الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث:
لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآيات والحديث، وقد اختلفوا في الجمع على أربعة مذاهب:
الأول: مذهب إثبات السماع مطلقاً للأموات، وتأويل الآيات التي فيها نفي السماع.
وهذا مذهب الجمهور من العلماء (1)، حيث ذهبوا إلى إجراء الأحاديث التي فيها إثبات السماع على ظاهرها وعمومها، وقالوا: إنَّ الميت بعد موته يسمع كلام الأحياء ويشعر بهم.
وهو اختيار جمع من المحققين، كابن حزم، والقاضي عياض، والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير. (2)
واختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الآيات - التي فيها نفي السماع - على أقوال:
الأول: أنَّ الموتى في الآيات المراد بهم الأحياء من الكفار، والمعنى: إنك لا تُسْمِع الكفار الذين أمات الله قلوبهم إسماع هدىً وانتفاع، "وشُبِّهُوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس؛ لأنهم إذا سمعوا ما يُتلى عليهم من آيات الله، فكانوا أقماع القول، لا تعيه آذانهم، وكان سماعهم كلا سماع، كانت حالهم - لانتفاء جدوى السماع - كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع". (3)
(1) نسبه للجمهور: ابن جرير الطبري، في تهذيب الآثار (2/ 491)، وابن رجب، في أهوال القبور، ص (133)، والعيني، في عمدة القاري (8/ 202).
(2)
انظر على الترتيب: الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 373)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (8/ 405)، وصحيح مسلم بشرح النووي (17/ 299)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 273، 298)، (24/ 172، 297، 364، 380)، والروح، لابن القيم، ص (141)، وتفسير ابن كثير (3/ 447).
(3)
انظر: الكشاف، للزمخشري (3/ 370).
وهذا القول فيه حمل للآيات على المجاز، وذلك بتشبيه الكفار الأحياء بالموتى.
وقد قال بهذا القول: ابن قتيبة، والخطابي، والبغوي، والزمخشري، والسهيلي، وأبو العباس القرطبي، والسمعاني، والمُلا علي بن سلطان القاري، والسيوطي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (1)
قال السهيلي: "جعل الكفار أمواتاً وصُمَّاً على جهة التشبيه بالأموات وبالصم؛ فالله هو الذي يُسْمِعُهُم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه صلى الله عليه وسلم ولا أحد، فإذاً لا تعلق بالآية من وجهين:
أحدهما: أنَّها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان.
الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنْ يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، ويفعل ما شاء، وهو على كل شيء قدير". اهـ (2)
وقال الشنقيطي: "اعلم أنَّ التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أنَّ معنى قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، أي لا تسمع الكفار - الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه - إسماع هدىً وانتفاع؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع". اهـ (3)
(1) انظر على الترتيب: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (143)، وغريب الحديث، للخطابي (1/ 342)، وشرح السنة، للبغوي (7/ 122)، والكشاف، للزمخشري (3/ 370)، والروض الأنف، للسهيلي (3/ 85 - 86)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 585)، وتفسير السمعاني (4/ 112)، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (7/ 475)، والحاوي للفتاوى، للسيوطي (2/ 53)، وأضواء البيان، للشنقيطي (6/ 416)، والشرح الممتع، لابن عثيمين (5/ 385)، طبعة دار ابن الجوزي.
(2)
الروض الأنف، للسهيلي (3/ 85 - 86).
(3)
أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 416)، باختصار.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها (1):
الأول: أنَّ الله تعالى بعد أنْ نفى السماع عنهم قال: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)) [النمل: 81]، فمقابلته جلَّ وعلا الإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها - لمن يؤمن بآياته - دليلٌ واضح على أنَّ المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله:(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) مفارقة الروح للبدن لما قابل ذلك بقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ)، بل لقابله بما يناسبه، كأن يُقال: إنْ تسمع إلاّ من لم يمت.
الدليل الثاني: أنَّ استقراء القرآن الكريم يدل على أنَّ الغالب استعمال الموتى بمعنى الكفار، كقوله تعالى:(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)) [الأنعام: 36]، وقد أجمع (2) من يعتد به من أهل العلم أنَّ المراد بالموتى في الآية هم الكفار.
وكقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)) [الأنعام: 122]، فقوله:(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا)، أي: كافراً؛ فأحييناه، أي: بالإيمان والهدى، وهذا لا نزاع فيه بين المفسرين، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر.
وكقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ)[فاطر: 22]، أي: لا يستوي المؤمنون والكافرون.
الدليل الثالث: أنَّ قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، وما في معناها من الآيات، كلها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحزنه عدم إيمانهم، كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله تعالى:(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)[الأنعام: 33]،
(1) انظر: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (143)، والروح، لابن القيم، ص (141 - 142)، وأضواء البيان، للشنقيطي (6/ 416 - 419).
(2)
لم أقف على حكاية الإجماع في أن المراد بالموتى في الآية هم الكفار، وذكر ابن الجوزي في زاد المسير
(3/ 27) قولاً آخر في معنى الآية: أنهم الموتى حقيقة، ضربهم الله مثلاً، والمعنى أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله.
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)) [الحجر: 97]، وقوله:(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)[النحل: 127]، وقوله:(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)) [الشعراء: 3] إلى غير ذلك من الآيات، ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم أنزل الله آيات كثيرة تسلية له صلى الله عليه وسلم، بَيَّنَ له فيها أنه لا قدرة له على هدي من أضله الله، ومن الآيات النازلة تسلية له صلى الله عليه وسلم، قوله هنا:(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، أي لا تُسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول، ولو كان معنى الآية وما شابهها: إنك لا تسمع الموتى، أي: الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم.
