الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشكال الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم منهيٌ عن الاستغفار للمشركين (1)؛ فكيف جاز له أنْ يستغفر للمنافقين ويصلي عليهم، مع علمه بالنهي، والجزم بكفرهم في الآية نفسها؟ (2)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث:
للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان:
الأول: مسلك قبول الحديث، مع توجيهه.
وهذا مذهب الأكثر من المفسرين والمحدثين، ولهم في الجواب عن الإشكالين الواردين في الحديث أقوال:
أولاً: الجواب عن فهمه صلى الله عليه وسلم التخيير من الآية، وفهمه أنَّ الزيادة على السبعين نافعة للمُسْتَغْفَرِ له:
اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن ذلك على أقوال:
الأول: أنَّ الله تعالى خير نبيه على الحقيقة، فكان مباحاً له صلى الله عليه وسلم أنْ يستغفر للمنافقين، حتى نزل النهي عن ذلك.
= البروق، للقرافي (2/ 59)، وفتح الباري، لابن حجر (8/ 189 - 190)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (5/ 464).
(1)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 190): «قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113] هذه الآية نزلت في قصة أبي طالب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» ، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، وقصة عبد الله بن أبي هذه في السنة التاسعة من الهجرة، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية؟ ». اهـ
(2)
انظر حكاية الإشكال في الكتب الآتية: مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 70)، ومعاني القرآن، للنحاس
(2/ 467)، وزاد المسير، لابن الجوزي (3/ 80)، ومفاتيح الغيب، للرازي (16/ 121)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 641)، وتفسير القرطبي (8/ 140)، وفتح الباري، لابن حجر (8/ 190).
وهذا رأي: ابن فورك، وابن العربي (1)، وابن حزم، وابن عطية (2)، والثعالبي (3)، والآلوسي (4).
وقال ابن حزم: «فإن قال قائل: فما كان مراد الله بالتخيير الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على التخيير، وبذكره تعالى السبعين مرة؟
فالجواب: أنه عز وجل خير نبيه في ذلك على الحقيقة، فكان مباحاً له أنْ يستغفر لهم ما لم يُنْهَ عن ذلك، وأما ذِكْرُ السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أنَّ المغفرة تقع لهم بما زاد على السبعين، ولا فيه أيضاً منعٌ من وقوع المغفرة لهم بما زاد على السبعين؛ إلا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طمع ورجا إنْ زاد على السبعين أنْ يُغفر لهم، ولم يحقق أنَّ المغفرة تكون بالزيادة، فلما أعلمه الله تعالى بما كان في علمه عز وجل، ولم يكن أعلمه قبل ذلك به، عَلِمَه حينئذ نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عَلِمَ قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبتِّ أنَّ ما زاد على السبعين غير مقبول، فدعا راجٍ لم ييأس من المغفرة، ولا أيقن بها، وهذا بين في لفظ الحديث، وبالله تعالى التوفيق». اهـ (7)
(1) أحكام القرآن (2/ 558)، وعارضة الأحوذي (11/ 176)، كلاهما لابن العربي.
(2)
المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 64).
(3)
تفسير الثعالبي (2/ 145).
(4)
روح المعاني، للآلوسي (10/ 469).
(5)
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: لا؛ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَصَلَّى عَلَيْهِ» . أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الحوالات، حديث (2295).
(6)
نقله عنه الزركشي في البحر المحيط (5/ 174).
(7)
الإحكام في أصول الأحكام (3/ 290)، باختصار.
القول الثاني: أنَّ الله تعالى لما سوى بين الاستغفار وعدمه، ورتب عليه عدم القبول، ولم يَنْهَ عنه، فهم أنه خير ومرخص فيه، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم، لا أنه فهم التخيير من «أو» حتى ينافي التسوية بينهما، المرتب عليها عدم المغفرة، وذلك تطييباً لخاطرهم، وأنه لم يألُ جهداً في الرأفة بهم.
وهذا رأي الشهاب الخفاجي، والطاهر بن عاشور، وذكره القاسمي. (1)
قال الشهاب: «والتحقيق أنَّ المراد التسوية في عدم الفائدة، وهي لا تنافي التخيير» . اهـ (2)
القول الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك رجاء حصول المغفرة، بناء على بقاء حكم الأصل، فإنَّ رجاءها كان ثابتاً قبل نزول الآية، لا لأنه فهمه من التقييد.
قاله الزركشي. (3)
القول الرابع: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك من باب التلطف والرأفة، لا أنه فَهِمَ أنه لو زاد على السبعين يُغفر له.
وهذا اختيار: الزمخشري، والقاضي عياض، والعيني (4).
قلت: لم يخفَ عليه ذلك، ولكنه خُيّل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بُعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ
(1) انظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (10/ 279)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (5/ 465).
(2)
حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (4/ 348).
