الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُبعث فيهم رسول (1)، وأما الأحاديث فظاهرها تَعذيب من مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أهل الفترة، وهذا يُوهِمُ مُعارضة الآيات. (2)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث:
للعلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث ثلاثة مسالك:
الأول: مسلك إعمال الآيات دون الأحاديث.
ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ أهل الفترة ناجون مُطلقاً، وأنه لا عذاب عليهم في الآخرة.
وعلى هذا المسلك عامةُ الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعيةِ من الفقهاء، كما حكاه السيوطي، وغيره. (3)
وبه قال: أبو حامدٍ الغزالي، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، وتاج الدين السُّبكي (4)، ومحمد بن خليفة الأُبيّ، وشرف الدين المناوي (5). (6)
(1) حيث قال تعالى: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)[السجدة: 3].
(2)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: طريق الهجرتين، لابن القيم، ص (588)، وتفسير ابن كثير
(3/ 33)، والبداية والنهاية، لابن كثير (2/ 261)، وإكمال إكمال المعلم، للأبي (1/ 618)، وفيض القدير، للمناوي (4/ 10)، ورفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، للصنعاني، بتحقيق الألباني، ص (114).
(3)
انظر: مسالك الحنفا في والدي المصطفى (2/ 353)، وشرح سنن ابن ماجة (1/ 113)، كلاهما للسيوطي، وكشف الخفاء، للعجلوني (1/ 62).
(4)
هو: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، أبو نصر: قاضي القضاة، المؤرخ، الباحث، ولد في القاهرة، وانتقل إلى دمشق مع والده، فسكنها وتوفي بها. نسبته إلى سبك (من أعمال المنوفية بمصر) وكان طلق اللسان، قوي الحجة، انتهى إليه قضاء القضاة في الشام، من تصانيفه (طبقات الشافعية الكبرى)، و (جمع الجوامع)، في أصول الفقه، توفي سنة (771هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (4/ 184).
(5)
هو: يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، أبو زكريا، شرف الدين ابن سعد الدين الحدادي المناوي: فقيه شافعي، من أهل القاهرة، منشأه ووفاته بها، أصله من منية بني خصيب (في الصعيد) ونسبته إليها. ولي قضاء الديار المصرية، وحمدت سيرته، وصنف كتباً منها:(شرح مختصر المزني)، وله نظم ونثر، وهو جد المحقق المناوي (محمد عبد الرؤوف)، توفي سنة (871هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (8/ 167).
(6)
انظر على الترتيب: روح المعاني، للآلوسي (15/ 56)، وفيه النقل عن الغزالي، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (1/ 368)، وتفسير القرطبي (10/ 152)، ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، للسبكي (1/ 477)، وإكمال إكمال المعلم، للأبي (1/ 621)، ومسالك الحنفا في والدي المصطفى (2/ 354) وشرح سنن النسائي (4/ 28)، كلاهما للسيوطي، وفيهما النقل عن المناوي.
وقال به من المعاصرين: عبد الرحمن الجُزيري (1)، ومحمد الغزالي (2)، ويوسف القرضاوي. (3)
أدلة هذا المسلك:
من أقوى ما استدل به أصحاب هذا المسلك قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[الإسراء: 15].
وهذه الآية صريحة بأنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ أحداً من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره، فيعصي ذلك الرسولَ ويتمادى في كفره حتى يموت.
وقد حكى السيوطي إطباق أئمة السنة على الاستدلال بالآية في أنه لا تعذيب قبل البعثة. (4)
وهذا المعنى الوارد في الآية قد أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة، كقوله تعالى:(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) [النساء: 165]، فصَرَّح في هذه الآية الكريمة بأنْ لا بُدّ أنْ يقطع حُجة كلِّ أحدٍ بإرسال الرسل، مُبشرين من أطاعهم بالجنة، ومُنذرين من عصاهم النار، وهذه الحجة ـ التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين ـ بيَّنها في آخر سورة طه بقوله:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)) [طه: 134]، وأشار لها في سورة القصص بقوله:(وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)) [القصص: 47]، وقوله جل وعلا:(ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) [الأنعام: 131]، وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ
(1) الفقه على المذاهب الأربعة، للجزيري (4/ 174).
(2)
هموم داعية، ص (21 - 22)، ودستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص (23 - 24)، كلاهما للغزالي.
(3)
كيف نتعامل مع السنة النبوية، للقرضاوي، ص (97).
(4)
مسالك الحنفا في والدي المصطفى، للسيوطي (2/ 355).
بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)) [المائدة: 19]، وكقوله:(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) [الأنعام: 155 - 157]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويُوضِحُ ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم ـ من أَنَّ الله جل وعلا لا يُعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ـ تصريحه جل وعلا في آيات كثيرة بأنه لم يُدخِل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل، فمن ذلك قوله جل وعلا:(تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)) [الملك: 8 - 9]، فقوله:(كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ) يَعُمُّ جميع الأفواج المُلْقين في النار، ومن ذلك قوله جل وعلا:(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) [الزمر: 71]، فقوله:(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، عامٌ في جميع الكفار، وهو ظاهرٌ في أَنَّ جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا فعصوا أمر ربهم كما هو واضح، ونظيره أيضاً قوله تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)) [غافر: 49 - 50]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أَنَّ جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا.
وهذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة، وأنه لا عذاب عليهم في الآخرة، وإنْ كانوا ماتوا على الشرك؛ لأنهم لم يأتهم رسلٌ ينذرونهم في الدنيا فتقوم عليهم الحجة. (1)
ومن الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا المسلك في عذر أهل الفترة:
(1) انظر هذه الأدلة في: أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 471 - 474).
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". (1)
قال أبو العباس القرطبي: "فيه دليلٌ على أَنَّ من لم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أمره لا عقاب عليه ولا مؤاخذه، وهذا كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]، ومن لم تبلغه دعوة الرسول ولا معجزته فكأنه لم يُبعث إليه رسول". اهـ (2)
وسيأتي ذكر أجوبة أصحاب هذا المسلك عن الأحاديث الواردة في المسألة - التي تُفيد بظاهرها تعذيب أهل الفترة - وذلك عند ذكر أجوبة أصحاب المسلك الثالث، إن شاء الله تعالى.
المسلك الثاني: مسلك إعمال الأحاديث دون الآيات.
ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ أهل الفترة في النار، وأنهم يُعذبون بسبب شركهم.
وعلى هذا المسلك الإمام أبو حنيفة. (3)
وحكى القرافي في شرح تنقيح الفصول الإجماع عليه فقال: "انعقد الإجماع على أَنَّ موتى الجاهلية في النار، يُعذبون على كفرهم". اهـ (4)
وحكاه الآلوسي عن أبي منصور الماتريدي (5)، ومُتَّبِعيه. (6)
وبه قال: النووي، وابن عطية، والحليمي، والفخر الرازي، والخازن، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، والآلوسي، وابن عاشور (7).
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (153).
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (1/ 368).
(3)
انظر: أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه السلام، لعلي القاري، ص (62)،
ورد المحتار، لابن عابدين (3/ 184).
(4)
شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص (233). وانظر: أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 475).
(5)
هو: محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي: من أئمة علماء الكلام. نسبته إلى ماتريد (محلة بسمرقند) من كتبه (التوحيد) و (أوهام المعتزلة) و (الرد على القرامطة) و (مآخذ الشرائع) في أصول الفقه، وكتاب (الجدل) و (تأويلات القرآن) و (تأويلات أهل السنة) و (شرح الفقه الأكبر) المنسوب للإمام أبي حنيفة. مات بسمرقند سنة (333هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (7/ 19).
(6)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (15/ 53).
(7)
انظر على الترتيب: شرح صحيح مسلم، للنووي (3/ 97)، والمحرر الوجيز، =
قال الحليمي: "إنَّ العاقل المُميّز إذا سمع آيةَ دعوةٍ كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك مُعرضاً عن الدعوة فيكفر، ويبعد أنْ يوجد شخص لم يبلغه خبرُ أحدٍ من الرسل، على كثرتهم، وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق
…
، فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار". اهـ (1)
أدلة هذا المسلك (2):
استدل أصحاب هذا المسلك بظواهر آيات من كتاب الله، كقوله تعالى:(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)) [النساء: 18]، وقوله:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)) [البقرة: 161]، وقوله:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)) [آل عمران: 91]، وقوله:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48]، وقوله:(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)[الحج: 31]، وقوله:(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)[المائدة: 72].
= لابن عطية (3/ 444) و (4/ 71 - 72)، والمنهاج في شعب الإيمان، للحليمي (1/ 175)، ومفاتيح الغيب، للرازي (25/ 145 - 146)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (3/ 402)، ورفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، للصنعاني، بتحقيق الألباني، ص (114)، وروح المعاني، للآلوسي (15/ 55)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (15/ 52).
(1)
المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (1/ 175). وانظر: روح المعاني، للآلوسي (15/ 53 - 54).
(2)
انظر هذه الأدلة في: أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 473 - 474).
وظاهر جميع هذه الآيات العموم؛ لأنها لم تُخصص كافراً دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار.
واستدلوا: بالأحاديث الواردة في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت في أول المسألة.
واستدلوا: بأنَّ معرفة الله واجبة عقلاً، فلا عُذر بالفترة؛ لأنَّ الحجة قد قامت عليهم بما معهم من أدلة العقل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده. (1)
وأجاب أصحاب هذا المسلك عن الآيات الواردة في المسألة من أربعة أوجه (2):
الأول: أَنَّ التعذيب المنفي في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) وأمثالها من الآيات، إنما هو التعذيب الدنيوي، أي أَنَّ الله لا يُهلك أمة بعذاب في الدنيا إلا بعد الإعذار والإنذار إليهم، وهذا لا يُنافي التعذيب في الآخرة.
وهذا الجواب حكاه الآلوسي عن أبي منصور الماتريدي. (3)
وأما تفسير الآية فقد حكاه مذهباً للجمهور: أبو عبد الله القرطبي، وتبعه أبو حيان، والشوكاني. (4)
الوجه الثاني: أَنَّ محل العذر بالفترة ـ المنصوص في قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وأمثالها ـ إنما هو في غير الواضح، وأما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل، كعبادة الأوثان، فلا يُعذر فيه أحد؛ لأنَّ الكفار يُقِرُّون بأنَّ الله هو ربهم، الخالق الرازق النافع الضار، ويتحققون كل التحقق أَنَّ الأوثان لا تَقدر على جلب نفع، ولا على دفع ضر.
(1) انظر: لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (3/ 402)، وروح المعاني، للآلوسي (15/ 52)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (15/ 52).
(2)
انظر هذه الأوجه في: أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 475 - 476).
(3)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (15/ 53).
(4)
انظر على الترتيب: تفسير القرطبي (10/ 152)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (6/ 15)، وفتح القدير، للشوكاني (3/ 307).
الوجه الثالث: أَنَّ مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم عندهم بَقيّة إنذارٍ مما جاءت به الرسل الذين أُرسلوا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، كإبراهيم وغيره، وأنَّ الحجة قائمة عليهم بذلك.
وهذا جواب: ابن عطية، والحليمي، والنووي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني. (1)
قال ابن عطية: "صاحب الفترة ليس ككافر قريش قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّ كفار قريش وغيرهم ـ ممن علم وسمع عن نبوةٍ ورسالةٍ في أقطار الأرض ـ ليس بصاحب فترة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "أبي وأبوك في النار" (2)، ورأى عمرو بن لحي في النار (3)، إلى غير هذا مما يطول ذكره، وأما صاحب الفترة فيفترض أنه آدمي لم يَطرأ عليه أَنَّ الله تعالى بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين، وهذا قليل الوجود، اللهم إلا أن يُشذَّ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران". اهـ (4)
وقال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ"، فيه أَنَّ من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أَنَّ من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذةٌ قبل بلوغ الدعوة؛ فإنَّ هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء، صلوات الله تعالى وسلامه عليهم". اهـ (5)
الوجه الرابع: ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على أَنَّ بعض أهل الفترة في النار، وقد تقدمت.
وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة (6):
فأجابوا عن الوجه الأول ـ وهو كون التعذيب في قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
(1) انظر: المنهاج في شعب الإيمان، للحليمي (1/ 175)، ورفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، للصنعاني، بتحقيق الألباني، ص (114)، وسيأتي نقل قول ابن عطية، والنووي.
(2)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(3)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(4)
المحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 72).
(5)
شرح صحيح مسلم، للنووي (3/ 97).
(6)
ذكر هذه الأجوبة بأكملها الشنقيطي في أضواء البيان (3/ 477 - 479).
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي - من وجهين:
الأول: أنه خلاف ظاهر القرآن؛ لأنَّ ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مُطلقاً، فهو أعم من كونه في الدنيا، وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
الوجه الثاني: أَنَّ القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة، كقوله:(كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)) [الملك: 8 - 9]، وهو دليلٌ على أَنَّ جميع أفواج أهل النار ما عُذِّبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل.
وأجابوا عن الوجه الثاني ـ وهو أَنَّ محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد ـ بالجوابين المذكورين آنفاً نفسيهما؛ لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالفٌ لظاهر القرآن، فلا بُد له من دليل يجب الرجوع إليه، ولأنَّ الله نَصَّ على أَنَّ أهل النار ما عُذِّبوا بها حتى كذَّبوا الرسل في دار الدنيا، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح.
وأجابوا عن الوجه الثالث ـ وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أُرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم ـ بأنه قول باطلٌ بلا شك؛ لكثرة الآيات القرآنية المصرحة ببطلانه، لأنَّ مقتضاه أنهم أُنذِرُوا على ألسنة بعض الرسل، والقرآن ينفي هذا نفياً باتاً في آيات كثيرة، كقوله:(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)) [يس: 6]، وكقوله:(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[القصص: 46]، وكقوله:(وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)) [سبأ: 44]، وكقوله:(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)[السجدة: 3]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما قول النووي: "من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإنَّ هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره"، فإنَّ قوله هذا فيه تناقض؛ لأنَّ من بلغتهم الدعوة فليسوا بأهل فترة، وقد أشار إلى ما في كلام النووي من
التناقض الأُبيّ عند شرحه للحديث. (1)
وأجابوا عن الوجه الرابع: بأنَّ تلك الأحاديث الواردة في المسألة أخبار آحاد يقدم عليها القاطع وهي الآيات الواردة في المسألة.
وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضاً عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم ـ كقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)) [النساء: 18]، إلى آخر ما تقدم من الآيات ـ بأنَّ محل ذلك فيما إذا أُرسلت إليهم الرسل فكذبوهم، بدليل قوله:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وأجاب القائلون بتعذيب عبدة الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم ـ إنَّ القاطع الذي هو قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين ـ أجابوا: بأنَّ الآية عامة والحديثين كلاهما خاص في شخص مُعين، والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص؛ لأنَّ الخاص يقضي على العام، كما هو مذهب الجمهور، فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه دليلٌ خاص بقي داخلاً في العموم.
وأجاب المانعون: بأنَّ هذا التخصيص يُبطل حِكْمَةَ العام؛ لأنَّ الله جل وعلا تَمَدَّحَ بكمال الإنصاف، وأنه لا يُعذِّبُ حتى يقطع حجة المُعَذَّب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وأشار لأنَّ ذلك الإنصاف الكامل والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب، فلو عَذَّبَ إنساناً واحداً من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تَمَدَّحَ الله بها، ولثبتت لذلك الإنسان الحُجة التي أرسل الله الرسل لقطعها، كما بَيَّنَه بقوله:(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء: 165]، وقوله:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)) [طه: 134].
(1) انظر: إكمال إكمال المعلم، للأبي (1/ 617).
المسلك الثالث: مسلك الجمع بين الآيات والأحاديث.
ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ أهل الفترة معذورون بالفترة في الدنيا، كما هو صريح الآيات، إلا أَنَّ الله يمتحنهم يوم القيامة بنارٍ يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يُصَدِّق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعُذِّبَ فيها، وهو الذي كان يُكَذِّب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل. (1)
وقد اختار هذا المسلك جمع من المحققين، كابن حزم، والبيهقي، وعبد الحق الإشبيلي (2)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، ومحمد الأمين الشنقيطي. (3)
وهو اختيار الشيخين الجليلين ابن باز، وابن عثيمين. (4)
وظاهر تقرير السيوطي لهذه المسألة يوحي باختياره لهذا المسلك. (5)
قال ابن حزم: "وأما المجانين، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة نبي، ومن أدركه الإسلام وقد هَرَم، أو أصَمّ لا يسمع؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تُبعث لهم يوم القيامة نارٌ موقدة، ويؤمرون بدخولها، فمن دخلها كانت عليه برداً ودخل الجنة
…
، ونحن نؤمن بهذا ونُقِرُّ به، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم". اهـ (6)
(1) انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 481).
(2)
هو: عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن سعيد، الأزدي، الأندلسي، الإشبيلي، المعروف في زمانه بابن الخَرَّاط، كان فقيهاً، حافظاً، عالماً بالحديث وعلله، عارفاً بالرجال، موصوفاً بالخير والصلاح والزهد والورع، ولزوم السنة، والتقلل من الدنيا، مشاركاً في الأدب، وقول الشعر، قد صنف في الأحكام نسختين: كبرى وصغرى، وعمل الجمع بين الصحيحين، بلا إسناد، على ترتيب مسلم وأتقنه وجوده، توفي ببجاية بعد محنة نالته من قبل الدولة سنة (581هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (21/ 198).
(3)
انظر على الترتيب: الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 157، 362)، والإحكام في أصول الأحكام (5/ 110)، كلاهما لابن حزم، والاعتقاد (1/ 170)، والقضاء والقدر، ص (363)، كلاهما للبيهقي، والعاقبة في ذكر الموت، لعبد الحق الإشبيلي، ص (317)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية
(14/ 477)، وطريق الهجرتين، لابن القيم، ص (587)، وتفسير ابن كثير (3/ 33)، والبداية والنهاية، لابن كثير (2/ 261، وفتح الباري، لابن حجر (3/ 290)، وأضواء البيان، للشنقيطي
(3/ 481).
(4)
انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (8/ 97) و (9/ 41، 444)، وتفسير سورة يس،
ص (21)، ومجموع فتاوى ورسائل (2/ 48)، كلاهما لابن عثيمين.
(5)
انظر: مسالك الحنفا في والدي المصطفى، للسيوطي (2/ 354).
(6)
الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 157).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتُحِنَ في الآخرة
…
، ولا يُعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أنْ يبعث إليه رسولاً، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه، كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة، فهذا يُمتحن في الآخرة، كما جاءت بذلك الآثار". اهـ (1)
أدلة هذا المسلك:
للقائلين بهذا المسلك حجتان:
الأولى: ما ورد من أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحان أهل الفترة في الآخرة، وهي مروية عن ستةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول: عن الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (يعني يُدْلُون على الله بحُجَّة) (2)، رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ (3)، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ؛ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ (4)، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ. فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا"(5).
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 477).
(2)
الزيادة التي بين القوسين من كتاب الاعتقاد للبيهقي (1/ 169).
(3)
الهرم: هو غاية الكِبَر، وهو أن يصل الإنسان إلى سن متقدمة في العمر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 260).
(4)
الْبَعْر: جمع بعرة، وهو رجيع الخف والظلف، من الإبل والشاء وبقر الوحش والظباء. انظر: لسان العرب، لابن منظور (4/ 71).
(5)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 24)، واللفظ له، والبيهقي في الاعتقاد (1/ 169)، ومن طريق أحمد الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (4/ 255)، حديث (1454)، كلاهما من طريق علي بن المديني، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع، به.
ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده (1/ 122)، عن معاذ بن هشام، بهذا الإسناد.
ومن طريق إسحاق: رواه ابن حبان في صحيحه (16/ 356)، والطبراني في الكبير (1/ 287)، وأبو نعيم في معرفة =
الثاني: عن مُعاذ بن جَبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُؤتى يوم القيامة بالممسوخ (1)
= الصحابة (1/ 271 - 272)، والضياء المقدسي في المختارة (4/ 256)، حديث (1456).
وقد اختُلف فيه على معاذ؛ فرواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 225)، من طريق عبيد الله بن عمر، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأسود بن سريع، به. حيث سقط منه الأحنف بن قيس.
ورواه البزار في مسنده [كما في كشف الأستار (3/ 33)، حديث (2174)]، من طريق محمد بن المثنى، عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، به. وفيه الحسن بدل الأحنف.
والحديث مروي بهذا الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
حيث رواه البزار في الموضع السابق، حديث (2175)، من طريق محمد بن المثنى، عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، به.
ورواه علي بن المديني، عن معاذ، بهذا الإسناد أيضاً.
أخرجه من طريق ابن المديني: الإمام أحمد في مسنده (4/ 24)، والبيهقي في الاعتقاد (1/ 169)، ومن طريق أحمد: المقدسيُّ في المختارة (4/ 255)، حديث (1455).
ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده (1/ 123)، حديث (42)، عن معاذ، بهذا الإسناد.
ورواه أبو نعيم في تاريخه (2/ 225)، من طريق عبيد الله بن عمر، بهذا الإسناد.
والحديث معلول من أوجه:
الأول: الاختلاف فيه على معاذ بن هشام في إسناده.
الثاني: الانقطاع بين قتادة والأحنف بين قيس؛ فإنَّ قتادة لم يلق الأحنف، ولا سمع منه، وقد أشار لهذه العلة الإمام الذهبي في "تذكرة الحفاظ"(3/ 1100).
الثالث: أَنَّ معاذ بن هشام، وهو الدستوائي، مختلف في توثيقه؛ فقد وثقه ابن معين مرة، وقال مرة: صدوق، ليس بحجة، وقال مرة: لم يكن بالثقة، وتوقف فيه أبو داود، ووثقه ابن قانع، واحتج به الشيخان، وقال ابن عدي: ربما يغلط في الشيء بعد الشيء، وأرجو أنه صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: الثقات، لابن حبان (9/ 176)، والتعديل والتجريح، للباجي (2/ 713)، والكاشف، للذهبي (2/ 274)، وتهذيب التهذيب، لابن حجر (10/ 177)، ومسند الإمام أحمد بإشراف الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي (26/ 228).
والحديث صححه البيهقي في الاعتقاد (1/ 169)، من الطريق التي رُويت عن الحسن البصري، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، به. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 215)، وذكر أَنَّ رجال أحمد والبزار رجال الصحيح، وصححه ابن القيم في طريق الهجرتين، ص (588)، من حديث الأسود بن سريع.
وستأتي شواهد للحديث بعد هذا.
(1)
المسخ: هو قلب الخلقة من شيء إلى شيء. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (4/ 329).
عقلاً، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ عقلاً: يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد بعقله مني. ويقول الهالك في الفترة: يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهده مني. ويقول الهالك صغيراً: لو آتيتني عمراً ما كان من آتيته عمراً بأسعد بعمره مني. فيقول الرب تبارك وتعالى: إني آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون: نعم، وعزتك. فيقول: اذهبوا فادخلوا النار. ولو دخلوها ما ضرتهم، قال: فتخرج عليهم قوابص (1) يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعاً قال: يقولون: خرجنا يا رب وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك يقولون مثل قولهم، فيقول الله تبارك وتعالى: قبل أن تُخلقوا علمت ما أنتم عاملون، وعلى علمي خلقتكم، وإلى علمي تصيرون، فتأخذهم النار". (2)
(1) قوله: "قوابص"، هذه رواية الطبراني في المعجم الأوسط، وجاء في الحلية، والعلل، والتمهيد بلفظ:"قوانص"، وفي الحلية أيضاً ومسند الشاميين بلفظ:"قوابس"، وستأتي كلها في تخريج الحديث.