واعتُرِضَ: بأنَّ ما ذُكِرَ من معنى آيتي النمل والروم مُسَلَّمٌ فيه، لكن ذلك لا يمنع الاستدلال بهما على نفي سماع الموتى مطلقاً؛ لأنَّ الموتى لما كانوا لا يسمعون حقيقة، وكان ذلك معروفاً عند المخاطبين شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع، فدل هذا التشبيه على أنَّ المشبه بهم - وهم الموتى في قبورهم - لا يسمعون، كما يدل مثلاً تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أنَّ الأسد شجاع، بل هو في ذلك أقوى من زيد، ولذلك شُبِّهَ به، وإن كان الكلام لم يُسقْ للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه، وإنما عن زيد، وكذلك آيتا النمل والروم، وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشُبّهوا بموتى القبور، فذلك لا ينفي أنَّ موتى القبور لا يسمعون، بل إنَّ كل عربي سليم السليقة، لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أنَّ هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم، وإذ الأمر كذلك فموتى القبور لا يسمعون. (1)
واعتُرِضَ أيضاً: بأنَّ الله تعالى قال في آية أخرى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)[فاطر: 22] وهذه الآية صريحة في نفي سماع الأموات، ولا يتأتى حملها على المعنى الذي ذُكِرَ.
وأجيب: بأنَّ هذه الآية هي كآيتي النمل والروم المتقدمتين، لأنَّ المراد بقوله:(مَنْ فِي الْقُبُورِ) الموتى، فلا فرق بين قوله:(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) وبين قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)؛ لأنَّ المراد بالموتى ومن في القبور
(1) انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (21 - 22).
واحد، كقوله تعالى:(وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)[الحج: 7]، أي يبعث جميع الموتى، من قُبر منهم ومن لم يُقْبَر، وقد دلت قرائن قرآنية على أنَّ معنى آية فاطر هذه كمعنى آية الروم، منها قوله تعالى قبلها:
(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ)[فاطر: 18]؛ لأنَّ معناها لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه، فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة، وما أنت بمسمع من في القبور، أي الموتى، أي الكفار الذين سبق لهم الشقاء، ومنها قوله تعالى:(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)) [فاطر: 19]، أي المؤمن والكافر، وقوله تعالى:(وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ)[فاطر: 22] أي المؤمنون والكفار، ومنها قوله تعالى بعدها:(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)) [فاطر: 23] أي ليس الإضلال والهدى بيدك، ما أنت إلا نذير وقد بلغت. (1)
القول الثاني: أنَّ الموتى في الآيات المراد بهم الذين ماتوا حقيقة، لكن المراد بالسماع المنفي هو خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع به صاحبه، وأنَّ هذا مثلٌ ضربه الله للكفار؛ إذ الكفار يسمعون الحق، ولكن لا ينتفعون به.
قالوا: وقد يُنفى الشيء لانتفاء فائدته وثمرته، كما في قوله تعالى:(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)) [الأعراف: 179]. (2)
وهذا رأي: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم (3)، وابن رجب (4)، والأبي (5)، وذكره ابن جرير الطبري احتمالاً آخر في معنى الآية.
قال الطبري: "معنى الآية: إنك لا تسمع الموتى إسماعاً ينتفعون به؛ لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار الأعمال إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله والعمل بطاعته، فكذلك هؤلاء الذين
(1) انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 419).
(2)
انظر: أهوال القبور، لابن رجب، ص (135).
(3)
الروح، لابن القيم، ص (141).
(4)
أهوال القبور، لابن رجب، ص (134 - 135).
(5)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (3/ 330 - 331).
كتب ربك عليهم أنهم لا يؤمنون لا يُسْمِعُهم دعاؤك إلى الحق إسماعاً ينتفعون به؛ لأن الله تعالى ذكره قد ختم عليهم أنْ لا يؤمنوا، كما ختم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد خروجهم من دار الدنيا إلى مساكنهم من القبور إيمان ولا عمل؛ لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هي دار مجازاة، وكذلك تأويل قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)[فاطر: 22] ". اهـ (1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه؛ فإنَّ هذا مثل ضُرب للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبولٍ بفقهٍ واتباع، كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)) [البقرة: 171]، فهكذا الموتى الذين ضُرب لهم المثل لا يجب أنْ يُنفى عنهم جميع السماع المعتاد، أنواعَ السماع، كما لم يُنْفَ ذلك عن الكفار; بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماعٌ آخر فلا يُنفى عنهم". اهـ (2)
وهذا القول: دلت عليه آيات من كتاب الله، جاء فيها التصريح بالبكم والصَّمَم والعمى مُسنداً إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم: صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين:(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)) [البقرة: 18] فقد قال فيهم: (صم بكم) مع شدة فصاحتهم، وحلاوة ألسنتهم، كما صرح به في قوله تعالى فيهم:(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)[المنافقون: 4] أي لفصاحتهم، وقوله تعالى:(فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)[الأحزاب: 19]، فهؤلاء الذين إنْ يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسِنةٍ حِداد، هم الذين قال الله فيهم: صم بكم عمي، وما ذلك إلا أنَّ صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما يُنتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صَمُّوا عنه فلم
(1) تهذيب الآثار، للطبري (2/ 520).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 298).
يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه، مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه وينطقون به، كما قال تعالى:(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) [الأحقاف: 26]. (1)
واعتُرِضَ على هذا القول: بأنَّ فيه قلباً للتشبيه المذكور في الآيات، حيث جُعل المشبه به مشبهاً؛ لأنَّ القيد المذكور في هذا القول يصدق على موتى الأحياء من الكفار، فإنهم يسمعون حقيقة، ولكن لا ينتفعون من سماعهم، كما هو مشاهد، فكيف يجوز جعل المشبه بهم - من موتى القبور - مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم، مع أنَّ المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقاً، ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيات، فبطل القيد الذي ذكره أصحاب هذا القول. (2)
واعتُرِضَ أيضاً: بأنَّ الله تعالى نفى السماع عن الموتى، وعن الصم، فهل يُقال: إنَّ الصم يسمعون، لكن لا يسمعون سماع قبول وانتفاع؟
القول الثالث: أنَّ معنى الآيات: إنك لا تُسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، ولكن الله تعالى هو الذي يسمعهم إذا شاء؛ إذ هو القادر على ذلك دون من سواه.
وهذا رأي: ابن التين (3)، والإسماعيلي (4)، وذكره ابن جرير الطبري احتمالاً آخر في معنى الآية (5).
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
الأول: أنَّ الله تعالى بعد أنَّ نفى السماع قال: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ)[النمل: 81]، فبين أنَّ الهداية من الكفر إلى الإيمان بيده دون من
(1) انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 420 - 421).
(2)
انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (22).
(3)
نقله عنه الحافظ ابن حجر، في الفتح (3/ 277).
(4)
المصدر السابق.
(5)
تهذيب الآثار، للطبري (2/ 519).
سواه، فنفيه سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنْ يكون قادراً أنْ يُسمع الموتى إلا بمشيئته، هو كنفيه أنْ يكون قادراً على هداية الكفار إلا بمشيئته.
الدليل الثاني: أنَّ الله تعالى أثبت لنفسه القدرة على إسماع من شاء من خلقة بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ)، ثم نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم القدرة على ما أثبته وأوجبه لنفسه من ذلك، فقال له:(وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ولكن الله هو الذي يسمعهم دونك وبيده الإفهام والإرشاد والتوفيق، وإنما أنت نذير فبلغ ما أرسلت به. (1)
أدلة القائلين بإثبات السماع مطلقاً للأموات:
استدل القائلون بإثبات السماع مطلقاً للأموات بأدلة منها:
الأول: مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر من المشركين (2)، وهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقوله صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصاً. (3)
واعتُرِضَ: بأنَّ عائشة رضي الله عنها روت الحديث بلفظ: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ"، وهذا يدل على أنَّ الرواية التي فيها التصريح بالسماع غير محفوظة.
وأجيب: بأنَّ تأول عائشة رضي الله عنها بعض آيات القرآن، لا تُرد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم، ويتأكد ذلك بثلاثة أمور:
الأول: أنَّ رواية العدل لا تُرد بالتأويل.
الثاني: أنَّ عائشة رضي الله عنها لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليسمعون الآن ما أقول"، قالت: إنَّ الذي قاله صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليعلمون الآن أنَّ الذي كنت أقول لهم هو الحق"، فأنكرت السماع ونَفَتْهُ عنهم، وأثبتت لهم العلم، ومعلومٌ أنَّ من ثبت له العلم صح منه السماع.
الثالث: هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها إلى الروايات
(1) انظر: المصدر السابق.
(2)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(3)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 422).
الصحيحة، قال الحافظ ابن حجر:"ومن الغريب أنَّ في المغازي لابن إسحاق، رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة، مثل حديث أبي طلحة، وفيه: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، وأخرجه أحمد (1)
بإسناد حسن؛ فإن كان محفوظاً فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة". اهـ (2)
وقال الإسماعيلي: "كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رَدِّ رواية الثقة إلا بنصٍ مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته". اهـ (3)
الدليل الثاني: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ .... "(4)، وهذا الحديث فيه تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ الميت في قبره يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، وظاهره العموم في كل
(1) أخرج الإمام أحمد في مسنده (6/ 170)، والطبري في تهذيب الآثار (2/ 517)، من طريق هُشَيْمٍ قَالَ: أخبرنا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ:"لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ بِأُولَئِكَ الرَّهْطِ فَأُلْقُوا فِي الطُّوَى، عُتْبَةُ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ، وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: جَزَاكُمْ اللَّهُ شَرًّا مِنْ قَوْمِ نَبِيٍّ، مَا كَانَ أَسْوَأَ الطَّرْدِ وَأَشَدَّ التَّكْذِيبِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تُكَلِّمُ قَوْمًا جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَفْهَمَ لِقَوْلِي مِنْهُمْ، أَوْ لَهُمْ أَفْهَمُ لِقَوْلِي مِنْكُمْ".
وإسناده ضعيف، إبراهيم: هو ابن يزيد النخعي، لم يسمع من عائشة، ورواية مغيرة بن مقسم عنه ضعيفة.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 90) وقال: "رواه أحمد، ورجاله ثقات، إلا أن إبراهيم لم يسمع من عائشة، ولكنه دخل عليها". وانظر: مسند الإمام أحمد (42/ 230)، بإشراف د. عبد الله التركي.
(2)
فتح الباري، لابن حجر (7/ 354).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (7/ 354)، وفيه النقل عن الإسماعيلي. وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 585)، وأهوال القبور، لابن رجب، ص (134)، وأضواء البيان، للشنقيطي (6/ 429).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1338)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنة وصفة نعيمها، حديث (2870).
