى (4)، وابن قدامة، والنووي، وأبو حيان، وابن القيم، والآلوسي، والشنقيطي. (5)
= (9/ 49)، وتفسير ابن كثير (1/ 489).
(1)
انظر: المحلى، لابن حزم (12/ 68)، والتمهيد، لابن عبد البر (9/ 98)، وبداية المجتهد، لابن رشد
(2/ 327).
(2)
الإشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر (3/ 34).
(3)
حكاه مذهب الجمهور: القاضي عياض في "إكمال المعلم"(5/ 537)، وابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح"(2/ 192)، والنووي في "شرح صحيح مسلم"(11/ 304).
(4)
هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادي، الحنبلي، ابن الفراء، أبو يعلى، القاضي، شيخ الحنابلة، كان عالم العراق في زمانه مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره، من مؤلفاته:(أحكام القرآن) و (العدة) وغيرها، مات سنة 458 هـ. انظر: تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (2/ 256)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي (18/ 89).
(5)
انظر على الترتيب: شرح مشكل الآثار، للطحاوي (9/ 356)، ومعرفة السنن والآثار، للبيهقي
(12/ 337)، وأحكام القرآن، للجصاص (2/ 212)، وتفسير البغوي (1/ 416)، وزاد المسير، لابن الجوزي (2/ 38)، والمغني، لابن قدامة (9/ 50)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (11/ 304)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (3/ 233)، وزاد المعاد، لابن القيم (5/ 44)، وروح المعاني، للآلوسي =
قال أبو بكر الجصاص: "فإنْ قيل: فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه؟ قيل له: لما كانت الحرَّة لا يجب عليها الرجم إلا أنْ تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإنْ أُحْصِنَّ بالإسلام وبالتزويج فليس عليهنَّ أكثر من نصف حدِّ الحرَّة، ولولا ذلك لكان يجوز أنْ يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه، فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم، وإذا كانت غير محصنة فنصف الحَدّ، فأزال الله تعالى تَوَهُّمَ من يَظنُّ ذلك، وأخبر أنَّه ليس عليها إلا نصف الحَدّ في جميع الأحوال، فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدِّها". اهـ (1)
وقال الشنقيطي: "والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة دفع تَوَهُّم أنها تُرجم كالحرة
…
، والظاهر أنَّ السَّائل ما سَأَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلا لأنَّه أشكل عليه مفهوم هذه الآية، فالحديث نصٌ في محل النزاع، ولو كان جلدُ غيرِ المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لَبَيَّنَه صلى الله عليه وسلم". اهـ (2)
إلا أنَّ الحافظ ابن كثير لم يرتضِ هذا الجواب؛ حيث يرى أنَّ تنصيف الحَدّ إنما استفدناه من الآية لا من سِواها، فكيف يُفهم منها التنصيف فيما عداها. (3)
واختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن مفهوم الحديث على أقوال:
الأول: أنَّ نفيَ الإحصان في الحديث إنما هو من قول السَّائل، ولم يُصَرِّح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأخذه قيداً في الجلد، فيحْتَمل أنْ يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرض عنه وأفتى بالجلد مطلقاً.
وهذا رأي أبي العباس القرطبي. (4)
وأيَّدَ رأيَه هذا بأنَّ بَقيَّة الأحاديث - الواردة في جلد الأَمَة إذا زَنَت -
= (5/ 17)، وأضواء البيان، للشنقيطي (1/ 139).
(1)
أحكام القرآن، للجصاص (2/ 212).
(2)
أضواء البيان، للشنقيطي (1/ 328).
(3)
انظر: تفسير ابن كثير (1/ 489).
(4)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (5/ 123).
