الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وادعائهم أنه مدح آلهتهم؛ فيكون مقراً لهم على الباطل، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يُقرَّ على ذلك. ومنها: كونه صلى الله عليه وسلم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك، وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضاً جواز تَصَوّر الشيطان بصورة الملك، ملبساً على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح ذلك.
ومنها: التقوّل على الله تعالى إما عمداً أو خطأ أو سهواً، وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام، وقد أجمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال، عن الإخبار بخلاف الواقع، لا قصداً ولا سهواً. ومنها: الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يُؤمن فيه التبديل والتغيير ولا يندفع». اهـ (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث:
للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث أربعة مسالك، نجملها أولاً ثم نتكلم عنها بالتفصيل:
الأول: مسلك رد الحديث وإنكاره، مع توجيهه على التسليم بثبوته.
الثاني: مسلك رد الحديث وإنكاره مطلقاً.
الثالث: مسلك قبول الحديث، مع تأويله وصرفه عن ظاهره.
الرابع: مسلك قبول الحديث مطلقاً، وإعماله على ظاهره من دون تأويل.
وفيما يلي تفصيل هذه المسالك:
الأول: مسلك رد الحديث وإنكاره، مع توجيهه على التسليم بثبوته.
وهذا مسلك جمع من المفسرين والمحدثين، وممن ذهب إليه: النحاس، وأبو بكر الباقلاني، وابن العربي، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي، وابن كثير، والتفتازاني، والشوكاني، والطاهر ابن عاشور، والشنقيطي، والألباني.
(1) روح المعاني (17/ 230 - 231).
حيث ذهب هؤلاء إلى تضعيف الحديث الوارد في سبب نزول الآية، والإجابة عنه على التسليم بثبوته.
قال القاضي عياض: «اعلم ـ أكرمك الله ـ أنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني: على تسليمه؛ أما المأخذ الأول .... » ، ثم ذكر هذا المأخذ مبيناً فيه علل الحديث، وقد نقلتُ لك كلامه عند تخريجي للحديث.
أجوبة أصحاب هذا المسلك عن الحديث على التسليم بثبوته:
أصحاب هذا المسلك ينكرون ثبوت القصة مطلقاً؛ إلا أنهم أجابوا
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 79 - 81)، باختصار.
عنها بأجوبة، وذلك على التسليم بصحتها، ومن أجوبتهم:
الجواب الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن بمحضر من مشركي قريش، فارتصده الشيطان في سكتة من سكتاته، فنطق بتلك الكلمات محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسمعها من دنا إليه من المشركين، وظنها من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأشاعوها وتناقلوها على أنها من قوله صلى الله عليه وسلم.
وممن قال بهذا الجواب:
ابن العربي، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي، وابن كثير، والتفتازاني، والشوكاني، والشنقيطي، والألباني. (1)
وقال القاضي عياض: «والذي يظهر ويترجح في تأويله ـ على تسليمه ـ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ـ كما أمره ربه ـ يرتل القرآن ترتيلاً، ويفصِّلُ الآي تفصيلاً في قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصُد الشيطان لتلك السكتات، ودسِّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يسمعه
(1) انظر على الترتيب: أحكام القرآن، لابن العربي (3/ 306 - 307)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 79 - 83)، وزاد المسير (322)، وكشف المشكل (1/ 274)، كلاهما لابن الجوزي، وتفسير القرطبي (12/ 56)، وتفسير ابن كثير (3/ 240)، وشرح المقاصد في علم الكلام، للتفتازاني (2/ 197)، وفتح القدير، للشوكاني (3/ 662)، وأضواء البيان، للشنقيطي (5/ 731) و (10/ 209)، ونصب المجانيق، للألباني، ص (63).
(2)
أحكام القرآن، لابن العربي (3/ 306).
من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها على ما عُرِفَ منه». اهـ (1)
وتعقب هذا الجواب الفخر الرازي فقال: «وهذا ضعيف؛ فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول صلى الله عليه وسلم، بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع» . اهـ (2)
الجواب الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ـ في أثناء تلاوته ـ على جهة التقريع والتوبيخ للكفار. وهذا جواب أبي بكر الباقلاني. (3)
قال القاضي عياض: «وهذا ممكن، مع بيان الفصلِ، وقرينةٍ تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوِ، ولا يُعترضُ على هذا بما رُوي أنه كان في الصلاة؛ فقد كان الكلام قبلُ فيها غير ممنوع» . اهـ (4)
الجواب الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة، وبلغ ذكر اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، خاف الكفارُ أن يأتي بشيء من ذمِّها؛ فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين؛ ليُخَلِّطوا في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويشنِّعوا عليه على عادتهم وقولهم:(لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26]، ونُسِبَ هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه.
