الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: الترجيح:
الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو إعمال منطوق الآية والحديث دون مفهومهما؛ فإذا زنت الأَمَة المسلمة فإنَّ عليها نصف ما على الحرة المسلمة البِكْرِ من العذاب، وهو خمسون جلدة، ويستوي في ذلك المُزَوّجة وغير المُزَوّجة.
ولفظ الحديث مطلق، والآية جاء الحكم فيها مقيداً بالنصف؛ فيُحمل المطلق على المقيد.
وأمَّا مفهوم المخالفة في الآية الكريمة فالأصح عدم اعتباره، والمانع من اعتباره أمور:
1 -
أنَّ دلالة المفهوم إنما يصح اعتبارها إذا لم يُعارضها منطوق نصٍ آخر، وقد عارض مفهومَ الآية منطوقُ حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما، فَدَلَّ على أنَّ مفهوم الآية غير معتبر. (1)
2 -
أنَّ دلالة المنطوق قطعية الدلالة، بخلاف دلالة المفهوم فإنها ظنية الدلالة، والقطعي أولى بالتقديم من الظني. (2)
3 -
أنَّ دلالة المفهوم مختلف في حُجِّيّتها، بخلاف دلالة المنطوق؛ فإنها معتبرة باتفاق.
4 -
أنَّ دلالة المفهوم قد تكون غير مُرادة (3)، وقد تَصْدُقُ في بعض
(1) انظر: البحر المحيط، للزركشي (5/ 139).
(2)
انظر: المغني، لابن قدامة (9/ 50)، وتفسير ابن كثير (1/ 487)، وتدريب الراوي، للسيوطي (2/ 118).
(3)
من موانع اعتبار مفهوم المخالفة: كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع، فَيَرِدُ النص ذاكراً للوصف الموافق للواقع ليُطَبِّقَ عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذاً ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق؛ بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع، ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى:(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)) [المؤمنون: 117]، فقوله: (لَا بُرْهَانَ =
الصور دون بعض، بخلاف دلالة المنطوق فإنها دالة على كل صورها، دلالة مطابقة، وتضمن، والتزام. (1)
5 -
أنَّ النص قد ثبت في إلغاء مفهوم الآية؛ والنص هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، "والظاهر أنَّ السَّائل ما سَأَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلا لأنَّه أشكل عليه مفهوم هذه الآية، فالحديث نصٌ في محل النزاع، ولو كان جلدُ غيرِ المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لَبَيَّنَه صلى الله عليه وسلم ". (2)
فإن قيل: فما فائدة شرط الإحصان في الآية إذا كان ذلك غير معتبر؟
= لَهُ بِهِ) وصف مطابق للواقع؛ لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته للواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، ومن أمثلته في القرآن أيضاً: قوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 28]، لأن الآية نزلت في قوم والوا اليهود دون المؤمنين فقوله:(مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ذُكِرَ لموافقته للواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، ومعلوم أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ممنوع على كل حال. انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (5/ 833).
(1)
قسم علماء الأصول الدلالة إلى ثلاثة أقسام:
1 -
…
دلالة وضعية: كدلالة السبب على المسبب، ومنه دلالة الدلوك على وجوب الصلاة.
2 -
…
ودلالة عقلية: كدلالة الأثر على المؤثر، ومنه دلالة العالم على موجده، وهو الله سبحانه وتعالى.
3 -
…
ودلالة لفظية: أي مستندة إلى وجود اللفظ، وهذه اللفظية على ثلاثة أقسام:
الأول: طبيعية، كدلالة: أح، أح، على وجع الصدر.
الثاني: عقلية، كدلالة الصوت على حياة صاحبه.
الثالث: وضعية، وهي كون اللفظ إذا أطلق فهم من إطلاقه ما وضع له.
ودلالة اللفظ الوضعية على أقسام:
1 -
…
دلالة مطابقة: كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، وإنما سُمِّيَت هذه الدلالة مطابقة؛ لأن اللفظ موافق لتمام ما وضع له.
2 -
…
ودلالة تضمن: كدلالة الإنسان على حيوان فقط، أو على ناطق فقط، سُمِّيَت بذلك؛ لأن اللفظ دل على ما في ضمن المسمى.
3 -
ودلالة التزام: كدلالة الإنسان على كونه ضاحكاً، أو قابلاً صنعة الكتابة ونحوها. انظر: شرح الكوكب المنير، للفتوحي، ص (38)، والتعارض والترجيح، للبرزنجي (1/ 24).
(2)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (1/ 328).
فالجواب: أنَّ شرط الإحصان في الآية الكريمة إنما سِيقَ لتأكيد الحكم في حق الأَمَة المحصنة، وهو لا يعني نفي الحكم في غير المحصنة، وأسلوب الشرط يأتي لهذا المعنى كثيراً؛ كقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)) [الحجرات: 6]، فهذه الآية تُفيد وجوب التثبت حال كون ناقل الخبر متهماً بالفسق، ولا تعني إلغاء التثبت مطلقاً عند ظهور علامات الصدق في الناقل، بل التثبت مطلوب في كل الأحوال، لكنه يتأكد في حال دون حال، والله تعالى أعلم.
****