الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشكال: أنَّ وقت خروج الدجال يكون قبل زمن عيسى عليه السلام (1)، وعليه فإنه لا ينفع الكفار إيمانهم، ولا الفساق توبتهم، عند نزول عيسى عليه السلام؛ لأن باب التوبة قد أُغلق في زمن الدجال، وقد جاء النص صريحاً (2) بأنَّ الإيمان ينفع في زمن عيسى عليه السلام، وإلا لما صار الدين واحداً، ولا كان في نزوله كبير فائدة. (3)
الثاني: أنَّ النصوص متظافرةٌ على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، دون ذكر الدجال، أو الدابة. (4)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث:
مذهب عامة المفسرين أنَّ المراد بـ «البعض» في الآية، هو: طلوع الشمس من مغربها. (5)
(1) عن مُجَمِّعَ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ» .
أخرجه الترمذي، في سننه، في كتاب الفتن، حديث (2170). وحديث قتل ابن مريم للدجال مروي في صحيح مسلم، في كتاب الفتن، حديث (2897)، وحديث (2937).
(2)
سيأتي في «مبحث الترجيح» ما يدل على أن زمن عيسى عليه السلام ينفع فيه الإيمان.
(3)
انظر حكاية الإشكال في الكتب الآتية: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (7/ 243)، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي، ص (737)، وطرح التثريب، للعراقي (8/ 258)، وفتح الباري، لابن حجر (11/ 361)، وفيض القدير، للمناوي (3/ 81)، ولوامع الأنوار البهية، للسفاريني (2/ 141)، وروح المعاني، للآلوسي (8/ 424)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (4/ 547)، والعذب النمير، للشنقيطي (2/ 919).
وقد أشار الشنقيطي رحمه الله إلى أنه لم يقف على تحرير شافٍ للإشكال الوارد في الحديث، بحيث يمكن الرجوع إليه، ولعل في هذا البحث تحريراً لهذا الإشكال وحلاً له إن شاء الله تعالى.
(4)
سيأتي ذِكْرُ بعض هذه النصوص في مبحث الترجيح.
(5)
قال البغوي في تفسيره (2/ 144): «وعليه عامة المفسرين» ، وكذا قال الواحدي في الوسيط (2/ 340)، والآلوسي في تفسيره (8/ 424)، ونسبه للجمهور: ابنُ عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 367)، والقاسمي في «محاسن التأويل» (4/ 547)، وحكاه =
ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «التوبة معروضة على ابن آدم إن قَبلَهَا مالم تخرج إحدى ثلاث: مالم تطلع الشمس من مغربها، أو الدابة، أو فتح يأجوج ومأجوج» . (1)
وهذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه لا يصح، وقد رُويَ عنه من عدة طرق أنه فسر الآية بطلوع الشمس من مغربها دون ذكر الدابة، أو يأجوج ومأجوج. (2)
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه والذي فيه ذكر الثلاث؛ فقد قال بعض أهل العلم إنَّ التوبة تنقطع بخروج إحدى هذه الثلاث.
قال ابن هبيرة (3): «حكم هاتين الآيتين (يعني الدابة، والدجال) في أنَّ نفساً لا ينفعها إيمانها، الحكم في طلوع الشمس من مغربها» . اهـ (4)
وقال المناوي: «كلٌ من الثلاثة مستبد في أنَّ الإيمان لا ينفع بعد مشاهدتها؛ فأيها تقدمت ترتب عليها عدم النفع» . اهـ (5)
لكن مذهب عامة أهل العلم أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، وأما حديث أبي هريرة فلهم في الجواب عنه مسلكان:
الأول: مسلك قبول الحديث، مع توجيهه:
وهذا مذهب الجمهور من العلماء، حيث ذهبوا إلى توجيه الحديث،
= إجماعاً: البرزنجيُّ في «الإشاعة» ص (273)، غير أنه لم يجزم بذلك، حيث قال:«أجمع المفسرون أو جمهورهم» ، ونقل عبارته السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (2/ 133)، وصديق حسن خان في «الإذاعة» ص (206).