ليس فيها ذِكْرٌ لذلك القيد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
واعتذر عن تخصيص الإحصان في الآية بالذِّكر بأنَّه أغلب حال الإماء، أو الأهم في مقاصد الناس. (2)
القول الثاني: أنَّ قوله في الحديث: "وَلَمْ تُحْصِنْ" ليس بقيد، وإنما هو حِكَايَة حالٍ في السؤال، ولذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا"، غير مُقَيَّدٍ بالإحصان، للتنبيه على أنْ لا أثر له، وأنَّ مُوجِبَه في الأَمَة مُطلق الزنى.
ذكر هذا الجواب الخطابي (3)، وأشار إليه الزَّرقاني في شرحه للحديث. (4)
الثاني: مذهب إعمال مفهوم الآية، وإلغاء منطوق الحديث:
ويرى أصحاب هذا المذهب أنْ لا حَدَّ على الأَمَة إذا زَنَت وهي غير محصنة.
رُوي هذا المذهب عن:
ابن عباس (5)، وأبي الدرداء (6)، وسعيد بن جبير (7)، ومجاهد (8)، وطاووس (9)،
وأبي عبيد القاسم بن سلام (10).
ويدل على مذهبهم هذا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
(1) تقدم في أول المسألة ذِكر الأحاديث التي خلت من ذكر قيد الإحصان، وذكرت هناك رأيي في هذه الأحاديث.
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (5/ 124).
(3)
معالم السنن، للخطابي (3/ 289).
(4)
شرح الزرقاني على موطأ مالك (4/ 182).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 488)، وعبد الرزاق في المصنف (7/ 397).
(6)
انظر: التمهيد، لابن عبد البر (9/ 99).
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 488)، وابن جرير في تفسيره (4/ 26).
(8)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 488).
(9)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 397).
(10)
انظر: الإشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر (3/ 33)، والمغني، لابن قدامة (5/ 94).
"لَيْسَ عَلَى أَمَةٍ حَدٌّ حتَّى تُحْصَنَ بِزَوْجٍ؛ فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ". (1)
ولم يُجِبْ هؤلاء عن منطوق الحديث؛ إلا ما نُقِلَ عن الطَّحاوي (2) من أنَّ قوله في الحديث: "وَلَمْ تُحْصِنْ" زيادةٌ لا تثبت، وأنَّها مما تفرد به الإمام مالك، أحدُ رواة الحديث. (3)
ولم أقف على قول الطحاوي هذا في كتابه "مشكل الآثار"، وكذا "شرح معاني الآثار"، والذي وقفتُ عليه من رأيِهِ موافقة الجمهور في وجوب الحدِّ
(1) أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (12/ 335)، والطبراني في الأوسط (1/ 153)(4/ 147)،
وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه، ص (501)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 794)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/ 327 - 329)، جميعهم من طريق عبد الله بن عمران العابدي قال: نا سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به. مرفوعاً.
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (3/ 1226)، قال: نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس
…
، فذكره موقوفاً على ابن عباس.
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (12/ 335): "هذا خطأ، ليس هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو من قول ابن عباس، قاله أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة
…
، وقد رواه سعيد بن منصور، وغيره عن سفيان، موقوفاً". اهـ
وقال الطبراني في "الأوسط"(4/ 147): "لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلا عبد الله بن عمران العابدي". اهـ
وقال الدارقطني في "أطراف الغرائب والأفراد"(3/ 178): "غريب من حديث مسعر، عن عمرو، عنه. تفرد به سفيان بن عيينة عنه. وعنه عبد الله بن عمران العابدي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره يرويه عن ابن عيينة موقوفاً". اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 167): "سنده حسن، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والأرجح وقفه، وبذلك جزم ابن خزيمة وغيره". اهـ
(2)
نقله عن الطحاوي: ابن عبد البر في التمهيد (9/ 96)، وتبعه أبو العباس القرطبي في المفهم
(5/ 122)، والنووي في شرح مسلم (11/ 302).
