الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الأحاديث:
ظاهرُ حديثِ أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أُسريَ به، دنا منه الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، وهذا الدنو يُفْهَمُ منه أنه هو المراد من قوله تعالى:(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)).
وأمَّا حديثُ عائشةَ وابنِ مسعود رضي الله عنهما فظاهرهما يُوهِم مُعارضة حديث أنس؛ لأنهما نسبا الدنو والتدلي في الآية لجبريل عليه السلام، وهما وإنْ لم يُصَرِّحَا برَفْعِ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنَّ تفسيرهما هذا في حكم المرفوع؛ لأنَّ مثله لا يُقال بالرأي. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الأحاديث:
اختلف العلماء في تفسير الآية، وفي دفع التعارض بين الأحاديث على مذاهب:
= (11/ 508) قال: حدثنا ابن أبي الشوارب قال: ثنا عبد الواحد بن زياد قال: ثنا سليمان الشيباني قال: ثنا زر بن حبيش قال: قال عبد الله في هذه الآية: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل له ست مائة جناح» .
وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 346)، من طريق أبي الشوارب، به.
إلا أن ابن أبي الشوارب لم يُتابع في رفعه، فقد أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (4856) قال: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بن زياد، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ زِرًّا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ:(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ» .
وابن أبي الشوارب اسمه محمد بن عبد الملك، صدوق، روى له مسلم وغيره. انظر: تقريب التهذيب، لابن حجر (2/ 195).
(1)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: صحيح ابن حبان (1/ 256)، والفصول في اختصار سيرة الرسول، لابن كثير (1/ 244)، وفتح الباري، لابن حجر (7/ 257) و (13/ 493).
الأول: أنَّ الدنو والتدلي في الآية المراد به دنو جبريل عليه السلام، من محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا التفسير هو الثابت عن عائشة، وابن مسعود، رضي الله عنهما، وقد تقدم.
وروي عن الحسن البصري (1)، وقتادة (2)، والربيع بن أنس (3).
وهو مذهب الجمهور من المفسرين والمحدثين (4)، وممن قال به:
ابن جرير الطبري، وأبو الليث السمرقندي، والخطابي، والبيهقي، والواحدي، والسمعاني، والقاضي عياض، وابن عطية، والفخر الرازي، وأبو عبد الله القرطبي، والبيضاوي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، وابن أبي العز الحنفي، وابن جماعة، والشوكاني، والآلوسي، والقاسمي، والشنقيطي. (5)
وقد ذكر الإمام ابن القيم عدة أدلة تؤيد هذا المذهب:
«الأول: أنَّ الله تعالى قال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)) [النجم: 5]، وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير فقال:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)) [التكوير: 19 - 20].
(1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 250)، وابن جرير في تفسيره (11/ 507).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 250)، وابن جرير في تفسيره (11/ 507).
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 507)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 793).
(4)
حكاه مذهب الجمهور: البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 354)، والقاضي عياض في «الشفا»
(1/ 130)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 197).
(5)
انظر على الترتيب: تفسير الطبري (11/ 506)، وتفسير أبي الليث السمرقندي (3/ 289)، وأعلام الحديث، للخطابي (3/ 1916)، ودلائل النبوة، للبيهقي (2/ 385)، والوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي (4/ 193)، وتفسير السمعاني (5/ 285 - 286)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (1/ 130)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 197)، ومفاتيح الغيب، للرازي (28/ 247)، وتفسير القرطبي (17/ 60)، وتفسير البيضاوي (5/ 253)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (11/ 234)، ومدارج السالكين، لابن القيم (3/ 300)، وتفسير ابن كثير (3/ 5) و (4/ 266 - 267)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 276)، وإيضاح الدليل، لابن جماعة (1/ 144)، وفتح القدير، للشوكاني (5/ 150)، وروح المعاني، للآلوسي (27/ 69)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (9/ 63)، وأضواء البيان، للشنقيطي (3/ 401).
الثاني: أنه تعالى قال: (ذُو مِرَّةٍ) أي حسن الخلق، وهو الكريم المذكور في سورة التكوير.
الثالث: أنه قال: (فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)) وهو ناحية السماء العليا، وهذا استواء جبريل بالأفق الأعلى، وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.
الرابع: أنه قال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14))، والمرئي عند السدرة هو جبريل قطعاً، وبهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: «جبريل، لم أرَهُ في صورته التي خُلِقَ عليها إلا مرتين» . (1)
الخامس: أنَّ مُفَسِّرَ الضمير في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ) وفي قوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8))، وفي قوله:(فَاسْتَوَى)، وفي قوله:(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)) واحد، فلا يجوز أنْ يُخالف بين المُفَسِّر والمُفَسَّر من غير دليل.
السادس: أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين، الملكي والبشري، ونزَّه البشري عن الضلال والغواية، ونزَّه الملكي عن أنْ يكون شيطاناً قبيحاً ضعيفاً؛ بل هو قوي كريم حسن الخلق، وهذا نظير الوصف المذكور في سورة التكوير سواء.
