الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث:
للعلماء تجاه الإشكال الوارد في الحديث ثلاثة مسالك:
الأول: مسلك تأويل الآيات والحديث، ومنع وقوع الكذب المحض من إبراهيم الخليل، عليه السلام.
وهذا مذهب الجمهور من العلماء.
وممن قال به:
ابن قتيبة، والزمخشري، وابن العربي، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، والسيوطي، والآلوسي، وابن عثيمين. (1)
ويرى أصحاب هذا المسلك: أنَّ ما قاله إبراهيم عليه السلام يعد من المعاريض (2)، وهي مباحة، وليست من الكذب الذي يُذم صاحبه.
= لابن الجوزي (3/ 482)، والمبسوط، للسرخسي (30/ 211)، ومفاتيح الغيب، للرازي (22/ 161)، وعصمة الأنبياء، له، ص (40)، وحاشية ابن القيم على سنن أبي داود (6/ 212)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (3/ 72)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 87).
(1)
انظر على الترتيب: تأويل مشكل القرآن، ص (267 - 268)، وتأويل مختلف الحديث، ص (39)، كلاهما لابن قتيبة، والكشاف، للزمخشري (3/ 121)، وأحكام القرآن (3/ 263)، وعارضة الأحوذي (12/ 18)، كلاهما لابن العربي، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 88)، وزاد المسير، لابن الجوزي (5/ 266)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (1/ 433)، وتفسير القرطبي (11/ 199)، وصحيح مسلم بشرح النووي (15/ 180)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (19/ 159)، وحاشية ابن القيم على سنن أبي داود (6/ 212)، وتفسير ابن كثير (4/ 15)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 451)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (3/ 72)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 86)، وشرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين، ص (527).
(2)
التَّعْرِيضُ: لُغَةً ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ =
قالوا: والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إذا احتيج إليها، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» (2)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«ما يسرني أنَّ لي بما أعلم من معاريض القول، مثل أهلي ومالي» (3)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجوز:«إن الجنة لا يدخلها عجوز» (4)،
أراد قوله تعالى: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)) [الواقعة: 35]، وكان أبو بكر رضي الله عنه حين خرج من الغار، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سأله أحد: من هذا بين يديك؟ يقول: «هادٍ يهديني» (5)، وكانت امرأة ابن رواحة رضي الله عنه، قد
= مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. انظر: الموسوعة الفقهية (12/ 248). وقال القاضي عياض: «هو التورية بالشيء عن آخر بلفظٍ يُشْرِكُهُ فيه، أو يتضمن فصلاً من جُمَلِه، أو يحتمله مجازُهُ وتصريفه» . انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 74).
(1)
انظر: الكشاف، للزمخشري (4/ 47).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 199)، والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 119)، وابن عدي في الكامل (3/ 96). وضعفه الألباني، في ضعيف الجامع، حديث (1904)، وصحح وقفه على عمران بن حصين رضي الله عنه.
(3)
أخرجه بنحوه: ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (3/ 145).
(4)
أخرجه الترمذي في كتاب «الشمائل المحمدية» (1/ 198 - 199) قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا مصعب بن المقدام، ثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: ادع الله أنْ يدخلني الجنة. فقال: يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز. قال: فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول:(إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)) [الواقعة: 35 - 37]. وأخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 357)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، (6/ 1221)، حديث (2987).
(5)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَابٌّ لَا يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ، يَهْدِينِي =
رأته مع جارية له، فقالت له: وعلى فراشي أيضاً! فجحد، فقالت له: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن، فالجُنُب لا يقرأ القرآن. فقال:
شَهِدْتُ بأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
…
وأَنَّ النارَ مَثْوَى الكافِرِينا
وأَنَّ العَرْشَ فوْقَ الماءِ طافٍ
…
وفوقَ العَرْشِ رَبُّ العالَمِينا
وتَحْمِلُه ملائكةٌ شِدادٌ
…
ملائكةُ الإِلهِ مُسَوّمِينا
فقالت: آمنت بالله، وكذبت بصري. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فضحك، وأعجبه ما صنع. (1)
وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في وجه إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الكلمات التي قالها إبراهيم الخليل عليه السلام بأنها كذب، على أقوال:
الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أطلق عليها الكذب من باب التجوز؛ لأنها في الحقيقة شبيهة بالكذب، لما فيها من إيهام السامع، وإخباره بخلاف ما يعتقده المتكلم، ولم يُرِدْ النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الكذب الذي هو قصد قول الباطل، والإخبار بضد ما في النفس، من غير غرض شرعي؛ لأن هذا لا يجوز في حق الأنبياء، عليهم السلام.
وهذا رأي: ابن قتيبة، والقاضي عياض، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن جزي الكلبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والآلوسي. (2)
= السَّبِيلَ. قَالَ: فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ». أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المناقب، حديث (3911).