(3)
تقدم عند ذكر طرق الحديث أنَّ مالكاً لم يتفرد بهذه الزيادة، وذكرتُ هناك من تابعة، وانظر في رد هذه الدعوى: التمهيد، لابن عبد البر (9/ 96)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي
(5/ 122)، وفتح الباري، لابن حجر (12/ 168).
على الأَمَة إنْ كانت غير محصنة؛ أخذاً بمنطوق الحديث. (1)
الثالث: مذهب إعمال مفهوم الآية ومنطوق الحديث معاً:
واختلف أصحاب هذا المذهب في معنى هاتين الدلالتين للآية والحديث، وفي الحكم المترتب عليهما على أقوال:
الأول: أنَّ مفهوم الآية المراد به نفي الحَدّ، فإذا زَنَت الأَمَة وهي غير محصنة فلا حدَّ عليها، وإنما تُضرب تأديباً؛ كما دل عليه منطوق الحديث.
ويرى هؤلاء أنْ لا تعارُض بين مفهوم الآية ومنطوق الحديث؛ لأنَّ مفهوم الآية يُفيد أنْ لا حدَّ على الأَمَة إنْ كانت غير محصنة، وأمَّا منطوق الحديث ففيه جلدها تأديباً وليس حداً.
والفرق بين الحدِّ والتأديب: أنَّ الأول واجب بخلاف الثاني.
حَكَى هذا القول الإمام ابن القيم، ومال إليه وقوَّاه (2)، وجعله الحافظ ابن كثير مذهب ابنِ عباس رضي الله عنه ومن تَبِعَه، القائلين بأنْ لا حدَّ على أمَةٍ إنْ كانت غير محصنة. (3)
وحُجَّةُ هؤلاء (4):
أنَّ الحديث لم يُؤَقَّتْ فيه الجلدُ بعددٍ مُعَيَّن كما وُقِّتَ في الآية، التي فيها أنَّ على الأَمَة نِصْفُ ما على المحصنة من العذاب؛ وهذا يدل على أنَّ الجلد في الحديث إنما هو من باب التأديب، ولا يُراد به الحدَّ؛ إذ لو أراد الحدَّ لَنَصَّ على عددٍ مُعَيَّن كما في الآية.
وبأنَّ الحديث لم يُذْكَر فيه الحدُّ، وإنما ذُكِرَ فيه الجلدُ.
واعتُرِضَ على هذه الأدلة:
بأنَّ الحديث قد روي بألفاظٍ أخرى، وفيها التَّنْصِيصُ على ذِكْرِ العدد، وذِكْرِ الحدِّ. (5)
(1) انظر: شرح مشكل الآثار، للطحاوي (9/ 356 - 357).
(2)
انظر: زاد المعاد، لابن القيم (5/ 44).
(3)
انظر: تفسير ابن كثير (1/ 488).
(4)
انظر: المصدر السابق (1/ 488).
(5)
انظر: شرح مشكل الآثار، للطحاوي (9/ 350 - 355).
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: جاريتي زَنَت فتبيَّن زناها. قال: "اجلدها خمسين". ثمَّ أتاه فقال: عادت فتبيَّن زناها. قال: "اجلدها خمسين". ثمَّ أتاه فقال: عادت فتبيَّن زناها. قال: "بِعْهَا ولو بحبل من شَعَر". (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ". (2)
وأجيب: "بأنَّ لفظة الحدِّ في قوله: "فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ" مُقْحَمَةٌ من بعض الرواة؛ بدليل أنَّ هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد، وأيضاً فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عبَّادِ بنِ تميمٍ، عن عمِّهِ - وكان قد شهد بدراً - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زَنَت الأمة فاجلدوها، ثم إنْ زَنَت فاجلدوها، ثم إنْ زَنَت فاجلدوها، ثم إنْ زَنَت فبيعوها ولو بضَفير" (3)، وبأنَّه لا يَبْعُدُ أنَّ بعض الرُّواة أطلق لفظ الحَدّ في الحديث على الجلد؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حدّ، أو أنَّه أطلق لفظة الحَدّ على التأديب كما أُطلق الحَدُّ على ضَرْبِ من زنى من المرضى بِعِثْكَالِ (4) نخل فيه مِائَةُ شِمْرَاخٍ (5)(6)،
وعلى
(1) سبق تخريجه في أول المسألة، وتقدم هناك أن إسناد هذا الحديث وقع فيه الغلط، فلا يبعد أن يكون وقع الغلط في متنه أيضاً.