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 411)، والطبراني في الكبير (9/ 190)، من طُرُقٍ عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله .... ؛ فذكره. وفي سنده انقطاع، فإنَّ القاسمَ لم يَلْقَ ابنَ مسعود. قال علي بن المديني كما في «تهذيب التهذيب» (8/ 288):«لم يلق من الصحابة غير جابر بن سمرة» . وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 198) وقال: «رواه الطبراني بإسناد منقطع» .
(2)
انظر: تفسير ابن جرير الطبري (5/ 409 - 410).
(3)
هو: أبو المظفر، يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن بن جهم الشيباني الدوري العراقي الحنبلي، صاحب التصانيف، دخل بغداد في صباه وطلب العلم وجالس الفقهاء والأدباء، وسمع الحديث، وشارك في علوم الإسلام، ومهر في اللغة، وكان يعرف المذهب والعربية والعروض، سلفياً أثرياً، له كتاب «الإفصاح عن معاني الصحاح» شرح فيه صحيحي البخاري ومسلم في عشر مجلدات، وألف كتاب «العبادات» على مذهب الإمام أحمد. (ت: 560هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي
(20/ 426)، والبداية والنهاية، لابن كثير (12/ 251).
(4)
نقله عنه ابن مفلح، في «الآداب الشرعية» (1/ 116).
(5)
فيض القدير، للمناوي (3/ 298).
ودفع التعارض بينه وبين بقية الأحاديث، والتي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، ولهم في التوجيه مذاهب:
الأول: أنَّ عدم قبول التوبة مترتبٌ على مجموع الثلاث - الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها - فإذا اجتمعت الثلاث انقطعت التوبة، وطلوع الشمس هو آخرها، وهو الذي يتحقق به عدم القبول.
قال ابن مفلح - بعد أنْ أورد حديث «ثلاث إذا خرجن» -: «فهذا المراد به أنَّ طلوع الشمس آخر الثلاثة خروجاً؛ فلا تعارض بينه وبين ما سبق» . اهـ (1) يريد الأحاديث التي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها.
واختار هذا الجمع: المُلا علي بن سلطان القاري (2)، والمباركفوري (3)، غير أنهما لم يذكرا أنَّ طلوع الشمس من مغربها هو آخر الثلاث.
وذكر الشيخ حمود التويجري حديث أبي هريرة من رواية الإمام أحمد، والتي فيها لفظ «الدخان» بدل «الدجال» وبين أنَّ التوبة لا تزال مقبولة حتى تجتمع الثلاث، والتي آخرها طلوع الشمس من مغربها. (4)
المذهب الثاني: إنْ كان البعض المذكور في الآية عدة آيات؛ فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول، وإنْ كان إحدى آيات؛ فهو محمول على طلوع الشمس من مغربها؛ لأنه أعظم الثلاث.
ذكره القاسمي في تفسيره (5)، وهو بمعنى التوجيه الأول.
المذهب الثالث: أنَّ خروج الثلاث يكون متتابعاً، بحيث يكون الزمن الذي بينها يسير جداً؛ فتكون النسبة التي بينها مجازية، فكأنها خرجت في وقت واحد.
(1) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/ 115).
(2)
مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (10/ 107).
(3)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (8/ 357).
(4)
انظر: إتحاف الجماعة، للتويجري (2/ 322).
(5)
محاسن التأويل، للقاسمي (4/ 547).
ذكره الحافظ ابن حجر، وتعقبه بقوله:«وهذا بعيد؛ لأن مدة لبث الدجال إلى أنْ يقتله عيسى، ثم لبث عيسى وخروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك سابق على طلوع الشمس من المغرب» . اهـ (1)
قلت: بل جاء النص صريحاً بأن مدة لبث الدجال إلى أنْ يقتله ابن مريم عليه السلام، أطول من ذلك؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ .... » . (2)
وعن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قال: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ..... فقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» . (3)
وأما عيسى ابن مريم عليه السلام فقد جاء أنَّ مدة لبثه أربعون سنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عيسى فقال: « .... وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» (5).
(1) فتح الباري، لابن حجر (11/ 361).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2940). قال أبو العباس القرطبي في المفهم (7/ 302):«قوله: (فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة) هذا الشك من عبد الله بن عمرو، وقد ارتفع بالأخبار أنه أربعون يوماً» . وانظر: فتح الباري، لابن حجر
(13/ 112).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2937).
(4)
صحيح مسلم بشرح النووي (18/ 88).