من دُفِنَ، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصاً. (1)
واعتُرِضَ: بأنَّ ما ورد في هذا الحديث مخصوص بأول الدفن، عند سؤال الملكين، وهو غير دائم، فلا يفيد عموم سماع الأموات في كل الأحوال والأوقات. (2)
وأيضاً: فإنَّ الروح تُعاد للبدن عند المساءلة - كما ثبت بذلك الحديث (3) - لذا فإنَّ سماع الميت قرع النعال، إنما هو بسبب اتصال الروح بالبدن، وهذا الاتصال غير دائم، بل هو مخصوص بوقت السؤال (4)، وعليه فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث، على عموم سماع الأموات في كل وقت وحين.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ". (5)، وهذا الحديث فيه مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله:"السلام عليكم"، وقوله:"وإنا إنْ شاء الله بكم لاحقون"، وهذا يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون
(1) أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 423، 425)، وانظر: تفسير القرطبي (13/ 154)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 299)، وأهوال القبور، لابن رجب، ص (134)، والروح، لابن القيم، ص (141)، وروح المعاني، للآلوسي (21/ 76).
(2)
انظر: فتح القدير، لابن الهمام (2/ 104)، وفيض القدير، للمناوي (2/ 398)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (8/ 21).
(3)
عود الروح للبدن وقت المساءلة في القبر، جاء في حديث طويل، من رواية المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، مرفوعاً، والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ .... ". وسيأتي الحديث بطوله في مبحث الترجيح.
(4)
قال الحافظ ابن حجر، في فتح الباري (3/ 284):"الحياة في القبر للمساءلة، ليست الحياة المستقرة المعهودة في الدنيا، التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذي وردت به الأحاديث الصحيحة، فهي إعادة عارضة، كما حيي خلق لكثير من الأنبياء لمساءلتهم عن أشياء ثم عادوا موتى". اهـ. وانظر: الروح، لابن القيم، ص (151)، وأهوال القبور، لابن رجب، ص (137).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الطهارة، حديث (249).
سلامه؛ لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شك في أنَّ ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جداً صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
واعتُرِضَ: بأنَّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة بقولهم: "السلام عليك أيها النبي
…
" (2)
وهم خلفه، وقريباً منه، وبعيداً عنه، في مسجده، وفي غير مسجده، وكذا جمهور المسلمين اليوم، وقبل اليوم، الذين يخاطبونه بذلك، أفيقال: إنه يسمعهم، أو أنه من المحال السلام عليه، وهو لا يشعر بهم ولا يعلم؟ (3)
واعتُرِضَ أيضاً: بأنَّ السلام على القبور إنما هو عبادة، والقصد منه تذكير النفس بحالة الموت، وبحالة الموتى في حياتهم، وليس القصد من السلام مخاطبتهم، أو أنهم يسمعون ويجيبون. (4)
الدليل الرابع: ما جرى عليه عمل الناس - قديماً وإلى الآن - من تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، ولكان عبثاً.
قالوا: وهذا الذي جرى عليه عمل الناس قد جاء ما يعضده في حديث ضعيف؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا
(1) أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 425، 432)، وانظر: تفسير القرطبي (13/ 154)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (24/ 297)، وتفسير ابن كثير (3/ 447 - 449)، والروح، لابن القيم، ص (54).
(2)
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ".
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الصلاة، حديث (403).
(3)
انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (39)، وانظر تعليقه على أصل الكتاب، ص (96).
(4)
المحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 270).
فلان بن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: أذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فإنَّ منكراً ونكيراً، يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نقعد عند من قد لُقِّنَ حُجَّته، فيكون اللهُ حجيجَه دونهما، فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمه؟ قال: فينسبه إلى حواء، يا فلان بن حواء". (1)
قالوا: فهذا الحديث وإن لم يثبت إلا أنَّ اتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار، من غير إنكار، كافٍ في العمل به، ولولا أنَّ المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد، فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه، قالوا: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ"(2)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُسأل حينئذ، وإذا كان يُسأل فإنه يسمع التلقين. (3)
واعتُرِضَ: بأنَّ حديث تلقين الميت لا يصح، بل هو حديث متفق على ضعفه، وعمل الناس إذا لم يعضده دليل صحيح فلا حجة فيه. (4)
الدليل الخامس: أنَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه قال - في وصيته عند موته -: "فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا (5) عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 249). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 45): "رواه الطبراني في الكبير، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم". وقال ابن القيم في حاشيته على مختصر سنن أبي داود
(13/ 199): "هذا الحديث متفق على ضعفه".
(2)
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الجنائز، حديث (3221). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 305).
(3)
الروح، لابن القيم، ص (70 - 71)، وانظر: أضواء البيان، للشنقيطي (6/ 437).
(4)
انظر: أحكام الجنائز، للألباني، ص (198).
(5)
أي: ضعوه وضعاً سهلاً. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 223)، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 413).
جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي" (1)، وهذا يدل على أنَّ الميت ترد عليه روحه ويسمع حِسَّ من هو على قبره وكلامه، وهذا الحديث إنما قاله عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثله لا يدرك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم. (2)
الدليل السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يمر على قبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام". (3)
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (121).
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (1/ 332)، والروح، لابن القيم، ص (63 - 64)، وأهوال القبور، لابن رجب، ص (143)، وأضواء البيان، للشنقيطي (6/ 432).
(3)
أخرجه ابن حبان في "المجروحين"(2/ 58)، وتمام في "الفوائد"(1/ 63)، والبغدادي في "تاريخ بغداد"(6/ 137)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(10/ 380)، (27/ 65)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 911)، جميعهم من طريق الربيع بن سليمان المرادي، عن بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، به. مرفوعاً.
وأخرجه ابن جميع الصيداوي في "معجم الشيوخ"(1/ 350)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (12/ 590)، كلاهما من طريق الربيع بن سليمان، عن بشر بن بكر، عن ابن زيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعاً.