قال ابن الأثير في النهاية (4/ 5) في معنى القوابص: "هي الطوائف والجماعات"، وقال (4/ 112)، في معنى القوانص:"أي قطعاً قانصة، تقنصهم كما تختطف الجارحة الصيد"، وقال (4/ 4)، في معنى القوابس:"هي الشعلة من النار الملتهبة".
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (8/ 57)، وفي الكبير (20/ 83)، وفي مسند الشاميين (3/ 257)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 127)، و (9/ 305)، وابن عدي في الكامل (5/ 118)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 129)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 923)، جميعهم من طريق عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن معاذ، به. واللفظ للطبراني في الأوسط.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً؛ من أجل عمرو بن واقد، وهو متروك، ورُمي بالكذب، كما في تهذيب التهذيب، لابن حجر (8/ 101). وبه ضعفه ابن الجوزي، والهيثمي.
قال ابن الجوزي في العلل (3/ 923): "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في إسناده عمرو بن واقد، قال ابن مُسْهِر: ليس بشيء. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير، فاستحق الترك". اهـ
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 216): "فيه عمرو بن واقد، وهو متروك عند البخاري وغيره، ورمي بالكذب، وقال محمد بن المبارك الصوري: كان يتبع السلطان، وكان صدوقاً". اهـ
الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، وبالمعْتُوه (1)، وبمن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرُزْ. فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه. فيقول من كُتِبَ عليه الشقاء: يا رب، أين ندخلها ومنها كنا نَفِرُّ؟ قال: ومن كُتِبَتْ عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مُسرعاً، قال: فيقول تبارك وتعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيباً ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة، وهؤلاء النار". (2)
(1) المعتوه: هو المجنون المصاب بعقله. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 181).
(2)
أخرجه البزار في مسنده [كما في كشف الأستار (3/ 34)]، وأبو يعلى في مسنده (7/ 225)، والبيهقي في الاعتقاد (1/ 169 - 170)، وفي القضاء والقدر، ص (362)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 128)، جميعهم من طريق ليث بن أبي سليم، عن عبد الوارث، عن أنس، به. واللفظ لأبي يعلى.
والحديث بهذا الإسناد معلول؛ من أجل ليث بن أبي سليم، وعبد الوارث:
أما ليث بن أبي سليم، فضعفه أبو حاتم الرازي، وابن معين، وابن عيينة، وابن سعد، والحاكم، والجوزجاني. وقال الإمام أحمد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والبزار: مضطرب الحديث. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وقد روى عنه شعبة والثوري، ومع الضعف الذي فيه يكتب حديثه. وقال البرقاني: سألت الدارقطني عنه فقال: صاحب سنة، يُخَرَّجُ حديثه. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره، فكان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه القطان، وابن مهدي، وابن معين، وأحمد. انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (8/ 417 - 418).
وأما عبد الوارث: فهو مولى أنس بن مالك الأنصاري، ضعفه الدارقطني، وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: مجهول. وقال أبو حاتم: هو شيخ. انظر: الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم
(6/ 74)، وميزان الاعتدال، للذهبي (4/ 431).
والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 216) وقال: "رواه أبو يعلى والبزار، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح". اهـ
وتعقبه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 603) فقال: "كذا قال! وفيه نظر من وجهين: الأول: أَنَّ ليثاً هذا لم أر من اتهمه بالتدليس، وإنما هو معروف بأنه كان اختلط
…
الثاني: أَنَّ عبد الوارث شيخ الليث الظاهر أنه مولى أنس بن مالك الأنصاري
…
، ولم أر أحداً ذكر أنه من رجال الصحيح، ولعل الهيثمي توهم أنه عبد الوارث بن سعيد التميمي العنبري مولاهم، فإنه من رجال الشيخين، لكنه يروي عن أنس بواسطة عبد العزيز بن صهيب، وغيره، والله تعالى أعلم". اهـ
الرابع: عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يَحْتَجُّ عَلى اللهِ يَوْمَ القيامَةِ ثَلاثَةٌ: الهَالِكُ فِي الفَتْرَةِ، والمَغْلُوبُ على عَقْلِه، والصَّبيُّ الصَّغيرُ، فَيَقُولُ المَغْلُوبُ عَلى عَقْلِهِ: لَمْ تَجْعَلْ لي عَقْلا أنْتَفِع بِهِ، وَيَقُولُ الهَالِكُ فِي الفتْرَةِ: لَمْ يأْتِني رَسُولٌ وَلا نَبيٌّ، ولَوْ أتانِي لَكَ رَسُولٌ أوْ نَبيّ لكُنْتُ أطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ وقرأ: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) [طه: 134] ويَقُولُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ: كَنْتُ صَغِيرًا لا أعْقِلُ. قال: فَتُرْفَعُ لَهُمْ نارٌ وَيُقالُ لَهُمْ: رِدُوها قال: فَيرِدُها مَنْ كَانَ فِي علْمِ اللهِ أنَّه سَعيدٌ، وَيَتَلَكَّأُ عَنْها مَنْ كانَ فِي عِلْمِ اللهِ أنَّهُ شَقِيّ، فَيَقُولُ: إيَّايَ عَصَيْتُمْ، فَكَيْفَ بِرُسُلي لَوْ أتَتْكُمْ؟ ". (1)
الخامس: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه ابن الجعد في مسنده (1/ 300)، والبزار في مسنده [كما في كشف الأستار (3/ 34)، حديث
(2176)
]، وابن جرير في تفسيره (8/ 481)، وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 2984)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 603)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 127)، جميعهم من طريق فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، به. واللفظ لابن جرير.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً، من أجل عطية، وهو ابن سعد بن جنادة العوفي، الجدلي، القيسي، الكوفي، أبو الحسن، ضعفه الإمام أحمد، وأبو حاتم، والنسائي، وابن حبان، وقال أبو داود: ليس بالذي يعتمد عليه، واتهمه بالتشيع: أبو بكر البزار، وابن عدي، والساجي، وقال ابن حبان: سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث، فلما مات أبو سعيد جعل يُجالس الكلبي ويحضر قصصه، فإذا قال الكلبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فيحفظه وكناه أبا سعيد ويروي عنه، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد به الكلبي، فلا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. انظر: المجروحين، لابن حبان (2/ 176)، وتهذيب التهذيب، لابن حجر (7/ 200).
وقد ضعف الحديث به: الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 216)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 604).
وأعله بالوقف: محمد بن نصر المروزيُّ في كتابه "الرد على ابن قتيبة"، كما في "أحكام أهل الذمة"، لابن القيم (2/ 105)، حيث قال:"ورواه أبو نعيم الملائي، عن فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد، موقوفاً". اهـ
وكذا نقله ابن عبد البر عن أبي نعيم الملائي حيث قال في التمهيد (18/ 128): "ومن الناس من يُوقف هذا الحديث على أبي سعيد ولا يرفعه، منهم: أبو نعيم الملائي". اهـ
يقول: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: ربنا لم تُرسِلْ إلينا رسولاً، ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك لك. فيقول لهم ربهم: أرأيتم إنْ أمرتكم بأمر تطيعونني؟ فيقولون: نعم. فيُؤمرون أن يَعْمَدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون، حتى إذا رأوها فإذا لها تغيظ وزفير، فيرجعون إلى ربهم فيقولون: يا ربنا فَرَقْنا (1) منها. فيقول ربهم تبارك وتعالى: تزعمون أنكم إنْ أمرتكم بأمر أطعتموني، فيأخذ مواثيقهم فيقول: اعمدوا إليها فادخلوها. فينطلقون، حتى إذا رأوها فَرَقوا ورجعوا إلى ربهم، فقالوا: ربنا فَرَقْنا منها. فيقول: ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني؟ اعمدوا إليها فادخلوها. فينطلقون، حتى إذا رأوها فزعوا ورجعوا، فقالوا: فَرَقْنا يا رب، ولا نستطيع أن ندخلها. فيقول: ادخلوها داخرين. قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً". (2)
(1) الفَرَق، بالتحريك، هو الخوف والجزع. انظر: لسان العرب، لابن منظور (10/ 305).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 496)، من طريق إسحاق بن إدريس، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، به.
وهذا إسناد ضعيف، من أجل إسحاق بن إدريس: وهو الأسواري، البصري، أبو يعقوب، تركه ابن المديني، وقال أبو زرعة: واهٍ، وقال البخاري: تركه الناس، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال يحيى بن معين: كذاب يضع الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال ابن حبان: كان يسرق الحديث، وقال النسائي: بصري متروك، وقال ابن عدي: له أحاديث، وهو إلى الضعف أقرب. انظر: لسان الميزان، لابن حجر (1/ 352).
وأخرجه المروزي في الرد على ابن قتيبة، كما في "أحكام أهل الذمة"، لابن القيم (2/ 1146)، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الصباح، عن ريحان بن سعيد الناجي، عن عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، به.
وهذا إسناد ضعيف أيضاً؛ من أجل عباد بن منصور، وهو الناجي، أبو سلمة البصري، قال الحافظ ابن حجر في التقريب (1/ 374):"صدوق، رُمي بالقدر، وكان يدلس، وتغير بآخره". وضعفه أبو حاتم الرازي، والنسائي. انظر: الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (6/ 86)، والضعفاء والمتروكين، للنسائي (1/ 74).
والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 347):"رواه البزار بإسنادين ضعيفين". ولم أقف على روايتي البزار.
السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة كلهم يُدلي على الله يوم القيامة بحجة وعذر: رجل مات في الفترة، ورجل أدركه الإسلام هَرَماً، ورجل أصم أبكم، ورجل مَعْتُوه، فيبعث الله إليهم مَلَكاً رسولاً فيقول: اتبعوه، فيأتيهم الرسول فيؤجج لهم ناراً ثم يقول: اقتحموها، فمن اقتحمها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لا حَقَّتْ عليه كلمة العذاب". (1)
قال ابن القيم ـ بعد أنْ أورد هذه الأحاديث ـ: "فهذه الأحاديث يَشُدُّ بعضها بعضاً، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في المقالات (2) وغيرها". اهـ (3)
الحجة الثانية: أَنَّ الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول، بالعذر والامتحان، فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أُمِرَ به عند ذلك الامتحان، وتتفق بذلك جميع الأدلة. (4)
الإيرادات والاعتراضات على هذه الأدلة:
أُورِد على هذه الأحاديث ـ أعني أحاديث الامتحان ـ بأنها ضعيفة، وبأنها مُخالِفةٌ لكتاب الله عز وجل، ولقواعد الشريعة، لأنَّ الآخرة ليست دارَ
(1) رُوي حديث أبي هريرة هذا من طريقين:
الأول: طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مرفوعاً.
أخرجه من هذه الطريق: إسحاق بن راهويه في مسنده (1/ 445)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 225). واللفظ لابن أبي عاصم.
وعلي بن زيد: هو ابن جدعان، وهو ضعيف الحديث.
الثاني: طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مرفوعاً. وقد تقدم تخريجه في حديث الأسود بن سريع.
ورُويَ موقوفاً على أبي هريرة.
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 374)، وابن جرير في تفسيره (8/ 50)، كلاهما من طريق معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، ص (296).
(3)
طريق الهجرتين، لابن القيم، ص (591 - 592).
(4)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 484).
تكليف، وإنما هي دار جزاء، ودار التكليف هي دار الدنيا، فلو كانت الآخرة دار تكليف لكان ثَمَّ دار جزاء غيرها.