وهذا جواب الطاهر ابن عاشور. (5)
وذكره القاضي عياض، والفخر الرازي، ولم ينسباه لأحد. (6)
إلا أنَّ الفخر الرازي تعقبه فقال: «هذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أنه
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 82).
(2)
مفاتيح الغيب (23/ 46).
(3)
الانتصار للقرآن (1/ 63).
(4)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 82).
(5)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (17/ 305).
(6)
انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 83)، ومفاتيح الغيب، للرازي (23/ 46).
لو كان كذلك لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم إزالة الشبهة، وتصريح الحق، وتبكيت ذلك القائل، وإظهار أنَّ هذه الكلمة منه صدرت. وثانيهما: لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل». اهـ (1)
الجواب الرابع: أنَّ المراد بالغرانيق العلى: الملائكة (2)، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله، ويعبدونها، فَسِيقَ ذِكْرُ الكلِّ لِيَرُدَّ عليهم بقوله:(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21))؛ فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: قد عظَّم آلهتنا، ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته.
وهذا جواب أبي جعفر النحاس. (3)
وذكره القاضي عياض جواباً آخر، على تسليم القصة. (4)
وتعقبه القشيري (5) فقال: «وهذا غير سديد؛ لقوله: (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة» . اهـ (6)
الجواب الخامس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بقوله: (تلك الغرانيق العلى)، ولا الشيطان تكلم به، ولا أحد تكلم به، لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه مما رووه من قولهم:(تلك الغرانيق العلى) وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال.
ذكر هذا الجواب الفخر الرازي وتعقبه فقال: «وهو ضعيف لوجوه: أحدها: أنَّ التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه. وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض؛ فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في
(1) مفاتيح الغيب، للرازي (23/ 46).
(2)
روي عن مجاهد والكلبي تفسير الغرانيق بالملائكة. انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 82).
(3)
إعراب القرآن، للنحاس (3/ 103).
(4)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 82).
(5)
هو: بكر بن محمد بن العلاء بن محمد بن زياد، أبو الفضل، القشيري، ويقال له: بكر بن العلاء: قاضٍ من علماء المالكية من أهل البصرة. انتقل إلى مصر قبل سنة 330 هـ وتوفي بها عن نيف وثمانين سنة. له كتب، منها (أحكام القرآن) و (الرد على المزني) و (الأشربة) و (أصول الفقه) ومسائل الخلاف) و (الرد على القدرية). قال القاضي عياض: ورأيت له كتاب (مآخذ الأصول) وكتاب (تنزيه الأنبياء عليهم السلام وكتاب (ما في القرآن من دلائل النبوة). (ت: 344 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (2/ 69).
(6)
نقله عنه القرطبي في تفسيره (12/ 57).
الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات. وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان». اهـ (1)
الثاني: مسلك رد الحديث وإنكاره مطلقاً.
وهذا مسلك الأكثر من المفسرين والمحدثين، وممن ذهب إليه: ابن خزيمة، والجصاص، وابن حزم، والبيهقي، والقاضي ابن عطية، والسهيلي، والفخر الرازي، وأبو العباس القرطبي، وعبد العظيم المنذري، والبيضاوي، والطيبي، وأبو حيان، والعيني، وأبو السعود، والآلوسي، والقاسمي، والمباركفوري، وسيد قطب، والأستاذ محمد عبده، وابن باز. (2)
قال ابن خزيمة: «هذه القصة من وضع الزنادقة» . (3)
وقال ابن حزم: «وأما الحديث الذي فيه: (وأنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى) فكذب بحت موضوع؛ لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد» . اهـ (4)
(1) مفاتيح الغيب (23/ 45).
