الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث:
اتفق العلماء على كراهةِ تسميةِ المدينة بيثرب، عملاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الوارد في المسألة، وأما الآية الكريمة - التي يُوهِمُ ظاهرها مُعارضة الحديث - فلهم في الجواب عنها مذهبان:
الأول: أنَّ ما وقع في الآية هو عبارة عن حكاية قول المنافقين، فهو سبحانه يحكي مقولتهم:(يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) وليس في الآية ما يفيد جواز تسميتها بهذا الاسم.
وهذا التأويل قال به جمع من العلماء، منهم: ابن بطال، وأبو الوليد الباجي، والقاضي عياض، والسهيلي، وأبو العباس القرطبي، والنووي، وابن القيم، والحافظ ابن حجر، والعيني، والسيوطي، والزرقاني. (1)
قال القاضي أبو الوليد الباجي: "قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)، هذا ـ والله أعلم ـ إخبارٌ عن المنافقين; لأن قبل هذه الآية: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)) ثم قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)، وهذا ـ والله أعلم ـ قول المنافقين، يدل على ذلك: أنه قال بعد ذلك: (فَارْجِعُوا)، وهذا إنما هو قول من كان يريد رَدَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن نُصْرَته والمُقام معه، فهؤلاء إنما كانوا يسمونها يثرب، على حسب ما كانت تُسمى عليه قبل الإسلام، فأما بعد الإسلام فإنَّ اسمها طيبة وطابة". اهـ (2)
(1) انظر على الترتيب: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (4/ 544)، والمنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (7/ 190)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 501)، والروض الأنف، للسهيلي (2/ 347)، والمفهم، للقرطبي (3/ 498)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (9/ 218)، وتحفة المودود، لابن القيم، ص (134)، وفتح الباري، لابن حجر (4/ 105)، وعمدة القاري، للعيني (10/ 235)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (3/ 402)، وشرح الزرقاني على موطأ مالك (4/ 276).
(2)
المنتقى شرح الموطأ (7/ 190).
المذهب الثاني: أنَّ القرآن سماها يثرب باعتبار ما كان معروفاً في الجاهلية، ونَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك.
وهذا تأويل الحافظ ابن عبد البر، حيث قال:"في هذا الحديث دليلٌ على كراهية تسمية المدينة بيثرب، على ما كانت تُسمى في الجاهلية، وأما القرآن فنزل بذكر يثرب على ما كانوا يعرفون في جاهليتهم، ولعل تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها بطيبة كان بعد ذلك". اهـ (1)
فائدة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الوارد في المسألة ـ والذي يَدُلُّ بظاهره على كراهة تسمية المدينة بيثرب ـ جاء في الصحيح ما يَدُلُّ على خلافه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ". (2)
وللعلماء في الجواب عن هذا الحديث ثلاثة مذاهب:
الأول: أنَّ هذا كان قبل النهي.
وهذا جواب: القاضي عياض، والحافظ ابن حجر، والزرقاني. (3)
الثاني: أنَّ هذا لبيان أنَّ النَّهْيَ للتنزيه لا للتحريم.
وهذا جواب العيني. (4)
الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاها يثرب باعتبار من لا يعرفها إلا بهذا الاسم، ولهذا جمع بينه وبين اسمه الشرعي فقال: المدينة يثرب.
وهذا المذهب حكاه النووي في شرح مسلم. (5)
(1) التمهيد، لابن عبد البر (23/ 171).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المناقب، حديث (3622)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الرؤيا، حديث (2272).
(3)
انظر على الترتيب: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (7/ 230)، وفتح الباري، لابن حجر (7/ 269)، وشرح الزرقاني على موطأ مالك (4/ 276).
(4)
عمدة القاري، للعيني (16/ 153).
(5)
(15/ 46).