أورد هذا الاعتراض: ابن عبد البر، وابن عطية، وأبو عبد الله القرطبي، والآلوسي. (1)
قال ابن عبد البر ـ وقد ذكر بعض هذه الأحاديث ـ: "وهذه الأحاديث كلها ليست بالقوية، ولا تقوم بها حُجة، وأهل العلم يُنكرون أحاديث هذا الباب؛ لأنَّ الآخرة دار جزاء، وليست دارَ عمل ولا ابتلاء، وكيف يُكَلَّفون دخول النار وليس ذلك في وُسِع المخلوقين، والله لا يُكَلِّف نفساً إلا وسعها، ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون مات كافراً أو غير كافر، فإنْ مات كافراً جاحداً فإنَّ الله حرَّم الجنة على الكافرين، فكيف يُمتحنون؟ وإنْ كان معذوراً بأنه لم يَأته نذير ولا رسول فكيف يُؤمر أنْ يقتحم النار وهي أشدُّ العذاب؟ ". اهـ (2)
وأجيب عن هذه الاعتراضات من وجوه (3):
الأول: "أَنَّ أحاديث هذا الباب قد تضافرت وكثُرَتْ بحيث يشدُّ بعضُها بعضاً، وقد صحَّح الحفاظ بعضها، كما صحَّح البيهقي وعبد الحق وغيرهما حديثَ الأسود بن سريع. وحديثُ أبي هريرة إسناده صحيح متصل، ورواية معمر له، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، موقوفاً، لا تضره؛ فإنا إنْ سلكنا طريق الفقهاء والأصوليين ـ في الأخذ بالزيادة من الثقة ـ فظاهر، وإنْ سلكنا طريق الترجيح ـ وهي طريقة المحدثين ـ فليس من رَفَعَه بدون من وَقَفَه في الحفظ والإتقان.
الوجه الثاني: أَنَّ غاية ما يُقَدَّرُ فيه أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا
(1) انظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 444)، وتفسير القرطبي (10/ 152) و (11/ 175)، وروح المعاني، للآلوسي (15/ 55).
(2)
الاستذكار، لابن عبد البر (8/ 404)، باختصار، وانظر: التمهيد (18/ 130).
(3)
ذكر هذه الوجوه: ابن القيم في "أحكام أهل الذمة"(2/ 1149 - 1158)، وطريق الهجرتين، ص (592 - 595)، وأشار إلى بعضها الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 33)، والحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 291).
لا يُقْدِمُ عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يُجْزَم بأنَّ ذلك توقيفٌ لا عن رأي.
الوجه الثالث: أَنَّ هذه الأحاديث يَشُدُّ بعضها بعضاً؛ فإنها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، فيبعد كل البعد أنْ تكون باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بها، وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها.
الوجه الرابع: أنها هي الموافقة للقرآن وقواعد الشرع، فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يُعَذَّبُ أحدٌ إلا بعد قيام الحجة عليه، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا، فلا بد أنْ يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أنْ تُقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد، وتُسمع الدعاوى، وتُقام البينات، ويختصم الناس بين يدي الرب، وينطق كل أحد بحجته ومعذرته، فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم.
الوجه الخامس: أَنَّ القول بموجبها هو قول أهل السنة والحديث، كما حكاه الأشعري عنهم في المقالات، وحكى اتفاقهم عليه. (1)
الوجه السادس: وهو قول ابن عبد البر: "وأهل العلم يُنكرون أحاديث هذا الباب" جوابه: أنه وإنْ أنكرها بعضهم فقد قَبِلَها الأكثرون، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها، وأعلم بالسنة والحديث، وقد حكى فيه الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث، وقد بينا أنه مقتضى قواعد الشرع.
الوجه السابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار، ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الوجه الثامن: ما ثبت في الصحيحين (2)، من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، رضي الله عنهما، في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً إليها، أَنَّ الله تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يُخالفه ويسأله غيره،
(1) انظر: مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، ص (296).
(2)
انظر: صحيح البخاري، كتاب الأذان، حديث (806)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث (182).
فيقول الله له: "ما أغدرك"، وهذا الغدر منه لمخالفته العهد الذي عاهد ربه عليه، وهذه معصية منه.
الوجه التاسع: قد ثبت أنه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود، ويحول بين المخالفين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً، فكيف يُنْكَرُ التكليف بدخول النار اختياراً؟
الوجه العاشر: أنه قد ثبت امتحانهم في القبور، وسؤالهم وتكليفهم الجواب، وهذا تكليف بعد الموت بِرَدِّ الجواب.
الوجه الحادي عشر: أَنَّ أَمْرَهُم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يُعاقبهم على غير ذنب؟ وإنما هو امتحان واختبار لهم، هل يطيعونه أو يعصونه؟ فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم، وكانت عليهم برداً وسلاماً، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يُظهر طاعتهم، هل هو منطوٍ عليها بباطنه؟ فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يُوطِّن نفسه عليه أم لا؟ فإنْ أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أَعْفَوه منه، وإنْ امتنع وعصى ألزموه به، أو عاقبوه بما هو أشد منه.
وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده، ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال والتسليم، وتقديم محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.
وقد ثبت أَنَّ الدجال يأتي معه بمثال الجنة والنار (1)، وهي نار في رأي العين، ولكنها لا تُحْرِق، فمن دخلها لم تضره، فلو أَنَّ هؤلاء يوطنون أنفسهم على دخول النار ـ التي أمروا بدخولها طاعة لله ومحبة له، وإيثاراً لمرضاته، وتقرباً إليه بتحمل ما يؤلمهم ـ لكان هذا الإقدام والقصد منهم لمرضاته ومحبته
(1) عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنْ الدَّجَّالِ، مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ: إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ".
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب أحاديث الأنبياء، حديث (3338)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2936).
يقلب تلك النار برداً وسلاماً، كما قلب قصد الخليل التقرب إلى ربه وإيثار محبته ومرضاته وبذل نفسه وإيثاره إياه على نفسه تلك النار بأمر الله برداً وسلاماً، فليس أمره سبحانه إياهم بدخول النار عقوبة ولا تكليفاً بالممتنع، وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يوطنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ومخالفته، وقد علم سبحانه ما يقع منهم، ولكنه لا يُجازيهم على مجرد علمه فيهم ما لم يحصل معلومه الذي يترتب عليهم به الحجة، فلا أحسن من هذا يفعله بهم، وهو محض العدل والحكمة.
الوجه الثاني عشر: أَنَّ هذا مطابق لتكليفه عباده في الدنيا؛ فإنه سبحانه لم يستفد بتكليفهم منفعة تعود إليه، ولا هو محتاج إليهم، وإنما امتحنهم وابتلاهم ليتبين من يؤثر رضاه ومحبته ويشكره، ممن يكفر به ويؤثر سخطه، قد علم منهم من يفعل هذا وهذا، ولكنه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وتقوم عليهم به الحجة.
وكثير من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار؛ فإنَّ الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم، وتعريضهم لأسرهم لهم، وتعذيبهم واسترقاقهم، لعله أعظم من الأمر بدخول النار، وقد كَلَّفَ الله بني إسرائيل قتل أنفسهم وأولادهم وأرواحهم وإخوانهم لما عبدوا العجل، لما لهم في ذلك من المصلحة، وهذا قريب من التكليف بدخول النار، وكَلَّفَ على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نار الدجال أن يقعوا فيها، لما لهم في ذلك من المصلحة، وليست في الحقيقة ناراً، وإنْ كانت في رأي العين ناراً، وكذلك النار التي أمروا بدخولها في الآخرة إنما هي برد وسلام على من دخلها، فلو لم يأت بذلك أثر لكان هذا هو مقتضى حكمته وعدله، وموجب أسمائه وصفاته.
الوجه الثالث عشر: قول ابن عبد البر: "وليس ذلك في وسع المخلوقين" جوابه من وجهين:
أحدهما: أنه في وسعهم، وإنْ كان يشق عليهم، وهؤلاء عباد النار يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولم يقولوا ليس في وسعنا، مع تألمهم بها غاية الألم، فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته
باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم، وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم؟
الثاني: أنهم لو وطنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته لكانت عين نعيمهم، ولم تضرهم شيئاً.
الوجه الرابع عشر: أَنَّ أمرهم باقتحام النار، المفضية بهم إلى النجاة منها، بمنزلة الكي الذي يحسم الداء، وبمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية، وليس من باب العقوبة في شيء، فإنَّ الله سبحانه اقتضت حكمته وحمده، وغناه ورحمته، ألا يعذب من لا ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك، كما يتعالى عما يناقض صفات كماله، فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعاً واختياراً ورضى، حيث علموا أَنَّ مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم، وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أَنَّ فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به، رحمة وإحساناً، لا عقوبة.
الوجه الخامس عشر: أَنَّ أمرهم باقتحام النار كأمر المؤمنين بركوب الصراط، الذي هو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ولا ريب أَنَّ ركوبه من أشق الأمور وأصعبها، حتى إنَّ الرسل لتشفق منه، وكل منهم يسأل الله السلامة، فركوب هذا الجسر الذي هو في غاية المشقة كاقتحام النار، وكلاهما طريق إلى النجاة.
الوجه السادس عشر: قول ابن عبد البر: "ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافراً أو غير كافر، فإنْ كان كافراً فإنَّ الله حرم الجنة على الكافرين، وإنْ كان معذوراً بأنه لم يأته رسول فكيف يُؤمر باقتحام النار؟ " جوابه من وجوه:
أحدها: أنْ يقال هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان؛ فإنَّ الكفر هو جحود ما جاء به الرسول، فشرط تحققه بلوغ الرسالة، والإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وهذا أيضاً مشروط ببلوغ الرسالة، ولا
يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفاراً ولا مؤمنين، كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين.
الوجه الثاني: سلمنا أنهم كفار، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه، وهو قيام الحجة عليهم، فإنَّ الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه حجته.
الوجه الثالث: قوله: "وإنْ كان معذوراً فكيف يؤمر أن يقتحم النار، وهي أشد العذاب؟ "، فالذي قال هذا يُوهِمُ أَنَّ هذا الأمر عقوبة لهم، وهذا غلط، وإنما هو تكليف واختبار، فإن بادروا إلى الامتثال لم تضرهم النار شيئاً". انتهى كلام ابن القيم.
أجوبة أصحاب المسلك الأول والثالث - وهم القائلون بنجاة أهل الفترة، والقائلون بامتحانهم في الآخرة - عن الأحاديث الواردة في المسألة، والتي تُفيد بظاهرها تعذيب أهل الفترة:
اختلف أصحاب هذين المسلكين في الجواب عن الأحاديث الواردة في المسألة، وخاصة الأحاديث الواردة في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، وسأذكر أولاً أجوبتهم عن الأحاديث بعامة، ثم أذكر مذاهب العلماء في مصير والدي النبي صلى الله عليه وسلم، يلي ذلك أجوبة أصحاب هذين المسلكين عن الأحاديث الواردة في تعذيب أبوي النبي صلى الله عليه وسلم:
أولاً: أجوبتهم عن أحاديث تعذيب أهل الفترة بعامة:
أما القائلون بامتحانهم في الآخرة فلا إشكال عندهم في تلك الأحاديث؛ لأنها محمولة على أَنَّ هؤلاء ممن لا يجيب يوم القيامة؛ فلا منافاة بينها وبين الآيات. (1)
وأجاب بعضهم باحتمال أنْ يكون هؤلاء ـ الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار، ومنهم أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ـ بلغتهم دعوة نبي من الأنبياء، قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمنوا بها، وإنما رضوا بدين قريش، من الشرك وعبادة
(1) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (2/ 261).
الأوثان، فخرجوا بفعلهم هذا أن يكونوا من أهل الفترة، واستحقوا العذاب في الآخرة؛ لقيام الحجة عليهم. (1)
وأما القائلون بنجاتهم مطلقاً فذكروا ثلاثة أجوبة:
الأول: أنها أخبار آحاد فلا تعارض القاطع، وهي نصوص القرآن الكريم.
الثاني: قَصْرُ التعذيب على هؤلاء، والله أعلم بالسبب.