السابع: أنَّه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين، وهاهنا أخبر أنه رآه بالأفق الأعلى، وهو واحدٌ وُصِفَ بصِفَتين، فهو مُبين، وهو أعلى؛ فإنَّ الشيء كلما علا: بَانَ وظَهَر.
الثامن: أنَّه قال: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)) والمرة الخلق الحسن المحكم، فأخبر عن حُسْنِ خُلُقِ الذي عَلَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساق الخبر كله عنه نسقاً واحداً.
التاسع: أنَّه لو كان خبراً عن الرب تعالى لكان القرآن قد دَلَّ على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مرتين، مرَّة بالأفق، ومرَّة عند السدرة، ومعلوم أنَّ الأمر لو كان كذلك لم يَقُلْ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وقد سأله هل رأيت ربك؟
(1) تقدم تخريجه في أول المسألة.
فقال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» (1)، فكيف يُخبر القرآن أنه رآه مرتين ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى أراه؟ وهذا أبلغ من قوله: لم أره؛ لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط، وهذا يَتضمن النفي وطرفاً من الإنكار على السائل، كما إذا قال لرجل: هل كان كيت وكيت؟ فيقول: كيف يكون ذلك؟
العاشر: أنَّه لم يَتَقدَّم للرب جل جلاله ذِكرٌ يعود الضمير عليه في قوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8))، والذي يعود الضمير عليه لا يَصْلُحُ له، وإنما هو لعبده.
الحادي عشر: أنَّه كيف يعود الضمير إلى ما لم يُذكر، ويُترك عُودُه إلى المذكور مع كونه أولى به.
الثاني عشر: أنَّه قد تقدم ذِكُرُ «صاحبكم» ، وأعاد عليه الضمائر التي تليق به، ثم ذكر بعده شديد القوى، ذا المرة، وأعاد عليه الضمائر التي تليق به، والخبر كله عن هذين المُفَسَّرين، وهما الرسول الملكي، والرسول البشري.
الثالث عشر: أنَّه سبحانه أخبر أنَّ هذا الذي دنا فتدلى كان بالأفق الأعلى، وهو أفق السماء، بل هو تحتها قد دنا من رسول رب العالمين، ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك كان من فوق العرش، لا إلى الأرض.
الرابع عشر: أنهم لم يُمارُوه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه، ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها، وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها، ولو أخبرهم الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات.
الخامس عشر: أنَّه سبحانه قرَّر صحة ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنَّ مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله:(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) [النجم: 18]، فلو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى، والمماراة على ذلك منهم، لكان تقرير تلك الرؤية أولى، والمقام إليها أحوج». (2)
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (178).
(2)
انظر: مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 300 - 302).
وقد اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن حديث أنس رضي الله عنه، والذي يُوهِمُ ظاهره أنَّ الذي دنا فتدلى في الآية هو الجبار رب العزة، وقد ذكروا أجوبة منها:
الأول: أنَّ قوله في حديث أنس: «وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى» ، زيادة شاذة؛ لم تُرْوَ عن أنس رضي الله عنه إلا من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر (1)، وهي مما تَفَرَّدَ به في روايته لحديث الإسراء. (2)
وهذا جواب: الخطابي (3)، وابن حزم (4)، والبيهقي (5)، وعبد الحق
(1) هو: شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي، وقيل: الليثي، أبو عبد الله المدني، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي في الشمائل، والنسائي، وابن ماجة. قال ابن معين، والنسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن عدي: إذا روى عنه ثقة فلا بأس برواياته. وقال الآجري، عن أبي داود: ثقة. وقال النسائي أيضاً: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. وقال ابن الجارود: ليس به بأس، وليس بالقوي، وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه.
انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (4/ 296).
(2)
ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 493 - 494) أنَّ مجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من الحفاظ - في حديث الإسراء - اثنا عشر أمراً:
الأول: أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات، وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم.
الثاني: كون المعراج قبل البعثة.
الثالث: كونه مناماً.
الرابع: مخالفته في محل سدرة المنتهى، وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه الا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة.
الخامس: مخالفته في النهرين، وهما النيل والفرات، وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة، وأنهما من تحت سدرة المنتهى.
السادس: شق الصدر عند الإسراء.
السابع: ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة.
الثامن: نسبة الدنو والتدلي إلى الله عز وجل، والمشهور في الحديث أنه جبريل.
التاسع: تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة.
العاشر: قوله: «فعلا به الجبار وهو مكانه» .
الحادي عشر: رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس فامتنع.
الثاني عشر: زيادة ذكر التور في الطست.
(3)
أعلام الحديث، للخطابي (4/ 2353).
(4)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 493).
(5)
دلائل النبوة، للبيهقي (2/ 385)، والأسماء والصفات (2/ 357).
الإشبيلي (1)، وابن جماعة (2)، وابن رجب (3).