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(10/ 379) من طريق محمد بن أحمد الأعرابي، عن بكر بن سهل الدمياطي، عن محمد بن مخلد الرعيني، عن ابن زيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعاً.
وأخرجه أيضاً (10/ 380) من طريق محمد بن يعقوب الأصم، عن بكر بن سهل، عن محمد بن مخلد، عن ابن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، مرفوعاً.
والحديث مداره على "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" متفق على تضعيفه، وقد اضطرب فيه. قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 911):"لا يصح هذا الحديث، وقد أجمعوا على تضعيف عبد الرحمن بن زيد. قال ابن حبان في كتابه "المجروحين" (2/ 57): كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كَثُرَ ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحق الترك". اهـ
وقد تُوبع عبد الرحمن بن زيد في روايته عن أبيه، فأخرج ابن أبي الدنيا في "كتاب القبور"[كما في كتاب الروح، لابن القيم، ص (55)] قال: حدثنا محمد بن قدامة الجوهري، حدثنا معن بن عيسى القزاز، حدثنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه ردَّ عليه السلام وعرفه، وإذا مرَّ بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام".
إلا أن هذه المتابعة ضعيفة ولا يصح اعتبارها؛ لثلاث علل:
الأولى: أنها موقوفة على أبي هريرة.
الثانية: الانقطاع بين زيد بن أسلم، وأبي هريرة؛ فإنَّ زيداً لم يسمع من أبي هريرة، كما قال ابن معين، والذهبي. انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (3/ 341)، وجامع التحصيل، للعلائي (1/ 178)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي (12/ 590).
العلة الثالثة: ضعف الجوهري، قال ابن معين:"ليس بشيء"، وقال أبو داود:"ضعيف، لم أكتب عنه شيئاً قط". انظر: تهذيب الكمال، للمزي (26/ 312)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني (9/ 474).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحدٍ مَرَّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له، ثم قرأ هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)) [الأحزاب: 23] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أنَّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يُسَلِّمُ عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا رَدُّوا عليه". (1)
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 271) من طريق سليمان بن بلال، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قَطَن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة، به. مرفوعاً.
قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين". وتعقبه الذهبي بقوله: "كذا قال، وأنا أحسبه موضوعاً، وقطن لم يروِ له البخاري، وعبد الأعلى لم يخرجا له". اهـ
وأخرجه الطبراني في الكبير (20/ 364)، عن أبي بلال الأشعري، عن يحيى بن العلاء، عن عبدالأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن، عن عبد الله بن عمر، به.
وذِكْرُ ابن عمر فيه وهم، أو تصحيف؛ بدليل أن أبا نعيم الأصبهاني أخرجه في الحلية (1/ 108)، من طريق الطبراني، عن عبيد بن عمير، مرسلاً. ولم يذكر ابن عمر.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 31)، من طريق العطاف بن خالد المخزومي، قال: حدثني عبدالأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبور الشهداء بأحد فقال: "اللهم إنَّ عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء، وأنه من زارهم وسلم عليهم إلى يوم القيامة ردوا عليه".
قال الحاكم: "هذا إسناد مدني صحيح ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "مرسل".
وأخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 121)، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا عمرو بن صهبان، عن معاذ بن عبد الله، عن وهب بن قطن، عن عبيد بن عمير، مرسلاً.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 221) قال: حدثني محمد بن صالح بن هانئ، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى الشهيد، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، ثنا حاتم بن =
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد مَرَّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فَسَلَّمَ عليه إلا عرفه وَرَدَّ عليه السلام". (1)
= إسماعيل، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مَرَّ على مصعب الأنصاري مقتولاً على طريقه، فقرأ:(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).
قلت: الحديث معلول بسبب الاضطراب في إسناده، قال الحافظ ابن رجب في "أهوال القبور"،
ص (142): "ورواه يحيى بن العلاء، عن عبد الأعلى بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. خرجه الطبراني، وذِكْرُ ابن عمر فيه وهم". اهـ
ثم قال الحافظ ابن رجب: "ورُوي عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر، ولعل المرسل أشبه، وبالجملة الضعف أشبه، وبالجملة فهذا إسناد مضطرب، ومتنه مختص بالشهداء". اهـ
وله شاهد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أخرجه ابن الجعد في مسنده (1/ 432) قال: حدثنا محمد بن حبيب الجارودي، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد قال:"وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد فقال: اشهدوا لهؤلاء الشهداء عند الله عز وجل يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يُسَلَّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا رجوت له، أو قال: إلا ردوا عليه".
وفي إسناده "محمد بن حبيب الجارودي" قال الذهبي في الميزان (6/ 100): "غمزه الحاكم النيسابوري، وأتى بخبر باطل اتُهِمَ بسنده". اهـ قلت: وحديثه هذا الأشبه أن إسناده موضوع. وانظر: لسان الميزان، لابن حجر (5/ 115)، والمغني في الضعفاء، للذهبي (2/ 565).
النتيجة: أن الحديث ضعيف، وممن ضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(11/ 365)، حديث (5221).
(1)
أخرجه ابن عبد البر، في الاستذكار (2/ 165) قال: أخبرنا أبو عبد الله، عبيد بن محمد، قراءة مني عليه، سنة تسعين وثلاثمائة، في ربيع الأول، قال: أملت علينا فاطمة بنت الريان المستملي، في دارها بمصر، في شوال، سنة اثنتين وأربعين وثلاث مائة، قالت: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، صاحب الشافعي، قال: حدثنا بشر بن بكير، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ، فذكره.