الثالث: قَصْرُ التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بَدَّلَ وغَيَّرَ من أهل الفترة بما لا يُعذر به من الضلال، كعبادة الأوثان، وتغيير الشرائع، وشرع الأحكام.
وقد ذكر محمد بن خليفة الأُبيّ أَنَّ أهل الفترة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، وهؤلاء على نوعين:
الأول: من لم يدخل في شريعة؛ كقس بن ساعدة (2)،
وزيد بن عمرو بن
(1) انظر: تفسير سورة يس، لابن عثيمين، ص (21)، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (5/ 181).
(2)
عن ابن عباس قال: "قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم يعرف القس بن ساعدة الأيادي؟ قالوا: كلنا يا رسول الله يعرفه. قال: فما فعل؟ قالوا: هلك، قال: ما أنساه بعكاظ، في الشهر الحرام، وهو على جمل أحمر، وهو يخطب الناس، وهو يقول: يا أيها الناس، اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إنَّ في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم قس قسماً حقاً؛ لئن كان في الأرض رضاً ليكونن بعده سخط، إنَّ لله لَدِيْنَاً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا؟ أم تُرِكُوا فناموا؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: أفيكم من يروي شعره؟ فأنشده بعضهم:
في الذاهبين الأولين
…
من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً
…
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
…
يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي
…
ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
…
لة حيث صار القوم صائر". =
نفيل (1)، وورقة بن نوفل (2).
الثاني: من دخل في شريعة حق قائمة، كتُبَّعٍ وقومه.
القسم الثاني: من بَدَّلَ وغَيَّرَ وأشرك ولم يُوحِّد، وشرع لنفسه فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحي، فإنه أول من سن للعرب عبادة الأصنام، وشرع الأحكام؛ فبَحَّر البَحِيرة (3)،
= أخرجه الطبراني المعجم الكبير (12/ 88)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 419):"رواه الطبراني والبزار، وفيه محمد بن الحجاج اللخمي، وهو كذاب".
وفي الأصل جاء البيت الثاني مصحفاً بلفظ: "لما رأيت موارد للسماوات"، وهو تصحيفٌ أصلحته من كتب التخريج والأدب.
(1)
عن سعيد بن زيد قال: سألت أنا وعمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو فقال: "يأتي يوم القيامة أمة وحده".
رواه أبو يعلى في مسنده (2/ 260). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 417): "إسناده حسن".
وللحديث شاهد من حديث زيد بن حارثة: أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 238)، وأبو يعلى في مسنده (13/ 170 - 171)، والبزار في مسنده (4/ 165)، ومن حديث أسماء بنت أبي بكر: أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5/ 54)، والطبراني في الآحاد والمثاني (2/ 75)، ومن حديث جابر بن عبدالله: أخرجه أبو يعلى في مسنده (4/ 41)، وتمام في فوائده (2/ 152 - 153).
(2)
عن عائشة أَنَّ خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل فقال: "قد رأيته في المنام، فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض".
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 65)، والترمذي في سننه، في كتاب الرؤيا، حديث (2288).
والحديث إسناده ضعيف، لضعف ابن لهيعة أحد رواته.
وعن عائشة رضي الله عنها، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين".
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 666)، وقال:"حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 416) وقال: "رواه البزار متصلاً ومرسلاً
…
، ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح".
وعن أسماء بنت أبي بكر: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال: "يبعث يوم القيامة أمة وحده".
رواه الطبراني في المعجم الكبير (24/ 82)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 416):"رجاله رجال الصحيح".
(3)
كان العرب في الجاهلية إذا ولدت إبلهم سَقْباً بَحَرُوا أُذُنَه، أي شَقُّوها، وقالوا: اللهم إن عاش فَفَتيّ، وإن مات فَذَكِيّ؛ فإذا مات أكلوه وسموه البحيرة، وقيل: البحيرة هي بنت السائبة، كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر إناث لم يُركب ظهرها، ولم يُجَزْ =
وسَيَّبَ السَّائبة (1)، ووَصَل الوَصِيلة (2)، وحَمى الحامي (3).
القسم الثالث: من لم يُشرك ولم يُوحِّد، ولا دخل في شريعة نبي، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع ديناً، بل بقي عمره على حال غفلة عن هذا كله، وفي الجاهلية من هذا القسم كثير.
قال الأُبيّ: فإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة الأقسام؛ فيُحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني؛ بكفرهم بما يعذبون به من الخبائث، والله سبحانه قد سمى جميع هذا القسم كفاراً ومشركين، وأما القسم الأول، كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في كل منهما:"إنه يُبعث أمة وحده"(4)، فحكمهم حكم الدين الذي دخلوا فيه مالم يلحق أحداً منهم الإسلامُ الناسخ لكل دين.
وأما القسم الثالث: فهم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين، لقطع القرآن بنجاتهم. (5)
ثانياً: مذاهب العلماء في مصير والديّ النبي صلى الله عليه وسلم:
اختلف العلماء في مصير والديّ النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة مذاهب:
= وَبرها، ولم يَشْرَبْ لبَنَها إلا ولدها أو ضيف، وتركوها مسيبة لسبيلها، وسموها السائبة، فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقوا أذنها وخلوا سبيلها، وحَرُم منها ما حرم من أمها، وسموها البحيرة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 100).
(1)
تقدم في أول المسألة تعريف السائبة.
(2)
كان العرب في الجاهلية إذا ولدت الشاة ستة أبطن: أنثيين أنثيين، وولدت في السابعة ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها؛ فأحلوا لبنها للرجال، وحرموه على النساء، وقيل: إن كان السابع ذكراً ذُبِح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تُرِكت في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، ولم تُذبح، وكان لبنها حراماً على النساء. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 191).
(3)
الحامي: هو الفحل من الإبل، يضرب الضراب المعدود، قيل: عشرة أبطن؛ فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام. أي: حمي ظهره، فيترك فلا ينتفع منه بشيء، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. انظر: لسان العرب، لابن منظور (14/ 202).
(4)
سبق تخريجهما قريباً.
(5)
انظر: إكمال إكمال المعلم، للأبي (1/ 618 - 621).
الأول: أنهما في النار.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والبيهقي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن كثير، والألباني، وغيرهم. (1)
وقد بسط الكلام في عدم نجاة الوالدين: إبراهيمُ بن محمد الحلبي (2)، في رسالة بعنوان:"رسالة في حق أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم"، والملاّ علي بن سلطان القاري في رسالة بعنوان:"أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام".
ومن أظهر ما استدل به أصحاب هذا المذهب: حديث أنس رضي الله عنه، والذي فيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ أباه في النار، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، والذي فيه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نُهيَ عن الاستغفار لأمه، وكلاهما عند مسلم، وكذا إخباره صلى الله عليه وسلم بأنَّ أمه في النار، وقد تقدمت جميعها في أول المسألة.
وادعى الإجماع على عدم نجاتهما الملا علي بن سلطان القاري فقال: "وأما الإجماع؛ فقد اتفق السلف والخلف ـ من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين ـ على ذلك، من غير إظهار خلافٍ لما هُنالك، والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق، سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق". اهـ (3)
ويرى هؤلاء أَنَّ إخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه بأنهما من أهل النار، لا يُنافي الأحاديث الواردة بامتحان أهل الفترة، لأنَّ أهل الفترة منهم من يُجيب يوم القيامة، ومنهم من لا يُجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يُجيب، فلا مُنافاة. (4)
(1) انظر على الترتيب: أدلة معتقد أبي حنيفة، لعلي القاري، ص (62)، وفيه النقل عن أبي حنيفة، ودلائل النبوة، للبيهقي (1/ 192)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 324 - 326)، والبداية والنهاية، لابن كثير (2/ 261)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (6/ 180).
(2)
هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي: فقيه حنفي، من أهل حلب، تفقه بها وبمصر، ثم استقر في القسطنطينية وتوفي بها عن نيف وتسعين عاماً. أشهر كتبه:(غنية المتملي في شرح منية المصلي) وله (مختصر طبقات الحنابلة) وغيرها، توفي سنة (956هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (1/ 66).
(3)
أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه السلام، لعلي القاري، ص (84)، وسيأتي مناقشة دعوى الإجماع في مبحث الترجيح إن شاء الله تعالى.
(4)
انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (2/ 261).
المذهب الثاني: التوقف فيهما، فلا يُحكم لهما بجنة ولا نار.
قال تاج الدين الفاكهاني (1): "الله أعلم بحال أبويه". (2)
وقال السخاوي ـ بعد أنْ أورد حديث إحياء والديّ النبي صلى الله عليه وسلم ـ: "والذي أراه الكَفَّ عن التعرض لهذا إثباتاً ونفياً". (3)
وحكى هذا المذهب شمس الحق العظيم آبادي ومال إليه واستحسنه. (4) وإليه نحا الدكتور يوسف القرضاوي؛ فإنه أورد حديث "إن أبي وأباك في النار" وقال: أتوقف في الحديث حتى يظهر لي شيء يشفي الصدر. (5)
المذهب الثالث: أنهما في الجنة.
ولأصحاب هذا المذهب في سبب نجاتهما ثلاثة مسالك:
الأول: أنهما لم تبلغهما الدعوة، ولا عذاب على من لم تبلغه الدعوة.
أشار لهذا المسلك: السيوطي، والسندي. (6) واختاره من المعاصرين: محمد الغزالي (7).
المسلك الثاني: أنهما كانا على التوحيد، ملة إبراهيم، عليه السلام.
وهذا المسلك قال به الطاهر ابن عاشور، ومحمد الجزيري. (8)
قال الطاهر ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)) [البقرة: 124] قال: "ولعل ممن تحقق فيه رجاء إبراهيم عمود نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يكتمون دينهم تُقْيَةً من قومهم". اهـ (9)
(1) هو: عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الإسكندري، تاج الدين الفاكهاني: عالم بالنحو، من أهل الإسكندرية، زار دمشق سنة (731 هـ) واجتمع به ابن كثير (صاحب البداية والنهاية) وقال: سمعنا عليه ومعه. وحج ورجع إلى الإسكندرية. وصُلِّيَ عليه بدمشق لما وصل خبر وفاته. له كتب، منها:(الإشارة) في النحو، و (المنهج المبين في شرح الأربعين النووية)، و (رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام)، وغيرها. توفي سنة (734هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (5/ 56).
(2)
نقله عنه السيوطي في مسالك الحنفا (2/ 402).
(3)
المقاصد الحسنة، للسخاوي، ص (45).
(4)
عون المعبود، للآبادي (12/ 324).
(5)
كيف نتعامل مع السنة النبوية، ص (97).
(6)
انظر على الترتيب: شرح سنن ابن ماجة، للسيوطي (1/ 113)، وحاشية السندي على سنن النسائي (4/ 395).
(7)
دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص (28).
(8)
الفقه على المذاهب الأربعة، للجزيري (4/ 176).
(9)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (25/ 195).
المسلك الثالث: أَنَّ الله تعالى أحياهما لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته؛ فآمنا به واتبعاه.
وهذا المسلك مال إليه طائفة من حفاظ المحدثين وغيرهم، منهم ابن شاهين (1)، والخطيب البغدادي (2)، والسُهيلي (3)(4)، وأبو عبد الله القرطبي (5)، والمحب الطبري (6)، وناصر الدين بن المُنَيِّر (7)، والأُبيّ (8)، وابن حجر الهيتمي (9)، والعجلوني (10)، وغيرهم (11).
وانتصر له السيوطي فألف فيه عدة مؤلفات من أشهرها:
كتابه "مسالك الحنفا في والديّ المصطفى"(12)، وقد أطال في تقرير نجاة الأبوين، وحشد العديد من الأدلة التي تؤيد ما ذهب إليه، حتى قال: "وإذا كان قد صح في أبي طالب أنه أهون أهل النار عذاباً؛ لقرابته منه صلى الله عليه وسلم وبِرِّهِ به، مع إداركه
(1) نقله عنه السيوطي في مسالك الحنفا (2/ 399).