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في «الإشراف في منازل الأشراف» (1/ 212 - 214)، وفي «العيال» (2/ 770 - 773)، والدارقطني في سننه (1/ 120)، وابن عساكر في تاريخه (28/ 112 - 116)، من طرق عن ابن رواحة رضي الله عنه. قال الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 900)، في ترجمة عبد الله بن رواحة:«وقصته مع زوجته، في حين وقع على أمته، مشهورة، رويناها من وجوه صحاح» . وقال النووي في المجموع (2/ 183): «إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع» . وهو كما قال؛ فإنها لم تأتِ من طريق يصح اعتماده. وانظر: زاد المسير، لابن الجوزي (5/ 266 - 267).
(2)
انظر على الترتيب: تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، ص (269)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 89)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 478)، وكشف =
قال أبو بكر بن الأنباري: «كلام إبراهيم كان صدقاً عند البحث، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب» . اهـ (1)
وقال الحافظ ابن حجر: «وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة، فلكونه قال قولاً يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حُقِّقَ لم يكن كذباً؛ لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين، فليس بكذبٍ محض» . اهـ (4)
القول الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أطلق عليها كذباً؛ لأن الله تعالى قد أعلمه أنَّ إبراهيم عليه السلام يُطلق ذلك على نفسه يوم القيامة.
= المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 482)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (2/ 24)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (19/ 159)، وحاشية ابن القيم على سنن أبي داود (6/ 212)، وتفسير ابن كثير (4/ 15)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 451)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 86).
(1)
نقله عنه ابن الجوزي في «كشف المشكل» (3/ 482).
(2)
نقله عنه ابن الجوزي في «كشف المشكل» (3/ 482).
(3)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (6/ 212).
(4)
فتح الباري، لابن حجر (6/ 451).
وهذا رأي أبي العباس القرطبي. (1)
القول الثالث: أنَّ المراد من الحديث: أنها كذبات في بادئ الأمر، لكنها عند التأمل يظهر المقصود منها، وذلك أنَّ النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب، وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه، وأما إذا كان الخبر يُعْقَب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب، بل يكون تعريضاً، أو مزحاً، أو نحوهما.
وهذا قول الطاهر بن عاشور، ويرى: أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ، ولا المجاز، ولا التهكم، فكان ذلك عند قومه كذباً، وأن الله تعالى أذن له فعل ذلك، وأعلمه بتأويله؛ كما أذن لأيوب عليه السلام أنْ يأخذ ضِغْثاً (2) من عصيٍّ؛ فيضرب به ضربة واحدة، لِيَبُرَّ قَسَمَه (3)، إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب عليه السلام. (4)
وأما حديث الشفاعة، وقول إبراهيم عليه السلام:«إِنِّي كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ» (5)؛ فقد أجاب عنه الطاهر بن عاشور بأن معناه: «أنه قال كلاماً خلافاً للواقع، بدون إذن الله بوحي، ولكنه ارتكب قولَ خلافِ الواقع؛ لضرورة الاستدلال، بحسب اجتهاده، فخشي أنْ لا يُصادِفَ اجتهاده الصواب من مراد الله، فخشي عتاب الله، فتخلص من ذلك الموقف» . اهـ (6)
ويرى الشيخ ابن عثيمين: أنَّ إبراهيم عليه السلام سماها كذبات، تواضعاً منه؛
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (6/ 186).
(2)
الضغث: عُثْكَالُ النخل بشماريخه، وقيل: هو قبضة من حشيشٍ مختلطٌ رطبها بيابسها، وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان، وقال الواحدي: الضغث ملءُ الكفِّ من الشجر، والحشيش، والشماريخ. انظر: تفسير الواحدي (3/ 558)، وفتح القدير، للشوكاني (4/ 620).
(3)
قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)) [ص: 41 - 44].
(4)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (23/ 143).
(5)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(6)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (23/ 143).
لأنها بحسب مراده صدق مطابق للواقع، فهي من باب التورية. (1)
رأي أصحاب هذا المسلك، في معنى الآيتين، ووجه كونهما من المعاريض:
لأصحاب هذا المسلك عدة تأويلات في معنى الآيتين، ووجه كونهما من المعاريض، وفيما يأتي ذِكْرُ أقوالهم في كل آية:
أولاً: تأويلهم لقوله تعالى: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)[الأنبياء: 63]:
اختلفوا في تأويل الآية على قولين:
الأول: أنَّ معنى الآية: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، حيث جعل النطق شرطاً للفعل، والمعنى إن كانوا ينطقون فقد فعله، قالوا: ولما علق الفعل على النطق، والنطق غير متحقق، لم يكن قوله هذا كذباً.
وهذا رأي: ابن قتيبة (2)، والقاضي عياض (3)، وأبي عبد الله القرطبي (4).
واعتُرِضَ: بأن قوله: (إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)[الأنبياء: 63] متعلق بقوله: (فَاسْأَلُوهُمْ)[الأنبياء: 63]، والمعنى: إن كانوا ينطقون، فاسألوهم.
القول الثاني: أنه قال ذلك تمهيداً لإقامة الحجة عليهم، على نية أنْ يتضح لهم الحق بآخره، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهد لذلك بكلامٍ هو جار على الفرض والتقدير، فكأنه قال: لو كان هذا إلهاً لما رضي بالاعتداء على شركائه، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم، تعين أنَّ يكون هو الفاعل لذلك.
