الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا". (1)
(32)
ـ ( .. ): وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي". (2)
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث:
ظاهر الآيتين الكريمتين جواز تَمَنِّيَ الموت والدعاء به (3)؛ وأمَّا الأحاديث ففيها النهي عن ذلك، وهذا يُوهِمُ التعارض بين الآيات والأحاديث. (4)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث:
أجمع العلماء على كَرَاهَةِ تَمَنِّيَ الموت والدعاء به؛ عند وجود ضرر دنيوي، من مرضٍ أو فاقةٍ أو محنةٍ، أو نحو ذلك من مشاقِّ الدُّنيا؛ لما في ذلك من الجزع وعدم الرضا بالقضاء. (5)
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث (2682).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المرضى، حديث (5671)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث (2680).
(3)
الدعاء بالموت أخص من تمني الموت، فكل دعاء تمني من غير عكس. انظر: فتح الباري، لابن حجر
(10/ 134).
(4)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: المحلى، لابن حزم (3/ 396)، والمحرر الوجيز، لابن عطية
(3/ 283)، (4/ 10)، والتذكرة، للقرطبي، ص (10)، وتفسير القرطبي (9/ 176)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (6/ 172)، وطرح التثريب، للعراقي (3/ 254)، وتفسير الثعالبي (2/ 259).
(5)
حكى الإجماع الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي، نقله عنه ابنه الحافظ أبو زرعة =
وأمَّا إذا خاف ضرراً في دِيْنِه، أو فِتْنَةً فيه؛ فلا كَرَاهَة في تَمَنِّيَ الموت والحالة هذه، في مذهب جمهور العلماء. (1)
وذهب أبو العباس القرطبي إلى المنع مطلقاً، أخذاً بإطلاق حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2)
وحجة الجمهور:
1 -
أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أطلق - في حديث أبي هريرة - النهي عن تَمَنِّيَ الموت، وقيَّده في حديث أنس، بأن يكون تمنيه له لضُرٍّ نزل به؛ فيُحمل المُطلق على المُقيد. (3)
2 -
أَنَّ مُطلق حديث أنس يشمل الضُّرَّ الدنيوي والأخروي، لكن المراد إنما هو الضُّر الدنيوي فقط، بدليل رواية:"لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا"(4)،
= العراقي في "طرح التثريب"(3/ 253). وانظر: إكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 179)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (17/ 12).
(1)
انظر: المحلى، لابن حزم (3/ 396)، والتمهيد، لابن عبد البر (8/ 28)، وشرح السنة، للبغوي
(3/ 197)، وعارضة الأحوذي، لابن العربي (4/ 154)، وإكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 179)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 283) و (4/ 10)، وتفسير القرطبي (9/ 176)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (17/ 12)، واختيار الأولى، لابن رجب، ص (91)، وتفسير ابن كثير (2/ 510)
و (3/ 123)، وطرح التثريب، للعراقي (3/ 256)، وفتح الباري، لابن حجر (10/ 133)، وعمدة القاري، للعيني (22/ 306).
(2)
قال أبو العباس القرطبي - بعد أن أورد حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما: "وأما حديث أبي هريرة ففيه النهي عن تمني الموت مطلقاً لضُرٍّ ولغير ضُرٍّ، ألا ترى أنه علل النهي بانقطاع العمر، وهذان الحديثان يفيدان مقصودين مختلفين لا يُحمل أحدهما على الآخر". اهـ من المفهم (2/ 642).
(3)
انظر: طرح التثريب، للعراقي (3/ 256).
(4)
هذه الزيادة وردت في حديث أنس رضي الله عنه، من طريق حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة من رجال الصحيحين، وقد رُويت عن حميد من أربعة طرق:
الأول: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 44، 108)، عن عبيدة بن حميد، عن حميد، به.
الثاني: أخرجه النسائي في السنن الصغرى، في كتاب الجنائز، حديث (1820)، عن قتيبة بن =
حيث قَيَّدَ الضُّرَّ كونه في الدنيا. (1).