(2)
المصدر السابق.
(3)
هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السهيلي: حافظ، عالم باللغة والسير، نسبته إلى سهيل (من قرى مالقة)، عمي وعمره 17 سنة. ونبغ، فاتصل خبره بصاحب مراكش فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنف كتبه إلى أنْ توفي بها. من كتبه (الروض الأنف) في شرح السيرة النبوية لابن هشام، و (التعريف والإعلام في ما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام) و (الإيضاح والتبيين لما أبهم من تفسير الكتاب المبين). (ت: 581 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (3/ 313).
(4)
الروض الأنف (1/ 299).
(5)
التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي (20).
(6)
ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، لمحب الدين الطبري، ص (259).
(7)
نقله عنه السيوطي في مسالك الحنفا (2/ 399).
(8)
إكمال إكمال المعلم، للأبي (1/ 617).
(9)
نقله عنه ابن عبد الغني الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر"(1/ 191).
(10)
كشف الخفاء، للعجلوني (1/ 61 - 62).
(11)
انظر: مسالك الحنفا في والدي المصطفى، للسيوطي (2/ 399).
(12)
خص السيوطي مسألة نجاة الوالدين بستة مؤلفات هي:
1 -
مسالك الحنفا في والدي المصطفى.
2 -
الدرج المنيفة في الآباء الشريفة.
3 -
المقامة السندسية في النسبة المصطفوية.
4 -
التعظيم والمنة في أَنَّ أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
5 -
نشر العلمين المنيفين في إحياء الأبوين الشريفين.
6 -
السبل الجلية في الآباء العلية.
وقد طبعت كلها مع رسائل ثلاث له أيضاً في مجموع واحد في حيدر أباد الدكن في الهند، وطبعت "المقامة السندسية" في ضمن شرح المقامات له (1/ 567 - 615)، وتناول مسألة إحياء الأبوين في "مسالك الحنفا"(2/ 353 - 404)، وفي "التعظيم والمنة" ص (1 - 17). وانظر: العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر (1/ 372)، بتحقيق عبد الحكيم الأنيس، فقد أفدت من تحقيقه في ذكر هذه الكتب.
الدعوة، وامتناعه من الإجابة، وطول عمره، فما ظنك بأبويه، اللذين هما أشد منه قُرباً، وآكد حُباً، وابسط عُذراً، وأقصر عُمراً، فمعاذ الله أنْ يُظنَّ بهما أنهما في طبقة الجحيم، وأنْ يُشدَّد عليهما العذاب العظيم، هذا لا يفهمه من له أدنى ذوق سليم". اهـ (1)
ومن أظهر ما استدل به أصحاب هذا المسلك: ما رُويَ عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل إلى الحجون (2) كئيباً حزيناً، فأقام به ما شاء ربه عز وجل، ثم رجع مسروراً، فقالت: يا رسول الله، نزلت إلى الحجون كئيباً حزيناً فأقمت به ما شاء الله، ثم رجعت مسروراً، قال: سألت ربي عز وجل فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم رَدَّها". (3)
(1) مسالك الحنفا في والدي المصطفى، للسيوطي (2/ 390).
(2)
الحجون: جبل بأعلى مكة، عنده مدافن أهلها، يبعدُ عن البيت ميل ونصف، وقيل: فرسخ وثلث. انظر: معجم البلدان، لياقوت الحموي (2/ 225)، ومعجم ما استعجم، للبكري (1/ 427).
(3)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه، ص (489 - 490)، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد، مولى الأنصار قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحضرمي، بمكة قال: حدثنا أبو غزية، محمد بن يحيى الزهري، قال: حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، به.
وأخرجه ابن عساكر في غرائب مالك [كما في لسان الميزان، لابن حجر (4/ 305)]، وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 283)، والخطيب في السابق واللاحق [كما في اللآلئ المصنوعة للسيوطي (1/ 244)] جميعهم من طريق الحسين بن علي بن محمد بن إسحاق الحلبي، حدثنا أبو طالب، عمر بن الربيع الخشاب، حدثنا علي بن أيوب الكعبي، من ولد كعب بن مالك، حدثني محمد بن يحيى الزهري، أبو غزية، حدثني عبد الوهاب بن موسى الزهري، عن مالك، عن أبي الزناد، عن هشام، بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، به.
قال ابن عساكر: "حديث منكر من حديث عبد الوهاب بن موسى الزهري المدني، عن مالك. والكعبي مجهول، والحلبي صاحب غرائب، ولا يُعرف لأبي الزناد رواية عن هشام، وهشام لم يُدرك عائشة، فلعله سقط من كتابي عن أبيه". اهـ
قال الحافظ ابن حجر: "ولم ينبه على عمر بن الربيع، ولا على محمد بن يحيى، وهما أولى أن يلصق بهما هذا الحديث من الكعبي وغيره". اهـ
وقال الدارقطني في غرائب مالك [كما في لسان الميزان، لابن حجر (4/ 192)]: "الإسناد والمتن باطل، ولا يصح لأبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة شيء، وهذا كذب على مالك، والحمل فيه على أبي =
وأورد السُهيلي في الروض الأنف (1) بسند قال: إنَّ فيه مجهولين، عن عائشة رضي الله عنها:"أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أنْ يحيي أبويه، فأحياهما له، فآمنا به، ثم أماتهما".
قال السهيلي بعد إيراده للحديث: "الله قادر على كل شيء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل أنْ يُختصَّ بما شاء من فضله، ويُنْعِمَ عليه بما شاء من كرامته". اهـ (2)
وقال العلامة ناصر الدين بن المُنَيِّر المالكي في كتاب "المقتفى في شرف المصطفى": "قد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم إحياء الموتى، نظير ما وقع لعيسى ابن مريم
…
، وجاء في حديثٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من الاستغفار للكفار دعا الله أنْ يحيي له أبويه فأحياهما له فآمنا به وصدقا وماتا مؤمنين". اهـ (3)
وقال أبو عبد الله القرطبي: "فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه، وليس إحياؤهما وإيمانهما به يمتنع عقلاً ولا شرعاً، فقد ورد في القرآن إحياء قتيل بني إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام أحيا الله على يديه جماعة من الموتى
…
، وإذا ثبت هذا فما يمتنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة كرامة في فضيلته". اهـ (4)
= غزية، والمتهم بوضعه هو، أو من حدث به عنه، وعبد الوهاب بن موسى ليس به بأس". اهـ
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 437): "حدَّث عبد الوهاب بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بحديث: "إنَّ الله أحيا لي أمي فآمنت بي"، ولا يُدْرَى من ذا الحيوان الكذَّاب الذي حدَّث به؛ فإنَّ هذا الحديث كذبٌ مخالفٌ لما صح أنه عليه السلام استأذن ربه في الاستغفار لها فلم يأذن له". اهـ
(1)
قال السهيلي في الروض الأنف (1/ 299): "وجدت بخط جدي - أبي عمران أحمد بن أبي الحسن القاضي رحمه الله بسند فيه مجهولون أنه نقل من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد، يرفعه إلى عبد بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أخبرت: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له وآمنا به ثم أماتهما". اهـ
(2)
المصدر السابق.
(3)
نقله عنه السيوطي في مسالك الحنفا (2/ 400).
(4)
التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي (20).
وقال ابن سيد الناس ـ بعد أن ذكر قصة الإحياء، والأحاديث الواردة في التعذيب ـ:"وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حاصله أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقياً في المقامات السَّنيِّة، صاعداً في الدرجات العليّة، إلى أنْ قبض الله روحه الطاهرة إليه، وأزلفه بما خصه به لديه من الكرامة حين القدوم عليه، فمن الجائز أنْ تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أنْ لم تكن، وأنْ يكون الإحياء والإيمان متأخراً عن تلك الأحاديث فلا تَعارُض". اهـ (1)
وأجاب أصحاب هذا المسلك عن أحاديث تعذيب أبوي النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أجوبة:
الأول: أنها منسوخة بحديث إحياء والديه صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله القرطبي: "لا تعارض بين حديث الإحياء، وحديث النهي عن الاستغفار؛ فإنَّ إحياءهما متأخر عن الاستغفار لهما، بدليل حديث عائشة أَنَّ ذلك كان في حجة الوداع، ولذلك جعله ابن شاهين ناسخاً لما ذُكِرَ من الأخبار". اهـ (2)
الثاني: أَنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبي وأباك في النار" المراد عمه أبو طالب؛ لأن اسم الأب يطلق على العم، وقد كان أبو طالب رَبَّى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فاستحق إطلاق اسم الأب من تلك الجهة.
ذكره السيوطي. (3)
وذهب الجزيري إلى أَنَّ المراد عمه أبو لهب، حيث قال:"وحديث مسلم هذا يمكن تأويله، وهو أَنَّ المراد بأبي النبي صلى الله وعليه وسلم أبو لهب؛ فإنَّ الله تعالى قد أخبر أنه في النار قطعاً، والأب يُطلق في اللغة على العم". اهـ (4)
الثالث: أنها ضعيفة.
قال السيوطي: "فإنْ قلتَ: فما تصنع بالأحاديث الدالة على كفرهما
(1) عيون الأثر في فنون المغازي والسير، لابن سيد الناس (1/ 152).
(2)
التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي (20)، وانظر: تفسير القرطبي (2/ 64).
(3)
انظر: مسالك الحنفا في والدي المصطفى، للسيوطي (2/ 395).
(4)
انظر: الفقه على المذاهب الأربعة، للجزيري (4/ 176).
وأنهما في النار، وهي: حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليت شعري، ما فعل أبواي؟ فنزلت: (وَلَا تُسْأَلُ (1) عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) "(2)[البقرة: 119]، وحديث أنه استغفر لأُمِّه فضرب جبريل في صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركاً (3)، وحديث أنه نزل فيها:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)(4) [التوبة:
(1) القراءة الواردة في الحديث: "وَلَا تُسْأَلُ" بالجزم على النهي، وهي قراءة نافع ويعقوب، وقرأ الباقون:(وَلَا تُسئَلُ) بضم التاء ورفع اللام على الخبر. انظر: المبسوط في القراءات العشر، لأبي بكر الأصبهاني، ص (121)، والنشر في القراءات العشر، لابن الجزري (2/ 221)، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، لابن عبد الغني الدمياطي، ص (191).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 59) قال: نا الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: .... ". فذكره.
وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 563 - 564)، من طريق عبد الرزاق، به.
وأخرجه من طريق أبي كريب، عن وكيع، عن موسى بن عبيدة، به.
وأخرجه أبو إسحاق الحربي في غريب الحديث (1/ 144)، من طريق وكيع، عن موسى بن عبيدة، به.
وأخرجه أبو عمر الدوري في جزء قراءات النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 72)، من طريق علي بن ثابت، وموسى بن محمد، عن موسى بن عبيدة، به. والحديث من هذا الوجه فيه علتان:
الأولى: الإرسال من قبل محمد بن كعب القرضي، والثانية: ضعف موسى بن عبيدة، كما في التقريب
(2/ 290)، وأخرجه من وجه آخر ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 564)، من طريق ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه، وهذا مرسل أيضاً. وانظر: العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر (1/ 368 - 369).
(3)
عن بريدة رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بودان، أو بالقبور، سأل الشفاعة لأمه، أحسبه قال: فضرب جبريل عليه السلام صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركاً".