(2)
انظر على الترتيب: مفاتيح الغيب، للرازي (23/ 44)، وفيه النقل عن ابن خزيمة، وأحكام القرآن، للجصاص (3/ 322)، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 311)، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح (3/ 4)، وفيه النقل عن البيهقي، والمحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 129)، والروض الأنف، للسهيلي (2/ 154)، ومفاتيح الغيب، للرازي (23/ 44)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 198)، وعيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، لابن سيد الناس (1/ 141)، وفيه النقل عن المنذري، وتفسير البيضاوي (4/ 134)، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح (3/ 4)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (6/ 352)، وعمدة القاري، للعيني (7/ 100)، وتفسير أبي السعود (6/ 113)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 240)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (7/ 255)، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري (3/ 137)، وفي ظلال القرآن، لسيد قطب (4/ 2433)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (7/ 261 - 269)، وفيه النقل عن محمد عبده، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (8/ 301 - 302) و (24/ 282).
(3)
نقله عنه الفخر الرازي في «مفاتيح الغيب» (23/ 44).
(4)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 311).
وقال البيهقي: «هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل» . (1)
أدلة القائلين بضعف الحديث وبطلانه، وهم أصحاب المسلك الأول والثاني:
استدل هؤلاء على بطلان القصة بأدلة منها:
الأول: أنَّ في سياق آيات النجم التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى - في اللات والعزى -: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)[النجم: 23] وليس من المعقول أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخراً عن ذكره لها بالخير المزعوم، إلا وغضبوا ولم يسجدوا؛ لأن العبرة بالكلام الأخير. (3)
الدليل الثاني: أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول وهي الآيات الدالة على أنَّ الله لم يجعل للشيطان سلطاناً على النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل وأتباعهم المخلصين؛ كقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)) [النحل: 99 - 100]، وقوله تعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)) [الحجر: 42]، وقوله تعالى:(وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ)[سبأ: 21]، وقوله:(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)[إبراهيم: 22]، وعلى القول المزعوم أنَّ الشيطان ألقى على
(1) نقله عنه الطيبي في شرح مشكاة المصابيح (3/ 4).
(2)
المحرر الوجيز (4/ 129).
(3)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (5/ 729)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 236)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (17/ 304 - 305).
لسانه صلى الله عليه وسلم ذلك الكفر البواح، فأي سلطان له أكبر من ذلك. (1)
الدليل الثالث: قوله تعالى في النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) [النجم: 3 - 4]، وقوله:(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)) [الشعراء: 221 - 222]، وقوله:(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)) [الحاقة: 44 - 46]، وقوله - في القرآن العظيم -:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) [الحجر: 9]، وقوله تعالى:(وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)) [فصلت: 41 - 42]، فقوله:(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ) فعلٌ في سياق النفي، والفعل في ساق النفي من صيغ العموم، وهو في الآية يعم نفي كل باطل يأتي القرآن، وقد أكد هذا العموم بقوله:(مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، فلو قدَّرْنا أنَّ الشيطان أدخل في القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم قوله:(تلك الغرانيق العلى) لكان قد أتى القرآنَ أعظمُ باطلٍ بين يديه ومن خلفه؛ فيكون تصريحاً بتكذيب الله جل وعلا في قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ)، وكلُّ خبرٍ ناقضَ القرآنَ العظيم فهو كاذب؛ للقطع بصدق القرآن العظيم، ونقيضُ الصادقِ كاذبٌ ضرورة. (2)
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74)) [الإسراء: 73 - 74]، وهاتان الآيتان تردان الخبر المروي في سبب نزول الآية؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم؛ فمضمون هذا ومفهومه أنَّ الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً! وفي هذا الخبر الواهي أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وأنه صلى الله عليه وسلم قال: افتريت على الله، وقلت ما لم يقل، وهذا ضد مفهوم الآية، وهو يدل على ضعف
(1) انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (5/ 729)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 230).
(2)
انظر: مفاتيح الغيب، للرازي (23/ 44)، وفتح القدير، للشوكاني (3/ 661)، وأضواء البيان (5/ 729)، ورحلة الحج إلى بيت الله الحرام، ص (112 - 113)، كلاهما للشنقيطي.
الحديث وبطلانه. (1)
الدليل الخامس: الإجماع على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً، وذلك كفر، أو سهواً، وهو معصوم من هذا كله. (2)
الدليل السادس: أنَّ الحديث قد رُوي من طرق صحيحة متعددة: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» . (3)
وليس في هذه الطرق ذكر لقصة الغرانيق، ولو كانت
(1) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 81)، ومفاتيح الغيب، للرازي (23/ 44)، وتفسير القرطبي (12/ 56)، وفتح القدير، للشوكاني (3/ 661).