3 -
أَنَّه قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يَدُلُّ على جواز الدعاء بالموت عند خوف الفتن:
ففي الحديث القدسي أَنَّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: "يَا مُحَمَّدُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ". (2)(3).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ". (4)
فقوله صلى الله عليه وسلم: "وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ" يقتضي إباحة ذلك أنْ لو كان عن الدِّين. (5)
وأمَّا الآيات التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الأحاديث؛ فإنَّ للعلماء في دفع التعارض بينها وبين الأحاديث مسلكين:
الأول: مسلك الجمع بينها:
وهذا مسلك الجمهور من المفسرين والمحدثين (6)، حيث ذهبوا إلى
= سعيد، عن يزيد بن زريع، عن حميد بن أبي حميد، به. ورجال إسناده ثقات.
الثالث: أخرجه ابن حبان في صحيحه (7/ 232)، من طريق يحيى بن أيوب، عن حميد، به.
الرابع: أخرجه الطبراني في الدعاء (1/ 423)، من طريق الليث، عن حميد، به.
(1)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 133)، وطرح التثريب، للعراقي (3/ 256).
(2)
أخرجه من حديث ابن عباس: الإمام أحمد في مسنده (1/ 368)، والترمذي في سننه، في كتاب التفسير، حديث (3233)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (3/ 147).
(3)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 133)، وشرح السنة، للبغوي (3/ 197)، وإكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 179)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 283)، والتذكرة، للقرطبي، ص (11).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (157).
(5)
انظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 284)، وطرح التثريب، للعراقي (3/ 256)، وفتح الباري، لابن حجر (13/ 81).
(6)
نسبه للجمهور: القرطبي في تفسيره (9/ 176)، والشوكاني في فتح القدير (3/ 81).
توجيه الآيات ودفع التعارض بينها وبين الأحاديث، وقالوا في توجيه الآيات:
إنَّ يوسف عليه السلام إنما دعا ربَّه أنْ يتوفاه مسلماً عند حضور أجله، ولم يَسْأل الموت مُنَجَّزاً، وهذا الذي فَعَلَه يوسف عليه السلام لا محذور فيه، ولا يُعارض الأحاديث التي فيها النهي عن تَمَنِّيَ الموت والدعاء به؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ يسأل ربَّه أنْ يتوفاه على الإسلام. (1)
قالوا: ولو سلَّمنا بأَنَّ يوسف عليه السلام دعا بالموت منجزاً؛ فإنَّ هذا لا يُعارض الأحاديث؛ لأنَّ فِعْلَه هذا ليس من شرعنا، وإنما من شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا إنما يُؤخذ به إذا لم يَرِدْ في شرعنا ما يُخالفه. (2)
وأمَّا مريم عليها السلام فإنما تمنَّت الموت لوجهين:
أحدهما: أَنَّها خافت أنْ يُظنَّ بها السوء في دينها وتُعَيَّر، فيَفْتِنها ذلك. (3)
الثاني: لئلا يقع قومٌ بسببها في البُهتان والزُّور، والنِّسبة إلى الزِّنا، وذلك مُهلِكٌ لهم. (4)
(1) انظر: الناسخ والمنسوخ، للنحاس (2/ 457)، والمحلى، لابن حزم (3/ 396)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 283)، وزاد المسير، لابن الجوزي (4/ 255)، وتفسير القرطبي (9/ 176)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (5/ 343)، وتفسير ابن كثير (2/ 510)، وطرح التثريب، للعراقي (3/ 254)، وعمدة القاري، للعيني (21/ 226)، وتفسير الثعالبي (2/ 259)، وروح المعاني، للآلوسي (13/ 80)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (6/ 222).
(2)
انظر: تفسير القرطبي (9/ 176)، وتفسير ابن كثير (2/ 510)، وطرح التثريب، للعراقي (3/ 254)، وفتح الباري، لابن حجر (10/ 136).
(3)
ذكر هذا الوجه: البغوي في تفسيره (3/ 192)، وابن عطية في "المحرر الوجيز"(4/ 10)، والقرطبي في تفسيره (11/ 63)، وابن جزي في "التسهيل"(1/ 479)، وأبو حيان في "البحر المحيط"(6/ 172)، والحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 510)، (3/ 123)، والحافظ أبو زرعة العراقي في "طرح التثريب"
(3/ 257)، والشوكاني في "فتح القدير"(3/ 469)، والآلوسي في "روح المعاني"(15/ 532)، والقاسمي في "محاسن التأويل"(7/ 91)، والشنقيطي في "أضواء البيان"(4/ 241).
(4)
ذكر هذا الوجه: الجصاص في أحكام القرآن (3/ 284)، والقرطبي في تفسيره (11/ 63)، والشوكاني في فتح القدير (3/ 469)، والآلوسي في روح المعاني (15/ 532).