رواه البزار في زوائده [كما في كشف الأستار (1/ 66)] قال: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الله بن الوزير الطائفي، حدثنا محمد بن جابر، عن سماك بن حرب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه، به. قال البزار:"لا نعلم رواه بهذا الإسناد إلا محمد بن جابر". اهـ
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 117): "ولم أر من ذكر محمد بن جابر هذا". اهـ
(4)
أخرج الطبراني في الكبير (11/ 374)، من طريق أبي الدرداء ـ عبد العزيز بن المنيب، ثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن يستندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم، فذهب فنزل على قبر أمه فناجى =
113]، وحديث أنه قال لابني مُليكة:"أمكما في النار. فشق عليهما، فدعاهما فقال: إنَّ أُمّي مع أمكما". (1)
قلت: الجواب أَنَّ غالب ما يروى من ذلك ضعيف، ولم يصح في أم النبي صلى الله عليه وسلم سوى حديث أنه استأذن في الاستغفار لها فلم يُؤذن له، ولم يصح أيضاً في أبيه إلا حديث مسلم خاصة، وسيأتي الجواب عنهما.
= ربه طويلاً، ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه، وبكى هؤلاء لبكائه وقالوا: ما بكى نبي الله صلى الله عليه وسلم بهذا المكان إلا وقد حدث في أمته شيء لا نطيقه، فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: يا نبي الله، بكينا لبكائك قلنا: لعله حدث في أمتك شيء لا تطيقه، قال: لا، وقد كان بعضه، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة، فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي أمي، فبكيت، ثم جاءني جبريل عليه السلام فقال:(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) [التوبة: 114]، فتبرأ من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، فرحمتها وهي أمي .... ".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 117): "فيه أبو الدرداء، وعبد الغفار بن المنيب، عن إسحاق بن عبدالله، عن أبيه، عن عكرمة، ومن عدا عكرمة لم أعرفهم ولم أر من ذكرهم". اهـ
وأخرج الحاكم في المستدرك (2/ 366)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1893)، كلاهما من طريق أيوب بن هانئ، عن مسروق، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً، ثم بكى فبكينا لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي؛ فأنزل علي: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ".
قال الذهبي في التلخيص: "أيوب بن هانئ ضعفه ابن معين". وضعف الحديث الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (11/ 221 - 222)، وقال:"وفي الحديث نكارة ظاهرة، وهي نزول الآيتين في زيارته صلى الله عليه وسلم لقبر أمه، والمحفوظ أنهما نزلتا في موت عمه أبي طالب مشركاً". اهـ
وأخرج الإمام أحمد في مسنده (5/ 355)، من حديث ابن بريدة، عن أبيه نحوه، وفيه:"نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب". ولم يذكر نزول الآية.
ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (6/ 489) من هذا الوجه، وفيه:"لما قدم مكة أتى رسم قبر".
ورواه أيضاً من طريق فضيل بن مرزوق، عن عطية:"لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس، رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها؛ فنزلت الآية".
(1)
سبق تخريجه في أول المسألة.
قال: وأما الأحاديث التي ذُكِرَت؛ فحديث: "ليت شعري ما فعل أبواي؛ فنزلت الآية" لم يُخرَّج في شيء من الكتب المعتمدة، وإنما ذُكِرَ في بعض التفاسير بسند منقطع لا يحُتج به، ولا يُعَوُّل عليه.
وأما حديث أنَّ جبريل ضرب في صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركاً؛ فإنَّ البزار أخرجه بسند فيه من لا يُعرف. وأما نزول الآية في ذلك فضعيف أيضاً، والثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب (1).
وأما حديث: "أمي مع أمكما"، فأخرجه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح. وشأن المستدرك في تساهله في التصحيح معروف، وقد تقرر في علوم الحديث أنه لا يُقبل تَفَرُّدُه بالتصحيح، ثم إنَّ الذهبي في مختصر المستدرك ـ لما أورد هذا الحديث ونقل قول الحاكم صحيح ـ قال عقبه:"قلت: لا والله، فعثمان بن عمير ضعفه الدارقطني". فبيَّن الذهبي ضعف الحديث، وحلف عليه يميناً شرعياً.
قال السيوطي: فإنْ قلتَ: بقيت عقدة واحدة، وهي ما رواه مسلم عن أنس أَنَّ رجلاً قال:"يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إنَّ أبي وأباك في النار"(2)، وحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أنه صلى الله عليه وسلم استأذن في الاستغفار لأمه فلم يُؤذن له"(3)، فاحلل هذه العقدة. قلت: على الرأس والعين:
(1) عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:"لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة: 113]، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)) [القصص: 56] ".
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المناقب، حديث (3884)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (24)، واللفظ لمسلم.
(2)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(3)
سبق تخريجه في أول المسألة.
والجواب: أَنَّ هذه اللفظة وهي قوله: "إنَّ أبي وأباك في النار"، لم يتفق على ذكرها الرواة، وإنما ذكرها حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، وهي الطريق التي رواه مسلم منها، وقد خالفه معمر، عن ثابت (1)، فلم يذكر:"إنَّ أبي وأباك في النار"، ولكن قال له:"إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار"(2). وهذا اللفظ لا دلالة فيه على والده صلى الله عليه وسلم بأمر ألبتة، وهو أثبت من حيث الرواية؛ فإنَّ معمراً أثبت من حماد، فإنَّ حماداً تُكُلِّمَ في حفظه، ووقع في أحاديثه مناكير، ذكروا أَنَّ ربيبه دَسَّها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ، فحدَّث بها فوهِم فيها، ومن ثَمَّ لم يخرج له البخاري شيئاً، ولا خَرَّج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت، قال الحاكم في "المدخل":"ما خَرَّج مسلم لحماد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد خَرَّج له في الشواهد عن طائفة". (3)
قال السيوطي: وأما معمر فلم يُتَكَلَّم في حفظه، ولا استُنْكِرَ شيءٌ من حديثه، واتفق على التخريج له الشيخان، فكان لفظه أثبت، ثم وجدنا الحديث ورد من حديث سعد بن أبي وقاص، بمثل لفظ رواية معمر، عن ثابت، عن أنس؛ فأخرج البزار، والطبراني، والبيهقي، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه:"أَنَّ أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال: حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار". (4) وهذا إسناد على شرط الشيخين، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره.
وأخرج ابن ماجة، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إنَّ أبي كان يصل الرحم، وكان؛ فأين هو؟ قال: في النار. قال: فكأنه وجد من ذلك فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيث مررت بقبر مشرك فبشره بالنار. قال: فأسلم الأعرابي بَعْدُ وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار"(5).
(1) لم أقف على رواية معمر عن ثابت.
(2)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
(3)
لم أجد هذا النص في المدخل للحاكم.
(4)
تقدم في أول المسألة.
(5)
تقدم في أول المسألة.
قال السيوطي: فهذه الزيادة أوضحت بلا شك أَنَّ هذا اللفظ العام هو الذي صدر منه صلى الله عليه وسلم، ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمراً مقتضياً للامتثال، فلم يَسَعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء ألبتة، فُعُلِمَ أَنَّ هذا اللفظ الأول من تصرف الراوي، رواه بالمعنى على حسب فهمه". اهـ (1)
أجوبة القائلين بتعذيب أبوي النبي صلى الله عليه وسلم على أدلة القائلين بنجاتهما:
أولاً: أجوبتهم عن حديث الإحياء:
أجاب القائلون بتعذيب أبوي النبي صلى الله عليه وسلم عن حديث الإحياء بأنه حديث باطل وموضوع.
وممن قال ببطلانه: الدارقطني، والحافظ ابن دحية الكلبي (2)، وابن الجوزي، وابن عساكر، والذهبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن سَيِّدِ الناس (3)(4)، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والجوزقاني، ومحمد شمس الحق العظيم آبادي، والألباني، وغيرهم. (5)
قال ابن الجوزي ـ بعد روايته للحديث ـ: "هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليل الفهم، عديم العلم، إذ لو كان له علم لعلم أَنَّ من مات كافراً لا ينفعه أنْ يؤمن بعد الرجعة، لا بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، ويكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى:(فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) [البقرة:
(1) مسالك الحنفا في والدي المصطفى، للسيوطي (2/ 389 - 394).
(2)
هو: عمر بن الحسن بن علي بن محمد، أبو الخطاب، ابن دحية الكلبي: أديب، مؤرخ، حافظ للحديث، من أهل سبتة بالأندلس. ولي قضاء دانية، ورحل إلى مراكش والشام والعراق وخراسان، واستقر بمصر. وكان كثير الوقيعة في العلماء والأئمة فأعرض بعض معاصريه عن كلامه، وكذبوه في انتسابه إلى (دحية) وقالوا: إن دحية الكلبي لم يُعَقِّبْ. من تصانيفه: (نهاية السول في خصائص الرسول)، و (النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس)، وغيرها، توفي بالقاهرة سنة (633هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (22/ 389)، والأعلام، للزركلي (5/ 44).
(3)
هو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيد الناس، اليعمري الربعي، أبو الفتح، فتح الدين: مؤرخ، عالم بالأدب، من حفاظ الحديث، أصله من إشبيلية، ومولده ووفاته في القاهرة. من تصانيفه (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير)، و (بشرى اللبيب في ذكرى الحبيب)، و (النفح الشذي في شرح جامع الترمذي)، وغيرها. توفي سنة (734هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (7/ 34).
(4)
عيون الأثر في فنون المغازي والسير، لابن سيد الناس (1/ 152).
(5)
انظر على الترتيب: لسان الميزان، لابن حجر (4/ 192)، وفيه النقل عن الدارقطني، وأدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه السلام، لعلي القاري، ص (88)، وفيه النقل عن الحافظ ابن دحية، والموضوعات، لابن الجوزي (1/ 284)، ولسان الميزان، لابن حجر (4/ 305)، وفيه النقل عن ابن عساكر، وميزان الاعتدال، للذهبي (4/ 437)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 324)، وتفسير ابن كثير (1/ 167) و (2/ 408)، والبداية والنهاية، لابن كثير (2/ 261)، ولسان الميزان، لابن حجر (4/ 305)، والأباطيل والمناكير، للجوزقاني (1/ 377)، وعون المعبود، للآبادي (12/ 324)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (6/ 181).
217]، وقوله في الصحيح:"استأذنت ربي أنْ أستغفر لأمي فلم يأذن لي". اهـ (1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وقد سُئِل: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟
فأجاب: - "لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث; بل أهل المعرفة متفقون على أَنَّ ذلك كذب مختلق، وإنْ كان قد رَوَى في ذلك أبو بكر - يعني الخطيب - في كتابه (السابق واللاحق) وذكره أبو القاسم السهيلي في (شرح السيرة) بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد الله القرطبي في (التذكرة)، وأمثال هذه المواضع لا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذباً كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث; لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد، ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإنْ كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإنَّ مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله؛ فإنه من أعظم الأمور خرقاً للعادة من وجهين: من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت. فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات عُلِمَ أنه كذب". اهـ (2)
وقال الألباني: "كثيراً ما تجمح المحبة ببعض الناس، فيتخطى الحجة ويحاربها، ومن وفق علم أَنَّ ذلك مناف للمحبة الشرعية، وممن جمحت به المحبة السيوطي ـ عفا الله عنه ـ فإنه مال إلى تصحيح حديث الإحياء الباطل عند كبار العلماء، وحاول في كتابه (اللآلىء) التوفيق بينه وبين حديث الاستئذان وما في معناه بأنه منسوخ، وهو يعلم من علم الأصول أَنَّ النسخ لا يقع في الأخبار وإنما في الأحكام! وذلك أنه لا يُعقل أنْ يُخبر الصادق المصدوق عن شخص أنه في النار ثم ينسخ ذلك بقوله: إنه في الجنة! كما هو ظاهر معروف لدى العلماء". اهـ (3).
(1) الموضوعات، لابن الجوزي (1/ 284).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 324 - 325).
(3)
سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (6/ 181).