(2)
انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 80)، وأحكام القرآن، لابن العربي (3/ 304).
(3)
رُويت عدة أحاديث عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد بها، وليس في هذه الأحاديث ذكرٌ لقصة الغرانيق، ومن هذه الأحاديث:
1 -
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْم؛ ِ فَسَجَدَ بِهَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا» . أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجمعة، حديث
(1070)
.
2 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» . أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجمعة، حديث (1071).
3 -
حديث جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَال: َ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ سُورَةَ النَّجْم؛ ِ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَنْ عِنْدَهُ؛ فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَأَبَيْتُ أَنْ أَسْجُدَ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ الْمُطَّلِبُ، وَكَانَ بَعْدُ لَا يَسْمَعُ أَحَدًا قَرَأَهَا إِلَّا سَجَدَ». أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 420)، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 481).
4 -
حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ بِالنَّجْمِ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ حَتَّى سَجَدَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ، وَحَتَّى سَجَدَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْءٍ رَفَعَهُ إلَى وَجْهِهِ بِكَفِّهِ» . أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 353). =
صحيحة لنقلت عبر هذه الأسانيد، وهذا يدل على بطلانها ووضعها. (1)
الدليل السابع: أنَّ إثبات مثل هذه القصة يرفع الأمان والوثوق بالوحي، ويُجوِّزُ إدخال الشيطان فيه ما ليس منه، وهذا محال وباطل. (2)
الثالث: مسلك قبول الحديث، مع تأويله وصرفه عن ظاهره.
وهذا مذهب: الواحدي، وأبي المظفر السمعاني، والزمخشري، والنسفي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن جزي الكلبي، والحافظ ابن حجر، والملا علي القاري.
وممن ذهب إليه من المتأخرين: إبراهيم الكوراني (3)، وقد نقل كلامه الآلوسي في تفسيره، وذكر عنه أنه تحصل له بعد كلام طويل: «أنَّ الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة، وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس، وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة الآخذين عن الصحابة، وهم سعيد بن جبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو العالية، وقد قال السيوطي في (لباب النقول في أسباب النزول) (4): قال الحاكم (في علوم الحديث)(5): «إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند. ومشى عليه ابن الصلاح وغيره.
ثم قال: ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضاً لكنه مرسل، فقد يُقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة؛ كمجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك، فعلى هذا يكون الخبر في القصة مسنداً من الطريق المتصلة بابن عباس، مرسلاً مرفوعاً من الطرق الثلاثة، والزيادة فيه -التي رواها الثقات عن ابن
= 5 - حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالشَّجَرِ» . أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 353).
(1)
انظر: مفاتيح الغيب، للرازي (23/ 44)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 237).
(2)
انظر: مفاتيح الغيب، للرازي (23/ 45)، وأحكام القرآن، لابن العربي (3/ 304).
(3)
هو إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الشهراني الشهرزوري الكوراني، برهان الدين: مجتهد، من فقهاء الشافعية. عالم بالحديث. قيل: إن كتبه تنيف عن ثمانين، منها (إتحاف الخلف بتحقيق مذهب السلف) و (جلاء الأنظار بتحرير الجبر والاختيار) مخطوطتان. وغيرهما. ولد بشهران (من أعمال شهرزور) بجبال الكرد، وسمع الحديث بالشام ومصر والحجاز، وسكن المدينة، وتوفي بها ودفن بالبقيع سنة (1101 هـ)، وكان مع علمه بالعربية يجيد الفارسية والتركية. انظر: الأعلام، للزركلي (1/ 35).
(4)
انظر: لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي (1/ 13). طبعة دار إحياء العلوم.
(5)
انظر: معرفة علوم الحديث، للحاكم (1/ 20).
عباس في غير رواية البخاري (1) - ليست مخالفة لما في البخاري عنه؛ فلا تكون شاذة؛ فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله». اهـ (2)
هذا وقد ذكر أصحاب هذا المسلك عدة تأويلات للحديث دفعوا بها ما فيه من إشكال:
الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن بمحضر من مشركي قريش، فارتصده الشيطان في سكتة من سكتاته، فنطق بتلك الكلمات محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسمعها من دنا إليه من المشركين، وظنها من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأشاعوها وتناقلوها على أنها من قوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا التأويل ذكره أصحاب المسلك الأول في أجوبتهم عن الحديث على التسليم بثبوته، وقد تقدم.
