الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول: حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وهو نص صحيح صريح في المسألة.
الدليل الثاني: أنَّ المسجد النبوي أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم، من مسجد قباء، لما ورد من أحاديث كثيرة في فضله. (1)
الدليل الثالث: أنَّ التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) يستدعي المداومة، ويعضده توكيد النهي بقوله:(أَبَدًا)[التوبة: 108]، ومداومة الرسول صلى الله عليه وسلم لم توجد إلا في مسجده الشريف صلى الله عليه وسلم. (2)
الدليل الرابع: أنَّ القول بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عن جمع لا يحصون من الصحابة ومن بعدهم، وهذا يؤكد أنَّ المراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دون مسجد قباء. (3)
وأجاب أصحاب هذا المذهب عن سبب نزول الآية:
بأن بعض طرق الحديث فيها ضعف، وبعضها ليس فيه تعيين مسجد قباء، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وإذ الأمر كذلك فإن هذه الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية لا تقاوم الأحاديث الصحيحة الصريحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. (4)
المبحث الخامس: الترجيح:
الذي يظهر صوابه - والله تعالى أعلم - أنَّ المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون مسجد قباء، وهذا ما دل عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه الصحيح الصريح، وأما ما ورد في سبب نزول الآية؛ فإنه عند التحقيق لا يظهر أنه يخالف حديث أبي سعيد؛ ذلك أنَّ سبب النزول
(1) انظر: روح المعاني، للآلوسي (11/ 29).
(2)
انظر: المصدر السابق (11/ 29 - 30).
(3)
انظر: فيض القدير، للمناوي (6/ 269).
(4)
انظر: فتح القدير، للشوكاني (2/ 590).
لم يصح فيه أنَّ الآية نزلت في مسجد قباء، بل الصحيح أنها نزلت في رجال من الأنصار، وقد قمت بتقصي طرق سبب نزول الآية ووجدت أنها كلها لا تخلوا من ضعف، غير أنَّ الطرق التي فيها التصريح بذكر مسجد قباء ضعيفة جداً، وقد استشكل جمع من العلماء هذه المسألة بسبب ذلك، لذا فإن القول المختار في سبب نزول الآية أنها نزلت في رجال من الأنصار كانوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسوا في مسجد قباء، والله تعالى أعلم.
أدلة هذا الاختيار:
1 -
أنَّ الحديث الذي ورد فيه التصريح بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو أقوى في الثبوت من أحاديث سبب نزول الآية، التي فيها أنها نزلت في مسجد قباء، حيث روي حديث مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، وأما أحاديث سبب نزول الآية؛ فإن جميعها رويت من طرق لا تخلو من ضعف.
2 -
أنَّ الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية، التي فيها التصريح بذكر مسجد قباء، رويت عن ستة من الصحابة - كما تقدم في تخريج سبب النزول - إلا أنَّ هذه الأحاديث لا يصح الاحتجاج بها؛ لأن أسانيدها لا تخلو من راوٍ كذاب، أو ضعيف جداً.
3 -
أنَّ النص الصريح الصحيح المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم مقدم على سبب النزول، وذلك عند التعارض. (1)
4 -
أنَّ قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) ليس المراد به: من أول أيام قدوم النبي صلى الله عليه وسلم لدار الهجرة، بل المراد من أول أيام تأسيس المسجد، والمعنى أنه أسس أول ما أسس على التقوى، لا على الضرار والكفر، يدل على هذا المعنى أنَّ هذه الآية وردت في مقابل الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)) [التوبة: 107] فمسجد الضرار أسس أول ما أسس على الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، لذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإحراقه
(1) انظر: روح المعاني، للآلوسي (11/ 29).
وهدمه (1)؛ لأن بناءه لم يكن على أساس من التقوى والرضوان، وأما المسجد النبوي فأسس أول ما أسس على تقوى من الله ورضوان، ويؤيد هذا المعنى أيضاً قوله في الآية التي بعدها:(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[التوبة: 109] فهذه الآية صريحة بأن المراد من أول أيام تأسيس المسجد، وأنه أسس أول ما أسس على التقوى.
5 -
ومما يؤكد أنَّ المراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الآية: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) حيث أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالقيام فيه، ومعلوم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُدِم القيام بمسجد قباء، وإنما كان يزوره ويصلي فيه في الأسبوع مرة واحدة (2)، والذي كان يداوم على الصلاة فيه هو مسجده الذي في جوف المدينة، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أنْ يخالف أمر ربه تبارك وتعالى فيترك مسجد قباء، وقد أُمِرَ بالقيام فيه، وإنما أمر بالقيام في مسجده صلى الله عليه وسلم، والذي هو مراد الآية.