قال الحافظ ابن رجب: "قال عبد الحق الإشبيلي: إسناده صحيح. يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، وهو كذلك، إلا أنه غريب، بل منكر". اهـ
وقد تبع العراقيُ في "تخريج الإحياء"(5/ 243) عبدَ الحق الإشبيلي في تصحيحه للحديث، وأقرّه المناوي في "فيض القدير"(5/ 487).
قال الألباني، في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (9/ 475): "هذا إسناد غريب؛ الربيع بن سليمان فمن =
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به، وَرَدَّ عليه، حتى يقوم". (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال أبو رزين: يا رسول الله، إنَّ طريقي على الموتى، فهل من كلام أتكلم به إذا مررت عليهم؟ قال: قل: السلام
= فوقه؛ ثقات معروفون من رجال التهذيب، وأما من دونه فلم أعرفهما، لا شيخ ابن عبد البر، ولا المملية فاطمة بنت الريان، وظني أنها تفردت - بل شذت - بروايتها الحديث عن الربيع بن سليمان بهذا الإسناد الصحيح له عن ابن عباس؛ فإنَّ المحفوظ عنه إنما هو بالإسناد الأول". اهـ
قلت: ومراده بالإسناد الأول: حديث أبي هريرة، من طريق زيد بن أسلم، وقد تقدم.
ثم ساق الألباني الحديث من طريق بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن زيد، وبيّن أن هذا هو المحفوظ، ثم قال:"ومن هذا التحقيق يتبين أن قول عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح، غير صحيح، وإن تبعه العراقي في تخريج الإحياء، وأقره المناوي". اهـ
وقال ابن باز في مجموع الفتاوى والمقالات له (13/ 336): "في إسناده نظر".
قلت: الأشبه أن إسناد هذا الحديث موضوع، والأقرب أنه مركب من إسناد حديث أبي هريرة، الذي يُروى من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومن الإسناد الذي يُروى من طريق قطن بن وهب، وقد تقدما.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور"[كما في الروح، لابن القيم، ص (54)] قال: حدثنا محمد بن عون، حدثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده إلا استأنس به، وردَّ عليه، حتى يقوم".
وهذا الحديث ضعيف جداً؛ من أجل عبد الله بن سمعان، قال الحافظ ابن رجب في "أهوال القبور"، ص (143):"رواه عبد الله بن سمعان، وهو متروك".
وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(5/ 243): "حديث عائشة (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم) أخرجه ابن أبي الدنيا في القبور، وفيه عبد الله بن سمعان، ولم أقف على حاله". اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان"(3/ 297): "عبد الله بن سمعان: ذكره شيخي العراقي في تخريج الإحياء في حديث عائشة، وقال: وفي سنده عبد الله بن سمعان لا أعرف حاله. قلت: يجوز لاحتمال أن يكون هو المُخرَّج له في بعض الكتب، وهو عبد الله بن زياد بن سمعان، يُنسب إلى جده كثيراً، وهو أحد الضعفاء". اهـ
عليكم أهل القبور من المسلمين والمؤمنين، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وإنا إنْ شاء الله بكم لاحقون. قال أبو رزين: يا رسول الله، يسمعون؟ قال: يسمعون، ولكن لا يستطيعون أنْ يجيبوا. قال: يا رزين، ألا ترضى أنْ يرد عليك بعددهم من الملائكة". (1)
قالوا: فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضاً، وهي تدل صراحة على أنَّ الميت يشعر بزيارة الحي، ويسمع كلامه، ويرد عليه السلام. (2)
واعتُرِضَ: بأنَّ هذه الأحاديث كلها ضعيفة، ولا يصح منها شيء. (3)
الدليل السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام". (4)
واعتُرِضَ: بأنَّ الحديث ليس صريحاً في سماعه صلى الله عليه وسلم سلام من سلم عليه عند قبره. (5)
(1) أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(4/ 19)، من طريق: محمد بن الأشعث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به.
وأعله العقيلي بمحمد بن الأشعث، حيث قال:"محمد بن الأشعث: مجهول في النسب والرواية، وحديثه غير محفوظ"، ثم ساق الحديث وقال:"ولا يُعرف إلا بهذا اللفظ، وأما السلام عليكم يا أهل القبور، إلى قوله: وإنا إنْ شاء الله بكم لاحقون. فيُروى بغير هذا الإسناد، من طريق صالح، وسائر الحديث غير محفوظ". اهـ
وأقرّه الحافظ ابن رجب، في "أهوال القبور"، ص (141)، والذهبي في الميزان (6/ 74)، وابن حجر في اللسان (5/ 84). وحكم على الحديث بالنكارة: الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(11/ 372).
(2)
انظر: الروح، لابن القيم، ص (54 - 77)، وأهوال القبور، لابن رجب، ص (142)، وروح المعاني، للآلوسي (21/ 76).
(3)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (21/ 78)، ومقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (38).
(4)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 527)، وأبو داود في سننه، في كتاب المناسك، حديث (2041)، وصححه النووي في "رياض الصالحين"(1/ 316)، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 563):"رواته ثقات"، وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1/ 570).
(5)
قاله الألباني في تعليقه على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (80).
الدليل الثامن: كثرة المرائي التي تقتضي سماع الموتى ومعرفتهم لمن يزورهم، وهذه المرائي وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ"(1) يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطىء روايتهم له. (2)
واعتُرِضَ: بأنَّ المرائي لا يصح أنْ يُعتمد عليها في باب الاعتقاد والأمور المغيبة، إذ لا سبيل لمعرفة الأمور المغيبة إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة.
المذهب الثاني: مذهب نفي سماع الأموات مطلقاً، وتأويل الأحاديث التي فيها إثبات السماع.