وذكره أيضاً بعض أصحاب هذا المسلك، وهم القائلون بثبوت الحديث، ومن القائلين بهذا التأويل:
أبو المظفر السمعاني، والنسفي، وشيخ الإسلام ابن تيمية (3)، وابن جزي، والحافظ ابن حجر، والملا علي القاري. (4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «التَّمَنِّي فِي الْآيَةِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ. والثَّانِي - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ -: أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِنْ غَيْرِ
(1) أخرج البخاري في صحيحه، في كتاب الجمعة، حديث (1071)، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» .
(2)
روح المعاني، للآلوسي (17/ 231).
(3)
جزم بنسبته لابن تيمية الألباني في نصب المجانيق، ص (63).
(4)
انظر على الترتيب: تفسير السمعاني (3/ 449) و (5/ 294)، وتفسير النسفي (3/ 161)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (10/ 289 - 292)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (2/ 43)، وفتح الباري، لابن حجر (8/ 294)، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (3/ 97).
وَجْهٍ، وكَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، إلَّا إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ خَطَأً وَغَلَطاً فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يُقَرَّ عَلَى خَطَأٍ، كَمَا قَالَ:«فَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ بِشَيْءِ فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» (1)، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ، وَالصِّدْقُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْكَذِبِ وَنَفْيَ الْخَطَأِ فِيهِ. (فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأُقِرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ)(2).
وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَقَعَ الْإِلْقَاءُ فِي تَبْلِيغِهِ فَرُّوا مِنْ هَذَا وَقَصَدُوا خَيْرًا وَأَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ; لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ: أَلْقَى ثُمَّ أَحْكَمَ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ النَّسْخَ لِمَنْ بَلَغَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ إذًا مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِرَفْعِ قَوْلٍ سَبَقَ لِسَانُهُ بِهِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ إخْبَارِهِ بِرَفْعِهِ». اهـ (3)
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن قرر صحة الحديث: «وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: «ألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)» ؛ فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً، إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد، لمكان عصمته، وقد سلك العلماء في ذلك مسالك .... ».
ثم ذكر هذه المسالك، وقد نقلها من كتاب الشفا، للقاضي عياض، ثم قال بعد أن أورد التوجيه المذكور: «قال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس (4):
من تفسيره (تمنى)
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفضائل، حديث (4356).
(2)
هذه الجملة التي بين القوسين يظهر أن في آخرها سقطاً، ولم أهتدِ لتصويبه.
(3)
مجموع الفتاوى (15/ 191)، وانظر:(10/ 289 - 292)، ومنهاج السنة النبوية (1/ 471)
و (2/ 409 - 410)، والجواب الصحيح (2/ 35).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، معلقاً، في كتاب التفسير، سورة الحج. ووصله =
بـ: (تلا)». اهـ (1)
التأويل الثاني: أنَّ ذلك جرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حين أصابته سِنَةٌ وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته.
ذكره القاضي عياض، ونسبه لقتادة، ومقاتل. (2)
وهو الظاهر من كلام الواحدي. (3)
وتعقب هذا التأويل القاضي عياض فقال: «وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حالة من أحواله، ولا يخلقه الله على لسانه، ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة؛ لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو» . اهـ (4)
= الطبري في تفسيره (9/ 177)، ولفظه:«إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه» .
قلت: هناك فرق في المعنى بين (تلا) و (حدّث)؛ فالتلاوة لا تكون إلا للقرآن وحده، بخلاف الحديث.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا مُحَدَّثٍ).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/ 63): «أخرجه سفيان بن عيينة في أواخر جامعه، وأخرجه عبد بن حميد من طريقه، وإسناده إلى ابن عباس صحيح» . اهـ وانظر: تغليق التعليق (4/ 65).
والْمُحَدَّث - بِالْفَتْحِ -: هُوَ الرَّجُل الصَّادِق الظَّنّ، وَهُوَ مَنْ أُلْقِيَ فِي رُوعه شَيْء مِنْ قِبَل الْمَلَأ الْأَعْلَى، فَيَكُون كَالَّذِي حَدَّثَهُ غَيْره بِهِ. وَقِيلَ: مَنْ يَجْرِي الصَّوَاب عَلَى لِسَانه مِنْ غَيْر قَصْد. انظر: فتح الباري
(7/ 62).