الإيرادات والاعتراضات على هذا الاختيار:
الإيراد الأول: أنه قد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّ المراد بالآية مسجد قباء (3)، وهذا يدل على أنَّ لسبب النزول أصلاً صحيحاً.
(1) قصة مسجد الضرار وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهدمه، أخرجها ابن جرير في تفسيره (6/ 469 - 470)، وذكرها الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 403)، وفي البداية والنهاية (5/ 20).
(2)
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ، مَاشِيًا وَرَاكِبًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ» . أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجمعة، حديث (1193)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1399).
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 474)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1882)، كلاهما من طريق أبي صالح كاتب الليث، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، به. وإسناده حسن.
وممن قال من المفسرين إنَّ المراد به مسجد قباء: عروة بن الزبير، وعطية العوفي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والشعبي، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعبد الله بن بريدة، والضحاك.
انظر: تفسير الطبري (6/ 474)، وتفسير ابن أبي حاتم (6/ 1882).
والجواب: أنه قد صح أيضاً عن ابن عمر (1)، وزيد بن ثابت (2)، أنَّ المراد بالآية مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس قول بعض الصحابة بحجة على بعض إلا إذا اتفقوا، وليس في الآية اتفاق، فلم يبق إلا اعتبار الحديث.
الإيراد الثاني: أنه روي عن ستة من الصحابة أنَّ الآية نزلت في أهل قباء، وهي وإن كانت ضعيفة إلا إنه يشد بعضها بعضاً؛ لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أنَّ للقصة أصلاً. (3)
والجواب: أنَّ القول بتقوية الحديث بكثرة طرقه ليس على إطلاقه، وقد نبّه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين، منهم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (4)، حيث قال: «لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها، مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة .... ، فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن؛ لأن بعض ذلك عضد بعضاً، كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفاً؟
وجواب ذلك: أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، ولم يختل فيه ضبطه له .... ، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً، وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة». اهـ (5)
الإيراد الثالث: أنَّ الأحاديث التي فيها أنَّ الآية نزلت في رجال من
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 473)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 148)، كلاهما من طريق ربيعة بن عثمان، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، عن ابن عمر، به. وإسناده حسن.
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 473)، والطبراني في الكبير (5/ 126، 133). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 34): «رواه الطبراني مرفوعاً وموقوفاً .... ، وأحد إسنادي الموقوف رجاله رجال الصحيح» . اهـ
(3)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (8/ 293).
(4)
هو: عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي النصر النصري الشهرزوري الكردي الشرخاني، أبو عمرو، تقي الدين، المعروف بابن الصلاح: أحد الفضلاء المقدمين في التفسير والحديث والفقه، ولد في شرخان (قرب شهرزور) وانتقل إلى الموصل ثم إلى خراسان، فبيت المقدس حيث ولي التدريس في الصلاحية. وانتقل إلى دمشق، فولاه الملك الأشرف تدريس دار الحديث، وتوفي فيها. له كتاب (معرفة أنواع علم الحديث) يعرف بمقدمة ابن الصلاح، و (الأمالي) و (الفتاوى) جمعه بعض أصحابه، وغيرها. (ت: 643 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (23/ 140)، والأعلام، للزركلي (4/ 207).
(5)
مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص (34 - 35).
الأنصار هي أيضاً ضعيفة، فكيف اعتمدتموها وطرحتم بقية الأحاديث التي فيها ذكر مسجد قباء؟
والجواب: أنَّ هذه الأحاديث أقوى إسناداً من بقية الأحاديث التي فيها ذكر مسجد قباء، وقد صححها بعض العلماء كما تقدم في تخريج الحديث، ورواتها مختلف في توثيقهم، ولكن لما رويت من عدة طرق صح اعتبارها.
الإيراد الرابع: أنَّ القول بأن الآية نزلت في رجال من الأنصار -كانوا إذا خرجوا من الغائط يغسلون أثر الغائط فنزلت فيهم هذه الآية - يلزم منه أنها نزلت في أهل قباء؛ لأنهم هم الذين كانوا يفعلون ذلك.
والجواب: أنَّ الأنصار كانوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجد قباء، ومسجده صلى الله عليه وسلم كان معموراً بالمهاجرين والأنصار، ومن سواهم من الصحابة، وليس هناك ما يدل على أنَّ أولئك الرجال كانوا في مسجد قباء خاصة، إلا ما ورد في سبب نزول الآية، وقد تقدم أنَّ ذلك لا يصح، والله تعالى أعلم. (1)
****
(1) انظر: شرح مشكل الآثار، للطحاوي (12/ 177)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (11/ 32).