الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر هذا المذهب الآلوسيُّ ومال إليه، إلا أنه أورد عليه أَنَّ ظاهر الآية والمأثور عن السلف في معناها (1)
لا يُساعد عليه. (2)
المذهب الخامس: أَنَّ مُراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تلك المحاورة التي تصدر منه في ذلك الموقف إظهار العُذر فيه لأبيه وغيره على أتم وجه، لا طلب المغفرة حقيقة.
وهذا المذهب هو الذي ارتضاه الآلوسي بعد حكايته للمذاهب السابقة. (3)
المسلك الثاني: مسلك الترجيح:
حيث ذهب الإسماعيلي إلى تضعيف الحديث، فقال بعد أنْ أخرجه:"هذا خبرٌ في صحته نظر؛ من جهة أَنَّ إبراهيم عَلِمَ أَنَّ الله لا يُخلف الميعاد، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزياً؟ مع علمه بذلك". اهـ (4)
المبحث الخامس: الترجيح:
الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أَنَّ تبرؤ إبراهيم من أبيه كائنٌ يوم القيامة، ذلك أَنَّ إبراهيم يطلب لأبيه الشفاعة يوم القيامة ظناً منه أَنَّ ذلك نافعه، فإذا قال الله له: إني حرمت الجنة على الكافرين، ومُسِخَ أبوه ذيخاً علم أَنَّ ذلك غير نافعه، وأنه عدو لله، فيتبرأ منه في الحال.
وهذا الاختيار ليس فيه ما يُخالف الظاهر من سياق الآية؛ إذ ليس في
(1) اختلف المفسرون في الوقت الذي تبرأ فيه إبراهيم من أبيه على قولين:
الأول: أنه تبرأ منه في الحياة الدنيا لما مات مشركاً.
رُويَ ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعمرو بن دينار والحكم والضحاك، والأثر عن ابن عباس أخرجه الطبري بسند صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر.
الثاني: أَنَّ التبرؤ كائن يوم القيامة حينما ييئس إبراهيم من أبيه بعد مسخه.
رُويَ ذلك عن سعيد بن جبير، وعبيد بن عمير.
انظر: تفسير الطبري (6/ 492 - 493)، وفتح الباري، لابن حجر (8/ 359).
(2)
روح المعاني، للآلوسي (11/ 53).
(3)
المصدر السابق.
(4)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 359).
الآية ما يدل على أَنَّ هذا التبرؤ كائن في الدنيا، والآية وإنْ رُويَ في تفسيرها عن ابن عباس أَنَّ ذلك كائن في الدنيا إلا أَنَّ الدليل قد دل على خلافه، وسأذكر من الأدلة ما يؤيد كون ذلك في الآخرة:
لقد حكى القرآن الكريم في غير ما موضع قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، وبيَّنَ تعالى في عدة مواضع أَنَّ إبراهيم دعا لأبيه واستغفر له، وهذا الاستغفار وقع بعد مفارقته لأبيه واعتزاله له، وهو بعد تلك المفارقة لا يدري ما حال أبيه، وهذا واضح من سياق الآيات الواردة في سورة مريم؛ حيث قال تعالى ـ بعد حكايته للمحاورة التي جرت بينهما ـ:(قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)) [مريم: 47 - 49].
فقوله: (? ? ?) وَعْدٌ من إبراهيم بالاستغفار لأبيه، وقد وفَّى بذلك الوعد حينما هاجر إلى مكة، فإنه دعا لأبيه هناك، وهذا الدعاء والاستغفار وقع منه بعد أنْ وهبه الله تعالى إسماعيل وإسحاق، والذي كان بعد اعتزاله لأبيه، حيث قال سبحانه:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) [إبراهيم: 35 - 41]، وهذه الآيات واضحة الدلالة في تأخر استغفار إبراهيم لأبيه، وأنه كان بعد اعتزاله له.
وظاهر سياق الآيات في سورة إبراهيم أَنَّ دعاء إبراهيم لأبيه كان في آخر حياة إبراهيم، لقوله في الآيات: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)، ثم إنه بعد هذا الثناء دعا لأبيه فقال:(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، فدلَّ على أَنَّ دعاءه لأبيه وقع في آخر حياته عليه السلام.
وفي قوله تعالى في سورة الممتحنة: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)) [الممتحنة: 4]، دلالة واضحة على أَنَّ استغفار إبراهيم كان بعد وفاة أبيه، لأنه لو كان في حياته لم يُمْنَعْ منه؛ لأنه يجوز الاستغفار ـ بمعنى طلب الإيمان ـ لأحياء المشركين.
ولم يأتِ في شيء من تلك الآيات التي تحكي لنا قصة إبراهيم أَنَّ الله تعالى نهاه عن الاستغفار لأبيه، ولم يأتِ في تلك الآيات أيضاً أَنَّ إبراهيم رجع لأبيه بعد اعتزاله له، بل الظاهر أنه لم يلقَ أباه بعد تلك المحاورة.
وبهذا يتبين أَنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يتبرأ من أبيه في حياته، بل لم يزل مستغفراً له في حياته وبعد مماته، ولن ينكشف له أنه عدو لله إلا في الآخرة حينما يلقاه فيطلب له الشفاعة فيُعْلِمُه الله تعالى بأنَّ الجنة حرام على الكافرين، ويمسخ أباه ذيخاً؛ فيعلم حينئذ أنه عدو لله ويتبرأ منه، والله تعالى أعلم.
****