(5)
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الفتن، حديث (4324)، وابن حبان في صحيحه =
فهذه النصوص وغيرها ترد القول بأن خروج الثلاث يكون متتابعاً، وأنَّ الزمن الذي بينها يسير، وحسبك مدة بقاء عيسى عليه السلام؛ فإنَّ مكثه أربعين سنة ليس بالزمن اليسير.
المذهب الرابع: ما قاله البيهقي: «إنْ كان في علم الله أنَّ طلوع الشمس سابقٌ احتمل أن يكون المراد نفى النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك، فإذا انقرضوا وتطاول الزمان وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليف الإيمان بالغيب، وكذا في قصة الدجال لا ينفع إيمانُ من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال، وينفعه بعد انقراضه» . اهـ (1)
قلت: يتخرج من كلام البيهقي أنَّ التوبة تنقطع عند طلوع الشمس من مغربها، ثم تعود بعد تطاول الزمان؛ فإذا خرج الدجال انقطعت، ثم تعود بعد ذلك لتنفع وقت عيسى عليه السلام.
وقريباً منه قول أبي عبد الله القرطبي: «توبة كل من شاهد ذلك (يعني طلوع الشمس من مغربها) أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش؛ لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده قد صار ضرورة؛ فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان، ولا يتحدثون عنه إلا قليلاً، فيصير الخبر عنه خاصاً وينقطع التواتر عنه؛ فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قُبلَ منه» . اهـ (2)
وأيّد ذلك:
1 -
بما رُوي: «أنَّ الشمس والقمر يُكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك» . (3)
2 -
وبما رُوي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: «يبقى الناس بعد
= (15/ 233)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (1/ 335) وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3/ 32)، حديث (4324).
(1)
نقله عنه الحافظ ابن حجر، في الفتح (11/ 362).
(2)
تفسير القرطبي (7/ 95 - 96). وانظر: التذكرة، ص (736).
(3)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/ 114) وقال: «أخرجه ابن مردويه بسند واهٍ عن ابن عباس مرفوعاً» .
طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، حتى يغرسوا النخل». (1)
3 -
وبما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «لا يقبل الله من كافر عملاً ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيراً يومئذ؛ فإنه لو أسلم بعد ذلك قُبِل ذلك منه، ومتى كان مؤمناً مذنباً فتاب من الذنب قُبِلت منه» . (2)
4 -
وبما رُوي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: «إنما لم يُقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم يُقبل منه، ومن تاب بعد ذلك قُبِلت منه» . (3)
ونقل الحافظ أبو زرعة العراقي عن شيخه البلقيني أنه قال: «إذا تراخى الحال بعد ذلك، وبَعُدَ العهد بهذه الآية، وتناساه أكثر الناس قُبِلت التوبة والإيمان بعد ذلك؛ لزوال الآية التي تضطر الناس إلى الإيمان» . اهـ (4)
ونقله عن البلقيني: الإمام الآلوسي، ومال إليه وأيَّده. (5)
واعتُرِضَ على هذا المذهب: بأن لا دليل عليه، وبأن الأخبار الصحيحة ترده؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . (6) فمفهوم هذا الحديث أنَّ من تاب بعد ذلك لم تُقبل منه. (7)
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 506)، ونعيم بن حماد في كتاب «الفتن» (2/ 656، 702)، كلاهما عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي خيثمة، عن عبد الله بن عمرو، موقوفاً.
وذكره العيني في «عمدة القاري» (18/ 230 - 231) فقال: «وروى ابن خالويه في (أماليه) من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي حميد الحميري، عن ابن عمرو، مرفوعاً .... ؛ فذكره» .
قال الحافظ ابن حجر، في «الفتح» (11/ 361):«رفعه لا يثبت، وقد أخرجه عبد بن حُميد في تفسيره بسند جيد، عن عبد الله بن عمرو، موقوفاً» . اهـ
(2)
ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره (1/ 526).
(3)
ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره (1/ 526).
(4)
طرح التثريب، للعراقي (8/ 260).
(5)
روح المعاني، للآلوسي (8/ 425).
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الذكر والدعاء، حديث (2703).
(7)
انظر: طرح التثريب، للعراقي (8/ 260)، وفتح الباري، لابن حجر (11/ 362)، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (10/ 45).