حيث ذهب جمع من العلماء إلى إجراء الآيات التي فيها نفي السماع على ظاهرها وعمومها، وقالوا: إنَّ الميت لا يسمع شيئاً من كلام الأحياء، ولا يشعر بهم.
واختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الأحاديث التي فيها إثبات السماع على أقوال:
الأول: أنَّ ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من إسماع قتلى بدر - هو معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد أحياهم الله له حتى سمعوا كلامه، وهذا خاص به دون غيره من الناس.
وهذا رأي: قتادة، والبيهقي (3)، والمازري (4)، وابن عطية، وابن الجوزي (5)،
وابن قدامة (6)، وابن الهمام (7)، والقاضي أبي يعلى (8)، والألباني.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجمعة، حديث (1158)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الصيام، حديث (1165).
(2)
انظر: الروح، لابن القيم، ص (63)، وأضواء البيان، للشنقيطي (6/ 431).
(3)
نقله عنه الحافظ ابن حجر، في الفتح (7/ 324).
(4)
المعلم بفوائد مسلم، للمازري (1/ 324).
(5)
كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (1/ 148).
(6)
المغني، لابن قدامة (7/ 352)، (10/ 63).
(7)
فتح القدير، لابن الهمام (2/ 104).
(8)
نقله عنه الحافظ ابن رجب، في "أهوال القبور"، ص (133).
وذكره ابن عبد البر احتمالاً في توجيه الحديث. (1)
قال قتادة: "أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً وتصغيراً وَنَقِيمَةً وحسرة
وندماً". اهـ (2)
وقال ابن عطية: "فيشبه أنَّ قصة بدر هي خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم، في أنْ رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم". اهـ (3)
وقال الألباني: "والتحقيق أنَّ الأدلة من الكتاب والسنة على أنَّ الموتى لا يسمعون، وهذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال، كما في حديث خفق النعال، أو أنَّ بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أنْ يُجعل ذلك أصلاً، فيقال إنَّ الموتى يسمعون؛ فإنها قضايا جزئية، لا تُشَكِّل قاعدة كلية يُعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أنْ تُستثنى منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر، أو الخاص من العام". اهـ (4)
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول على ما ذهبوا إليه بأدلة منها:
الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ"، ولم يقل:"لما يُقال"، فدل على أنَّ سماعهم هذا، هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس. (5)
الدليل الثاني: أنَّ الحديث رُوي بلفظ: "وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَسْمَعُونَ كَلَامِي"(6)، حيث قَيَّدَ النبي صلى الله عليه وسلم سماعهم له باللحظة التي ناجاهم فيها،
(1) الأجوبة عن المسائل المستغربة، لابن عبد البر، ص (190).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (3976).
(3)
المحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 270، 436).
(4)
مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (40)، باختصار.
(5)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (21/ 77).
(6)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 31). وإسناده حسن.
ومفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت، وفيه تنبيه على أنَّ الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي صلى الله عليه وسلم، وبإسماع الله تعالى إياهم، خرقاً للعادة، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. (1)
الدليل الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم على ما كان مستقراً في نفوسهم واعتقادهم أنَّ الموتى لا يسمعون، يدل على ذلك رواية:" .... فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟ وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا"(2)، وقد صرح عمر رضي الله عنه أنَّ الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة، وأنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب فيه، ولذلك أشكل عليهم الأمر، فصارحوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليزيل إشكالهم، فبين لهم حقيقة الأمر، وبهذا يتضح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة - وفي مقدمتهم عمر - على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم؛ لأنه لم يُنكِرْه عليهم، ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلق سماع الموتى، ولا أنه صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ولكنه بين لهم ما كان خافياً عليهم من شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقاً، وأنَّ ذلك أمر خاص مستثنى من الآية، معجزة له صلى الله عليه وسلم. (3)
واعتُرِضَ: بأنَّ سماع الموتى قد ثبت في غير هذه القصة، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ
نِعَالِهِمْ .... " (4)، فقد أثبت في هذا الحديث سماع الميت لقرع النعال، فدل على عدم اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر: روح المعاني، للآلوسي (21/ 77)، ومقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (29).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 287). وسنده صحيح على شرط مسلم.
(3)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (7/ 354)، ومقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (30 - 31).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1338)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث (2870).
وأجيب: بأنَّ ما ورد في هذا الحديث مخصوص بأول الدفن عند سؤال الملكين وهو غير دائم، فلا يفيد عموم السماع في كل الأحوال والأوقات. (1)
القول الثاني: أنَّ معنى الحديث إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ المشركين من قتلى بدر لما عاينوا العذاب بعد موتهم علموا أنَّ ما كان يدعوهم إليه هو الحق، وأنَّ هذا هو مراده صلى الله عليه وسلم، ولم يُرِدْ أنهم يسمعون كلامه وقت مخاطبته لهم.
وهذا مذهب عائشة رضي الله عنها، حيث ذهبت إلى تخطئة ابن عمر في روايته للحديث، وأنه لم يحفظه بلفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن هشام بن عروة، عن أبيه قال:"ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ" فَقَالَتْ: وَهَلَ (2)؛
إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ". قَالَتْ: وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ، وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ:"إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ"، إِنَّمَا قَالَ:"إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ"، ثُمَّ قَرَأَتْ:(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) و (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ". (3)
(1) انظر: فتح القدير، لابن الهمام (2/ 104)، وفيض القدير، للمناوي (2/ 398)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (8/ 21).