(1)
فتح الباري (8/ 294). قلت: وعبارة الحافظ هذه ليست صريحة في اعتماده لهذا التوجيه؛ لقوله: قال، وهذه توحي بأن القائل (وهذا من أحسن الوجوه) هو القاضي عياض؛ لأن الحافظ ابن حجر ينقل المسالك عنه، والقاضي عياض قد اعتمد فعلاً هذا المسلك، وقد رأيت بعض العلماء تتابعوا على نسبة هذا التوجيه للحافظ؛ كالمباركفوري والألباني وغيرهما، ولا أرى ذلك يصح؛ إلا أن يكون هناك نُسَخ أخرى لكتاب فتح الباري قد كُتبت فيها بلفظ (قلت)، ولا أظن ذلك يكون.
بقي أن الحافظ لا يرى أن قوله: (تلك الغرانيق .... ) قد جرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو صريح من عبارته، ولم يبين لنا رأيه في توجيه هذه الرواية، وهو يرى صحتها وثبوتها!!!
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 81).
(3)
الوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي (3/ 277).
(4)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 81).
التأويل الثالث: أنَّ الشيطان ألجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال ذلك بغير اختيار منه صلى الله عليه وسلم.
ذكره الحافظ ابن حجر دون نسبة. (2)
التأويل الرابع: أنَّ ذلك جرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل السهو والغلط.
جاء ذلك في رواية أبي بكر بن عبد الرحمن. (4)
(1) مفاتيح الغيب، للرازي (23/ 46).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (8/ 294).
(3)
مفاتيح الغيب، للرازي (23/ 47)، وانظر: تفسير القرطبي (12/ 56).
(4)
تقدم تخريجها في أول المسألة.
وهو رأي الزمخشري، قال:«ولم يفطن له النبي صلى الله عليه وسلم حتى أدركته العصمة فتنبه عليه» . اهـ (1)
وتعقبه القاضي عياض فقال: «وهذا السهو في القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعاني، وتبديل الألفاظ، وزيادة ما ليس من القرآن، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة، ولكنه لا يُقرُّ على هذا السهو، بل يُنَبَّهُ عليه، ويُذَكَّرُ به للحين» . اهـ (2)
التأويل الخامس: أنَّ ذلك جرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة لكنه أراد بالغرانيق: الملائكة.
وهذا رأي عمر بن رسلان البلقيني (3)، حيث قال:«التحقيق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا اللفظ - يعني: (تلك الغرانيق العلى) بطوعه، وأنه آية من القرآن نُسِخَ تلاوتُها، قال: والمشار إليه بتلك الغرانيق: الملائكة، قال: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح» . اهـ
نقله عنه المباركفوري، وتعقبه فقال:«وكلامه هذا مردود عليه؛ فإنه لم يثبت برواية مرفوعة صحيحة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا اللفظ بطوعه، وأنه آية من القرآن نسخ تلاوتها، وأما قوله: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح. فخطأ فاحش ووهم قبيح؛ فإنه لم يأت العيني ولا الحافظ برواية مرفوعة صحيحة على هذا القول، فضلاً عن روايتين مرفوعتين صحيحتين» . اهـ (4)
التأويل السادس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نطق بذلك على فهم أنه استفهام إنكاري حُذِفَ منه الهمزة، أو نطق به وقصده حكاية قولهم.
قاله إبراهيم الكوراني. (5)
الرابع: مسلك قبول الحديث مطلقاً، وإعماله على ظاهره من دون تأويل.
(1) الكشاف، للزمخشري (3/ 161).
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 82).
(3)
هو عمر بن رسلان بن نصير بن صالح الكناني، العسقلاني الأصل، ثم البلقيني، المصري الشافعي، أبو حفص، سراج الدين: مجتهد حافظ للحديث، ولد في بلقينة (من غربية مصر) وتعلم بالقاهرة. وولي قضاء الشام سنة 769 هـ، وتوفي بالقاهرة سنة (805هـ). من كتبه (العرف الشذي على جامع الترمذي)، لم يكمله. انظر: كشف الظنون، لحاجي خليفة (1/ 559)، والأعلام، للزركلي (5/ 46).
(4)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (3/ 138).
(5)
نقله عنه الآلوسي في روح المعاني (17/ 232).