(2)
سبق تخريجه في أول المسألة، وبَيَّنْتُ هُناك أنَّ المحفوظ في الحديث هو رواية "الجلد" دون "الحد".
(3)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى (4/ 298)، وضعفه.
(4)
العِثْكَال: هو العِذْقُ من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 1832).
(5)
الشِّمْرَاخُ: هو أغصان العثكال، وهو الذي يكون عليه الرطب. انظر: المصدر السابق (2/ 500).
(6)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا إِنْسَانٌ مُخْدَجٌ ضَعِيفٌ لَمْ يُرَعْ أَهْلُ الدَّارِ إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَاءِ الدَّارِ يَخْبُثُ بِهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَرَفَعَ شَأْنَهُ سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"اضْرِبُوهُ حَدَّهُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ. قَالَ:"فَخُذُوا لَهُ عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَخَلُّوا سَبِيلَهُ". أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 222). وإسناده صحيح ..
جلد من زنى بأَمَةِ امرأته إذا أذِنَتْ له فيها مِائَةُ (1)، وإنما ذلك تعزيرٌ وتأديب". (2)
القول الثاني: أنَّ دلالةَ مفهومِ الآية ومنطوقِ الحديثِ المقصود بهما التفريق بين حالتي الأَمَة في إقامة الحَدّ لا في قَدْرِهِ؛ فإذا كانت محصنة فلا يُقيم الحَدَّ عليها إلا الإمام، ولا يجوز لسيدها إقامته والحالة هذه، وأما قبل الإحصان فسيدها بالخيار بين إقامته هو بنفسه أو رفعه للإمام، والحَدُّ في كلا الحالتين على النصف من حَدِّ الحُرَّة.
رُويَ هذا القول عن ابن عمر رضي الله عنهما. (3)
وهو قولٌ في مذهب أحمد. (4)
ونقله ابن القيم، وجعله من أقرب الأقوال في الجواب عن مفهوم الآية. (5)
إلا أنَّ الحافظ ابن كثير تعقب هذا القول فقال: "وهذا بعيد؛ لأنه ليس في الآية ما يدل عليه، ولولا هذه لم نَدْرِ ما حكم الإماء في التنصيف، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحَدّ مائة أو رجمهن، كما ثبت
(1) عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلِ يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ قَالَ: "إِنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ رَجَمْتُهُ". أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الحدود، حديث (4459). وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص (367).
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (1/ 488).
(3)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في الأمة: "إذا كانت ليست بذات زوج فزَنَت: جُلِدَت نصف ما على المحصنات من العذاب، يجلدها سيدها،؛ فإن كانت من ذوات الأزواج رُفِع أمرها إلى السلطان". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 395)، وإسناده صحيح.
(4)
انظر: اختلاف العلماء، للمروزي (1/ 201)، وتفسير ابن كثير (1/ 489).
(5)
انظر: زاد المعاد، لابن القيم (5/ 44).
في الدليل عليه، وقد تقدَّم عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه قال:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ، مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ"(1)، وعموم الأحاديث ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها". اهـ (2)
القول الثالث: أنَّ الأَمَة المحصنة تُحَدُّ نصف حدِّ الحُرَّة أخذاً بمنطوق الآية، وأمَّا قبل الإحصان فمنطوق الحديث وعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة؛ كقوله تعالى:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)[النور: 2]، وكحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ". (3)، وغير ذلك من الأحاديث.