ثانياً: أجوبتهم عن دعوى ضعف حديث مسلم: "إنَّ أبي وأباك في النار":
ما ادعاه السيوطي ـ من ضعف حديث: "إنَّ أبي وأباك في النار"، وتفرد حماد بن سلمة بلفظه ـ أجاب عنه بعض المتأخرين كالألباني وتلميذه أبي إسحاق الحويني، وقد أطال الأخير في الرد على السيوطي، وسأنقل مناقشته كاملة نظراً لأهميتها وتناولها لجميع ما أورده السيوطي:
قال أبو إسحاق الحويني: "الجوابُ عما ادعاه السيوطي من وجوهٍ:
الأول: أَنَّ السيوطي ضعَّف حديث مسلمٍ، وبنى تضعيفه على مقدمةٍ، وهي: أَنَّ معمر بن راشد خالف حماد بن سلمة في لفظه، ومعمر بن راشد أوثق من حماد بن سلمة، وهذه المقارنةُ حيدةٌ مكشوفة، فإنَّ الأمر لا يخفى على أحدٍ من المشتغلين بالحديث، ومنهم السيوطي نفسه، فإنَّ أهل العلم بالحديث قالوا: أثبت الناس في ثابت البناني هو حمادُ بن سلمة، ومهما خالفه من أحدٍ فالقولُ قولُ حمادٍ.
قال أبو حاتم الرازي: "حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابتٍ وفي علي بن زيد"(1)، وقال أحمد بن حنبل:"حماد بن سلمة أثبت في ثابتٍ من معمر"(2)، وقال يحيى بن معينٍ:"من خالف حماد بن سلمة فالقول قول حمادٍ. قيل: فسليمانُ بن المغيرة عن ثابت؟ قال: سليمانُ ثبتٌ، وحماد أعلم الناس بثابت"(3)، وقال ابنُ معينٍ مرة:"أثبت الناس في ثابت: حماد بن سلمة"(4)، وقال العقيلي:"أصح الناس حديثًا عن ثابت: حماد بن سلمة". (5)
قال الحويني: وقد أكثر مسلمٌ من التخريج لحماد بن سلمة عن ثابت في الأصول، أما معمر بن راشد فإنه وإن كان ثقةً في نفسه إلَاّ أَنَّ أهل العلم بالحديث كانوا يضعفون روايته عن ثابت البناني، ولم يخرج له مسلمٌ شيئًا في
(1) علل الحديث، لأبي حاتم الرازي (1/ 405).
(2)
انظر: تهذيب الكمال، للمزي (7/ 259)، وتهذيب التهذيب، لابن حجر (3/ 11).
(3)
انظر: تاريخ ابن معين، رواية الدوري (4/ 265)، وتهذيب الكمال، للمزي (7/ 262).
(4)
انظر: التعديل والتجريح، لأبي الوليد الباجي (2/ 523)، وشرح علل الترمذي، لابن رجب (2/ 690).
(5)
انظر: ضعفاء العقيلي (2/ 291).
صحيحه عن ثابت إلا حديثًا واحدًا في المتابعات، ومقرونًا بعاصم الأحول، وهذا يدلك على مدى ضعف رواية معمر عن ثابت، ولذلك قال ابنُ معين:"معمر عن ثابت: ضعيفٌ"(1)، وقال مرَّةً:"وحديث معمر عن ثابت، وعاصم بن أبي النجود، وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطربٌ كثيرُ الأوهام"(2)، وقال العقيلي:"أنكرُ الناس حديثًا عن ثابت: معمر بن راشد"(3).
قال الحويني: وبعد هذا البيان فما هي قيمة المفاضلة التي عقدها السيوطي بين الرجلين، فالصوابُ: رواية حماد بن سلمة، ورواية معمر بن راشد منكرة.
الوجه الثاني: قولُ السيوطي: إنَّ ربيب حماد بن سلمة دسَّ في كتبه أحاديث مناكير وانطلى أمرها على حمادٍ لسوء حفظه. وهذه تهمة فاجرةٌ، كما قال الشيخ المعلمي رحمه الله (4)، ومستند كل من تكلَّم بهذه التهمة ما ذكره الذهبي في (ميزان الاعتدال) (5) من طريق الدولابي قال: حدثنا محمد بن شجاع بن الثلجي، حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي، قال: كان حماد بن سلمة لا يُعرف بهذه الأحاديث - يعني أحاديث الصفات - حتى خرج مرة إلى عبادان، فجاء وهو يرويها، فلا أحسب إلا شيطانًا خرج إليه من البحر فألقاها إليه. قال ابن الثلجي: فسمعتُ عباد بن صهيب يقول: إنَّ حمادًا كان لا يحفظ، وكانوا يقولون: إنها دُسَّت في كتبه. وقد قيل: إنَّ ابن أبي العوجاء كان ربيبه فكان يدس في كتبه، وعلَّق الذهبي على هذه الحكاية بقوله:"ابن الثلجي ليس بمصدق على حمادٍ وأمثاله، وقد اتُهم، نسأل اللَّه السلامة". اهـ
(1) انظر: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي (6/ 481)، وشرح علل الترمذي، لابن رجب (2/ 804).
(2)
انظر: التعديل والتجريح، لأبي الوليد الباجي (2/ 742)، وشرح علل الترمذي، لابن رجب (2/ 691).
(3)
انظر: ضعفاء العقيلي (2/ 291).
(4)
انظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، للمعلمي (1/ 243).
(5)
ميزان الاعتدال، للذهبي (2/ 362).
قال الحويني: وابن الثلجي هذا كان جهميًا عدوًا للسنة، وقد اتهمه ابنُ عدي بوضع الأحاديث وينسبها لأهل الحديث يثلبهم بذلك (1)، فالحكاية كلُّها كذب، فكيف يُثلب حماد بن سلمة بمثل هذا.
الوجه الثالث: قولُهُ: "ولم يخرج له البخاري شيئًا". وقد تقرر عند أهل العلم أَنَّ ترك البخاري التخريج لراوٍ لا يعني أنه ضعيفٌ، وقد عاب ابنُ حبان على البخاري أنه ترك حماد بن سلمة وخرَّج لمن هو أدنى منه حفظًا وفضلاً، فقال:"ولم ينصف من جانب حديث حماد بن سلمة، واحتج بأبي بكر بن عياش، وبابن أخي الزهري، وبعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار، فإن كان تركُه إياه لما كان يخطئُ، فغيرُهُ من أقرانه مثل الثوري وشعبة وذويهما كانوا يخطئون، فإن زعم أَنَّ خطأه قد كثر من تغير حفظه، فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجودًا، وأنَّى يبلغُ أبو بكر حماد بن سلمة في إتقانه، أم في جمعه؟ أم في عمله؟ أم في ضبطه". اهـ (2)
الوجه الرابع: في ذكر الشاهد الذي احتج به السيوطي لتقوية لفظ معمر بن راشد، فهذا الحديث أخرجه البزار، وابن السني، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، والضياء المقدسي، من طريق زيد بن أخزم، ثنا يزيد بن هارون، ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه:"أَنَّ أعرابيًّا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال: حيثما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار". (3)
قال السيوطي: "وهذا إسنادٌ على شرط الشيخين".
قال الحويني: وليس كما قال لما يأتي.
وذكر ابنُ كثير هذا الحديث في (البداية والنهاية)(4) وقال: "غريبٌ". وقد خولف زيد بن أخزم في إسناده؛ فخالفه محمد بن إسماعيل بن البختري الواسطيُّ، فرواه عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن سالم، عن
(1) انظر: الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي (2/ 260).
(2)
انظر: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي (2/ 361)، وشرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 414 - 415).
(3)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(4)
البداية والنهاية (2/ 260).
أبيه. فذكره. (1)
قال الحويني: ولا شك في تقديم رواية زيد بن أخزم لأمرين:
الأول: أنه أثبت من محمد بن إسماعيل بن البختري.
الثاني: أنه توبع عليه، كما في رواية البزار، والذي تابعه هو محمد بن عثمان بن مخلد، وقد سُئل عنه أبو حاتم فقال:"شيخ"(2)، وقال ابنُ أبي حاتم:"صدوق"(3)، ووثقه ابنُ حبان (4)، وقد ذكر البزار أَنَّ يزيد بن هارون تفرّد به، وليس كما قال، فقد تابعه محمد بن أبي نعيم الواسطي، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه. أخرجه الطبراني في الكبير قال: حدثنا عليُّ بن عبد العزيز، نا محمد بن أبي نعيم. وهذه متابعةٌ جيدة، وابن أبي نعيم وثقه أبو حاتم وابن حبان، وكذا صدَّقه أحمد بن سنان القطان. وكذبه ابنُ معينٍ وأبعد في ذلك. وقد أعلَّ أبو حاتم هذا الحديث بقوله: "كذا رواه يزيد وابن أبي نعيم، ولا أعلمُ أحدًا يجاوز به الزهري غيرهما، إنما يروونه عن الزهري، قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم
…
، والمرسل أشبه". ذكره ولده في (العلل)(5).
قال الحويني: وقولُ أبي حاتم متعقَّبٌ أيضًا بأنه قد رواه اثنان آخران متصلاً وهما: الوليد بن عطاء بن الأغر، عن إبراهيم بن سعد، به. ذكره الدارقطنيُّ في (العلل)(6). والوليد صدوق.
والثاني: الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد. أخرجه البيهقيُّ في (الدلائل)(7)، وسنده صحيحٌ. وقد رجح الضياء المقدسي الرواية المتصلة (8)، على حين رجح أبو حاتم الرواية المرسلة، وقول أبي حاتم هو الصواب، وهذه الرواية المرسلة أخرجها عبدالرزاق في (المصنف)(9)، عن معمر بن
(1) تقدم في أول المسألة ذكر جميع طرق هذا الحديث.
(2)
الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (8/ 25).
(3)
المصدر السابق.
(4)
الثقات، لابن حبان (9/ 120).
(5)
العلل، لابن أبي حاتم (2/ 256).
(6)
العلل، للدارقطني (4/ 334).
(7)
دلائل النبوة، للبيهقي (1/ 191).
(8)
الأحاديث المختارة، للمقدسي (3/ 202).
(9)
المصنف، لعبد الرزاق (10/ 454).
راشد، عن الزهري قال: جاء أعرابي
…
، وساق الحديث. فهكذا اختلف إبراهيمُ بن سعد ومعمر بن راشد، ولا شك عندنا في تقديم رواية معمر المرسلة؛ لأن معمرًا ثبتٌ في الزهري، وأما إبراهيم بن سعد فقد قال صالح بن محمد الحافظ:"سماعه من الزهري ليس بذاك؛ لأنه كان صغيرًا حين سمع من الزهري"(1)، وقال ابن معين، وسئل: إبراهيم بن سعد أحب إليك في الزهري أو ليث بن سعد؟ قال: "كلاهما ثقتان"(2). فإذا تدبرت قول يعقوب بن شيبة في الليث: "ثقة وهو دونهم في الزهري - يعني: دون مالك ومعمر وابن عيينة - وفي حديثه عن الزهري بعض الاضطراب"(3)، علمت أَنَّ قول ابن معين لا يفيد أنه ثبت في الزهري مثل معمر.
قال الحويني: فالذي يتحرر من هذا البحث أَنَّ الرواية المرسلة هي المحفوظة، وهي التي رجحها أبو حاتم الرازي والدارقطني، فلا معنى للقول أنه على شرط الشيخين بعد ثبوت هذه المخالفة.
قال الحويني: وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في صحيح مسلم (4)، والذي فيه:"أَنَّ اللَّه نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار لأمه"، فلم يتعرض له السيوطي إلا بجوابٍ مجملٍ، وهذا الحديث صريح في عدم إيمانها؛ لأن اللَّه عز وجل قال:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113]، وقد نزلت هذه الآية في أبي طالبٍ. (5)
وبهذا الجواب ـ على اختصاره ـ يتبين أَنَّ الحديثين صحيحان لا مطعن فيهما، والحمد للَّه رب العالمين". اهـ (6)
(1) انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (1/ 106).
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق (8/ 414).
(4)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المناقب، حديث (3884)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (24).
(6)
الفتاوى الحديثية، لأبي إسحاق الحويني، من موقع الشيخ على الشبكة العالمية (الإنترنت)، قسم الموسوعة الحديثية، أسئلة عام: 1421هـ.