(3)
البحر المحيط، للزركشي (5/ 173).
(4)
عمدة القاري، للعيني (18/ 275).
(5)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
رَّحِيمٌ) [إبراهيم: 36]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض». اهـ (1)
القول الخامس: أنَّ الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة؛ فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو، فإذا تعذرت المغفرة عُوّض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف كما في قصة أبي طالب.
قاله ناصر الدين ابن المُنَيِّر. (4)
واعتُرِضَ: بأن هذا القول يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعاً، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
(1) الكشاف، للزمخشري (2/ 286).
(2)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (7/ 404).
(3)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (10/ 472).
(4)
نقله الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 190).
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113]. (1)
ثانياً: الجواب عن صلاته صلى الله عليه وسلم واستغفاره لعبد الله بن أُبي:
اختلف القائلون بثبوت الحديث في الجواب عن ذلك على أقوال:
الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له وصلى عليه بناء على الظاهر، حيث إنَّ ظاهره هو أنه من المسلمين، ولم يعلم بباطنه ـ وأنه مات على الكفر والنفاق ـ إلا بعد أنْ نزل النهي عن الصلاة عليه.
وهذا رأي: النحاس (2)، والخطابي (3)، وابن حزم (4)، والقاضي عياض (5)، وابن عطية، وابن الجوزي (6)، والفخر الرازي (7)، والثعالبي (8)، وابن جزي (9)، والحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي (10)، والحافظ ابن حجر، والسندي (11)، والآلوسي (12).
قال ابن عطية: «وظاهر صلاته عليه أنَّ كُفْرَه لم يكن يقيناً عنده، ومحال أنْ يُصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار، ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان سِترُ المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر» . اهـ (13)
وقال الحافظ ابن حجر: «أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، وصلى عليه، إجراءً له
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر (8/ 190).
(2)
الناسخ والمنسوخ، للنحاس (2/ 467).
(3)
معالم السنن، للخطابي (1/ 260).
(4)
المحلى، لابن حزم (12/ 138 - 141).
(5)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (7/ 404)، (8/ 309).
(6)
زاد المسير، لابن الجوزي (3/ 80).
(7)
مفاتيح الغيب، للرازي (16/ 121).
(8)
تفسير الثعالبي 2/ 145).
(9)
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (1/ 344).
(10)
طرح التثريب، للعراقي (3/ 280).
(11)
حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 37).
(12)
روح المعاني، للآلوسي (28/ 427).
(13)
المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 64).
على ظاهرِ حكمِ الإسلام، واستصحاباً لظاهر الحُكم، ولما فيه من إكرامِ ولَدِهِ الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه، ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين، ويعفو ويصفح، ثم أُمِرَ بقتال المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمّن يُظهر الإسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك، لمصلحة الاستئلاف، وعدم التنفير عنه، ولذلك قال:«لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» (1)، فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإسلام، وقل أهل الكفر وذلوا، أُمِرَ بمجاهرة المنافقين، وحملهم على حكمِ مُرِّ الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى». اهـ (2)
أدلة هذا القول (3):
الدليل الأول: أنَّ الله تعالى قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الاستغفار جملة للمشركين، بقوله تعالى:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113] فلو كان ابن أبي وغيره من المذكورين ممن تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كفار - بلا شك - لما استغفر لهم، ولا صلى عليه. ولا يحل لمسلم أنْ يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه خالف ربه في ذلك، فصح يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم قط أنَّ عبد الله بن أبي والمذكورين كفار في الباطن.
والنهي عن الاستغفار للمشركين نزل بمكة - بلا شك - فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يوقن أنَّ عبد الله بن أبي مشرك، ولو أيقن أنه مشرك لما صلى عليه أصلاً، ولا استغفر له.
الدليل الثاني: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدد مقالات عبد الله بن أبي بن سلول، ولو كان عنده كافراً لصرح بذلك، وقصد إليه، ولم يطول بغيره.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (4905)، ومسلم في صحيحه، في كتاب البر والصلة، حديث (2584).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (8/ 187).
(3)
ذكر هذه الأدلة: ابن حزم في المحلى (12/ 140 - 141).
الدليل الثالث: شك ابن عباس (1)، وجابر (2)، وتعجب عمر من معارضة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على عبد الله بن أبي، وإقراره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف منه، كل ذلك يدل على أنَّ كفره لم يكن معروفاً ظاهراً.
واعتُرِضَ: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» (3)؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فهم من الآية أنَّ الله لا يغفر له، فدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم بأنه مات على الكفر والنفاق.