وهذا المذهب هو المشهور عن داود بن علي الظاهري. (4)
ولم يرتضِ أيضاً الحافظ ابن كثير هذا المذهب، وتعقبه فقال:"وهو في غاية الضَّعْفِ؛ لأنَّ الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب - وهو خمسون جلدة - فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشدّ منه بعد الإحصان؟ وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال، وهذا الشارع عليه السلام سَأَلَه أصحابه عن الأَمَة إذا زَنَت ولم تحصن فقال: "اجلدوها" ولم يقل مائة، فلو كان حكمها كما زعم داود لوجب بيان ذلك لهم؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء، وإلا فما الفائدة في قولهم ولم تحصن، لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت، لكن لمَّا علموا أحد الحكمين سألوا عن الآخر فَبَيَّنَه لهم". اهـ (5)
قلت: مذهب داود هذا هو الأقرب لظاهر النصوص، وهو من أحسن المذاهب في الجمع بين الآية والحديث، إلا أنَّه يُعَكِّرُ عليه ما نَوَّه إليه الحافظ
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الحدود، حديث (1705).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 489).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الحدود، حديث (1690).
(4)
انظر: المغني، لابن قدامة (9/ 49)، وتفسير ابن كثير (1/ 488).
(5)
تفسير ابن كثير (1/ 488). وانظر: المغني، لابن قدامة (9/ 49)، وزاد المعاد، لابن القيم (5/ 44).
ابن كثير من مخالفته لقواعد الشريعة، لكن يمكن أنْ يُقال: إنَّ الله تعالى راعى حق السَّيد فغلَّظَ العقوبة على الأَمَة حال كونها بكراً؛ لأنَّ في زناها إيذاء لسّيدها، واعتداء على حقِّه بالتمتع بها، بخلاف ما بَعْدَ زواجها فإنَّ الحقَّ لِزَوْجِهَا والذي غالباً ما يكون في رَبقَة الرِّقِّ مثلها، والشريعة الإسلامية تراعي حق الحرِّ أكثر من مراعاتها لحق الرَّقِيقِ.
إلا أني لا أرتضي هذا المذهب، على الرغم من وجاهته؛ لأنَّ ما ذكرتُه من تعليلٍ لم يأتِ به نصٌ حتى يُصار إليه؛ ولأنَّ الأحاديث الواردة في جلد الأَمَة جاءت مطلقة، فلم تَنُص على ذكر مائة جلدة، فيجب حملها على المقيد وهو ما جاء في الآية الكريمة، وسترى مزيدَ بيانٍ لرأيي في هذه المسألة في مبحث الترجيح، إن شاء الله تعالى.
القول الرابع: أنَّ الإحصان في الآية المراد به الإسلام؛ فيكون منطوق الآية ومفهومها دالاً على إيجاب الحَدّ على الأَمَة بَعْدَ إسلامها لا قبله، وأما الإحصان في الحديث فالمراد به التزويج.
وهذا رأي: الشافعي (1)، وابن العربي (2)، واختيار الحافظ ابن حجر (3).
ولم يُبَيِّن هؤلاء الحكم المترتب على دلالتي المنطوق والمفهوم للحديث.
ويرد على قولهم:
1 -
أنْ لا دليل على التفريق بين الآية والحديث في معنى الإحصان.
2 -
ويلزم من مفهوم الحديث على قولهم هذا أنْ لا حَدَّ على الأَمَة إذا كانت مُزوجة؛ لإعمالهم منطوق الآية في المسلمة عموماً؛ فيكون منطوق الحديث مُخَصِّصَاً لهذا العموم، وهذا القول لا يرتضونه ولا يقولون به، فدل على ضعف رأيهم.
(1) الرسالة، للشافعي (1/ 125).
(2)
أحكام القرآن، لابن العربي (1/ 517 - 518).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (12/ 167).