وهذا رأي: الزمخشري، وابن العربي، وابن الجوزي، وابن جزي الكلبي، وأبي العباس القرطبي، والرازي، والسيوطي، والآلوسي. (5)
(1) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين، ص (527).
(2)
انظر: تأويل مشكل القرآن، ص (268)، وتأويل مختلف الحديث، ص (39)، كلاهما لابن قتيبة.
(3)
انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 89)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 346)، كلاهما للقاضي عياض.
(4)
انظر: تفسير القرطبي (11/ 198).
(5)
انظر على الترتيب: الكشاف، للزمخشري (3/ 121)، وأحكام القرآن، لابن العربي =
ثانياً: تأويلهم لقوله تعالى: (إِنِّي سَقِيمٌ)[الصافات: 89]:
يرى الأكثر من أصحاب هذا المسلك أنَّ معنى الآية: إني سأسقم؛ لأن من كُتب عليه الموت فلا بد من أنْ يسقم، ومنه قوله تعالى:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)) [الزمر: 30]، أي ستموت، ويموتون. (1)
الثاني: مسلك إجراء الآيات والحديث على ظاهرها، وأنَّ ما قاله إبراهيم الخليل عليه السلام كان كذباً على الحقيقة.
ويرى أصحاب هذا المسلك: أنَّ إبراهيم عليه السلام فعل ذلك من باب التُقية، ودفعِ أذى الظالمين، والكذبُ إذا كان لمثلِ هذا الغرض، وكان لمصلحةٍ شرعية؛ فإنه لا مانع منه، ولا يكون محرماً.
وهذا رأي: ابن جرير الطبري، وابن حزم، والواحدي (2)، والمازري (3)، والبغوي (4)، والسمعاني (5).
قال ابن جرير الطبري: «وقد زعم بعض من لا يُصَدِّقُ بالآثار، ولا يقبل من الأخبار إلا ما استفاض به النقل، من العوام، أنَّ معنى قوله:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) إنما هو بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم، أي إن كانت الآلهة المكسورة تنطق؛ فإن كبيرهم هو الذي كسرهم. وهذا قولٌ خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ إبراهيم لم يكذب إلا
= (3/ 263)، وزاد المسير، لابن الجوزي (5/ 265)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (2/ 24)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (1/ 432)، ومفاتيح الغيب، للرازي (21/ 160)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (3/ 72)، وروح المعاني، للآلوسي (17/ 85).
(1)
انظر: تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، ص (267)، والكشاف، للزمخشري (4/ 47)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (1/ 433)، وتفسير القرطبي (15/ 63)، ومفاتيح الغيب، للرازي (26/ 128)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 451)، وروح المعاني، للآلوسي (23/ 137).
(2)
الوسيط، للواحدي (3/ 242).
(3)
المعلم بفوائد مسلم، للمازري (3/ 131).
(4)
تفسير البغوي (3/ 249).
(5)
تفسير السمعاني (3/ 389).
ثلاث كذبات، كلها في الله، قوله:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله لسارة: هي أختي. وغير مستحيل أنْ يكون الله تعالى ذكره أذن لخليله في ذلك، ليقرع قومه به، ويحتج به عليهم، ويعرفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذن يوسف لإخوته:(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)[يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا شيئاً». اهـ (1)
وقال - بعد أنْ ذكر الأقوال في تفسير قوله تعالى: (إِنِّي سَقِيمٌ) -: «وقال آخرون: إن قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) كلمة فيها مِعْراضٌ، ومعناها: أنَّ كل من كان في عقبة الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، قال: والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا القول، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق دون غيره» . اهـ (2)
وقال ابن حزم: «أما الحديث: أنه عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فليس كلُ كذبٍ يكون معصية، بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل، وفرضاً واجباً يعصي من تركه .... ، وقد أجمع أهل الإسلام على أنَّ إنساناً لو سمع مظلوماً قد ظلمه سلطان، وطلبه ليقتله بغير حق، ويأخذ ماله غصباً؛ فاستتر عنده، وسمعه يدعو على من ظلمه، قاصداً بذلك السلطان، فسأل السلطانُ ذلك السامع عما سمعه منه، وعن موضعه؛ فإنه إن كتم ما سمع، وأنكر أنْ يكون سمعه، أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله؛ فإنه محسن مأجور، مطيع لله عز وجل، وأنه إن صدقه فأخبره بما سمعه منه، وبموضعه وموضع ماله؛ كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل، فاعل كبيرة، مذموماً تماماً.
وقد أُبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية، وكل ما روي عن إبراهيم عليه السلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة، لا في الكذب الذي نهي عنه». اهـ (3)
الثالث: مسلك تأويل الآيات، ورد الحديث وإنكاره.
وهذا رأي الفخر الرازي، حيث قال: «واعلم أنَّ بعض الحشوية روى
(1) تفسير الطبري (9/ 41).
(2)
المصدر السابق (10/ 501).
(3)
الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 290 - 291).