(2)
الوهل: هو الوهم والغلط، يقال: وهل إلى الشيء، إذا ذهب وهمه إليه، ويكون بمعنى سها وغلط، يقال منه: وهل في الشيء، وعن الشيء. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 232)، ومشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 297).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (3979)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (932).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 276)، بإسناد حسن، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ فَطُرِحُوا فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا فَذَهَبُوا يُحَرِّكُوهُ فَتَزَايَلَ فَأَقَرُّوهُ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنْ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ فَلَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ وَقَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: َ يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدْتُهُمْ حَقٌّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ عَلِمُوا".
القول الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك على جهة الموعظة للأحياء، لا لإفهام الموتى.
ذكره ابن الهمام وجهاً آخر في الجواب عن الحديث. (1)
القول الرابع: أنَّ وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى بدر ونداءه إياهم كان في الوقت الذي تُردُّ فيه الروح للبدن عند المساءلة في القبر.
وهذا رأي ابن عبد البر، حيث ذكره احتمالاً آخر في توجيه الحديث. (2)
أدلة القائلين بنفي سماع الأموات مطلقاً:
استدل القائلون بنفي سماع الأموات لكلام الأحياء بأدلة، منها:
الأول: أنَّ في سياق آيتي النمل والروم ما يدل على أنَّ الموتى لا يسمعون، وبيان ذلك: أنَّ الله تعالى قال في تمام الآيتين: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) حيث شبه سبحانه موتى الأحياء من الكفار بالصم، والصم لا يسمعون مطلقاً، بلا خلاف، وهذا يدل على أنَّ المشبه بهم، وهم الصم والموتى، لهم حكم واحد، وهو عدم السماع، وفي التفسير المأثور ما يدل على هذا، فعن قتادة قال - في تفسير الآية-:"هذا مثل ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء، كذلك لا يسمع الكافر، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) يقول: لو أنَّ أصم ولّى مدبراً ثم ناديته، لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع، ولا ينتفع بما سمع"(3). (4)
الدليل الثاني: أنَّ عائشة، وعمر، وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فهموا الآيات على ظاهرها من نفي سماع الموتى مطلقاً، وفهمهم حجة، وهو دليل على أنَّ الآيات صريحة في نفي سماع الأموات، ومما يؤيد صحة فهمهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّهم على ذلك، ولم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطأهم على فهمهم هذا. (5)
(1) فتح القدير، لابن الهمام (5/ 195).
(2)
الأجوبة عن المسائل المستغربة، لابن عبد البر، ص (192).
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (10/ 197).
(4)
انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (23).
(5)
انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، =
الدليل الثالث: قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)) [فاطر: 13 - 14]، وهذه الآية صريحة في نفي السماع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى، وهم موتى الأولياء والصالحين، فدل على أنَّ الموتى لا يسمعون مطلقاً. (1)
واعتُرِضَ: بأنَّ هذا التفسير مخالف لما عليه الأكثر من المفسرين؛ لأنهم قالوا: إنَّ المراد بالذين لا يسمعون في الآية: الأصنام؛ لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، وإذا كان المنفي في الآية سماع الجمادات، انتفى الاستدلال بها على نفي سماع الأموات.
وأجيب: بأنَّ الآية قد اختُلِفَ في تفسيرها على القولين المذكورين، والأصح أنَّ المراد بالذين لا يسمعون هم الموتى من الأولياء والصالحين، يدل على ذلك:
1 -
قوله تعالى في تمام الآية السابقة: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)[فاطر: 14] والأصنام لا تُبعث؛ لأنها جمادات غير مكلفة كما هو معلوم، بخلاف العابدين والمعبودين، فإنهم جميعاً محشورون، كما قال تعالى:(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)) [الفرقان: 17 - 18].
2 -
وقوله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) [نوح: 23]، ففي التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه: "أنَّ هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أنْ انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها
= ص (24)، والمعلم بفوائد مسلم، للمازري (1/ 324)، وفتح القدير، لابن الهمام (5/ 195).
(1)
انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (26).
بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعْبَدْ، حتى إذا هلك أولئك وَتَنَسَّخَ العلم عُبِدَتْ" (1)(2).
الدليل الرابع: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ"(3)، ووجه الدلالة من الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع سلام المُسَلِّمِين عليه، إذ لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه، وإذ الأمر كذلك فبالأولى أنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيرُه من الموتى أولى وأحرى. (4)
القول الرابع: أنَّ الأصل عدم سماع الأموات؛ لعموم وظاهر الآيات، لكن يستثنى من ذلك ما صح به الدليل ولا يُتجاوزُ به إلى غيره، ومما ورد به الدليل: مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم قتلى بدر، وسماع الميت خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا.
وهذا رأي: الشوكاني، والآلوسي (5)، وذكره أبو العباس القرطبي احتمالاً آخر في الجمع، واختاره أبو عبد الله القرطبي (6).
قال أبو العباس القرطبي: "لو سلمنا أنَّ الموتى في الآية على حقيقتهم؛ فلا تعارض بينها وبين أنَّ بعض الموتى يسمعون في وقتٍ ما، أو في حالٍ ما، فإنَّ تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المخصص، وقد وجد هنا بدليل هذا الحديث (7) ". اهـ (8)
وقال الشوكاني: "وظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يُخَصُّ منه إلا
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (4920).
(2)
انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (24 - 27).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 387)، والترمذي، في سننه، في كتاب الدعوات، حديث (3600)، والنسائي في سننه، في كتاب السهو، حديث (1282)، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي"(1/ 410)، حديث (1281).
(4)
انظر: مقدمة الألباني على كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات"، ص (36 - 37).
(5)
روح المعاني، للآلوسي (21/ 79).
(6)
انظر: التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي، ص (152).
(7)
أي: حديث القليب.
(8)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 586)، وانظر:(1/ 333) و (7/ 151).