واعتُرِضَ أيضاً: بأن في بقية الآية التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله، فكيف يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بحاله؟
وأجيب: بأن الذي نزل أولاً وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به هو قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)، وأما بقية الآية فنزل متراخياً عن أولها. وهذا رأي الحافظ ابن حجر. (4)
القول الثاني: أنَّ المنهي عنه هو الاستغفار الذي تُرجى إجابته، حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة للمُسْتَغْفَرِ له، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأبي طالب؛ فإنه إنما استغفر له كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، على جهة أنْ يجيبهما الله
(1) عن عكرمة قال: «لما حضر عبدَ الله بن أبي الموتُ، قال ابن عباس رضي الله عنه: فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى بينهما كلام فقال له عبد الله بن أبي: قد أفقه ما تقول ولكن مُنَّ عَليَّ اليوم وكفني بقميصك هذا، وصلِّ علي؟ قال ابن عباس: فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقميصه وصلى عليه، والله أعلم أي صلاة كانت، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخدع إنساناً قط» . أخرجه ابن حزم في المحلى (12/ 139).
(2)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي - وقد وضع في حفرته - فوقف فأمر به فأخرج من حفرته، فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه، ونفث عليه من ريقه، والله أعلم» . أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب اللباس، حديث (5795)، ومسلم في صحيحه، في كتاب صفات المنافقين، حديث (2773). وقوله:«والله أعلم» إشارة إلى الشك في إسلام عبد الله بن أبي؛ فإن هذه الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم معه لا تفعل إلا مع مسلم. انظر: طرح التثريب، للعراقي (3/ 281).
(3)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(4)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (8/ 190).
تعالى، فيغفر للمدعو له، وهذا النوع هو الذي يتناوله منع الله ونهيه، وأما الاستغفار لأولئك المنافقين الذين خُيِّر فيهم فهو استغفار لساني؛ علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع، وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر لهم، فانفصل المنهي عنه من المخير فيه، وارتفع الإشكال.
قاله أبو العباس القرطبي. (1)
واختاره: أبو عبد الله القرطبي. (2)
ويدل على هذا القول: رواية: «لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» (3)، وهي صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بأن استغفاره لن ينفعه بشيء.
واعتُرِضَ: بأن هذا القول لا يجوز نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أخبر بأنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. (4)
القول الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصلِ على عبد الله بن أبي، ولم يشهد جنازته.
وهذا اختيار أبي جعفر الطحاوي. (5)
قال أبو جعفر: «وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ما قد دل على أنه لم يكن صلى عليه؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: «أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ» (6)، وعنه قال: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ إنْ لَمْ تَشْهَدْهُ لَمْ نَزَلْ نُعَيَّرُ بِهِ. فَأَتَاهُ، وَقَدْ أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 641).
(2)
تفسير القرطبي (8/ 140).
(3)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(4)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (8/ 190).
(5)
مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 75).
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب اللباس، حديث (5795)، ومسلم في صحيحه، في كتاب صفات المنافقين، حديث (2773).
فَقَالَ: أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلُوهُ، قَالَ: فَأُخْرِجَ مِنْ حُفْرَتِهِ، فَتَفَلَ عَلَيْهِ مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ» (1)، قال أبو جعفر: ففي هذا ما قد دل أنه لم يكن صلى عليه، ولا شهده، ولا أتاه قبل ذلك، وهذا هو أشبه بأفعاله كانت فيمن سواه من الناس; أنَّ صلاته على من كان يصلي عليه إنما كانت لِمَا يَفْعَلُ اللَّهُ لِمَنْ صَلَّاهَا عَلَيْهِ. كما في حديث يزيد بن ثابت رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا أَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَاتَ إلَّا آذَنْتُمُونِي لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ» (2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ دَخَلَ الْمَقْبَرَةَ فَصَلَّى عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَقَالَ: مُلِئَتْ هَذِهِ الْمَقْبَرَةُ نُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُظْلِمَةً عَلَيْهِمْ» . (3)
قال أبو جعفر: وإذا كانت صلاته لمن كان يصلي عليه إنما كانت لمن ذكر في هذين الحديثين، ولم يكن ابن أبي ممن يدخل في ذلك، استحال أنْ يكون صلى عليه». اهـ (4)
واعتُرِضَ: بأنه قد جاء في حديث ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وحديث جابر ليس فيه تصريح بنفي الصلاة، والرواية الصريحة تفسر ما أُبهم أو سُكِتَ عنه في الروايات الأخرى.
الثاني: مسلك رد الحديث وتضعيفه:
حيث ذهب بعض العلماء إلى إنكار الحديث ورده؛ بسبب الإشكال المتوهم من ظاهره.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 371)، حديث (14986).
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه، في كتاب ما جاء من الجنائز، حديث (1528)، والنسائي في سننه، في كتاب الجنائز، حديث (2022). وصححه الألباني في «صحيح النسائي» (2/ 64)، حديث (2021).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (956).
(4)
مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 74 - 77)، باختصار.