قال الخطابي: «إنَّ الذي وقع في هذه الرواية - من نسبة التدلي للجبار عز وجل مُخَالِفٌ لعامة السلف، والعلماء، وأهل التفسير، من تقدم منهم ومن تأخر
…
، قال: وقد رُوي هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك فلم يُذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوي الظن أنها صادرة من جهة شريك». اهـ (4)
وقال ابن حزم: «لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديثين» . ثم ذكر حديث أنس فقال: «وفيه ألفاظٌ مُعْجَمة، والآفة من شريك، من ذلك قوله: «قبل أن يُوحى إليه» (5)، وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة، قال: وهذا لا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد أن أوحي إليه بنحو اثنتي عشرة سنة، ثم قوله:«إن الجبار دنا فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى» ، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن الذي دنا فتدلى جبريل». اهـ (6)
(1) الجمع بين الصحيحين (1/ 127 - 128).
(2)
إيضاح الدليل، لابن جماعة (1/ 145).
(3)
فتح الباري، لابن رجب (2/ 114).
(4)
أعلام الحديث، للخطابي (4/ 2352 - 2353).
(5)
تقدم في أول المسألة تخريج حديث شريك، وذكرته هناك مختصراً، وهذه اللفظة منه.
(6)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 439).
(7)
الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 357).
(8)
دلائل النبوة، للبيهقي (2/ 385).
وقال عبد الحق الإشبيلي - في الجمع بين الصحيحين -: «زاد فيه - يعني شريكاً - زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك، وشريكٌ ليس بالحافظ عند أهل الحديث» . اهـ (1)
وقال ابن جماعة (2): «وأما حديث شريك بن أبي نمر الطويل؛ فقد خَلَّطَ فيه، وزاد زيادات لم يروها غيره ممن هو أحفظ منه، وليس في رواية ثابت، ولا قتادة عن أنس لفظ الدنو، ولا التدلي، ولا المكان، ولا في رواية الزهري، عن أنس وأبي ذر، وذَكَرَ شريكٌ في حديثه ما يدل على أنه لم يحفظ الحديث على ما ينبغي؛ فإنه خلَّط في مقامات الأنبياء، وقال في آخر حديثه: «فاستيقظ وهو في المسجد الحرام» ، والمعراج إنما كان رؤية عين». اهـ (3)
وقد سبق إلى التنبيه على ما في رواية شريك من المخالفة مسلم في صحيحه فإنه قال - بعد أنْ ساق سند الحديث وبعض المتن -: «وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ، وَزَادَ وَنَقَصَ» . اهـ (4)
إلا أنَّ الحافظ أبا الفضل ابن طاهر (5) لم يرتضِ دعوى تَفَرُّدِ شريكٍ بهذه الزيادة، حيث قال: «تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أنَّ الآفة منه، شيء لم يُسبق إليه؛ فإنَّ شريكاً قَبِلَهُ أئمة الجرح والتعديل، ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: لا بأس به. وقال ابن عدي: مشهور من أهل المدينة، حدث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به؛ إلا أن يروي عنه ضعيف (6).
قال ابن طاهر: وحديثه هذا رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال. قال:
(1) الجمع بين الصحيحين (1/ 127 - 128)، باختصار.
(2)
هو: محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، الكناني، الحموي، الشافعي، بدر الدين، أبو عبد الله: من العلماء بالحديث وسائر علوم الدين، ولد في حماة، وولي الحكم والخطابة بالقدس، ثم القضاء بمصر، فقضاء الشام، ثم قضاء مصر إلى أن شاخ وعمي، له تصانيف، منها:«كشف المعاني في المتشابه من المثاني» و «تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم» ، وغيرها، توفي في مصر سنة (733هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (5/ 297).
(3)
إيضاح الدليل، لابن جماعة (1/ 145).
(4)
تقدم توثيقه عند تخريج حديث أنس في أول المسألة.
(5)
هو: محمد بن طاهر بن علي بن أحمد، أبو الفضل ابن أبي الحسين بن القيسراني، المقدسي، الأثري، الظاهري، الصوفي، كان ثقة، صدوقاً، حافظاً، عالماً بالصحيح والسقيم، حسن المعرفة بالرجال والمتون، كثير التصانيف، لازماً للأثر، بعيداً من الفضول والتعصب، كثير الحج والعمرة، مات ببغداد منصرفاً من الحج سنة (507 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (19/ 361).
(6)
انظر: الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي (4/ 5).
وعلى تقدير تسليم تفرده برواية «قبل أن يوحى إليه» ؛ فإنَّ ذلك لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يُسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو تُرِك حديث من وَهِمَ في تاريخ، لتُرِكَ حديثُ جماعة من أئمة المسلمين». اهـ (1)
وكذا الحافظ ابن حجر، فإنه يميل إلى تقوية شريك، ويدفع دعوى تفرده بهذه الزيادة؛ فإنه قال بعد أن أورد إنكار الأئمة المتقدمين:«وفي دعوى التفرد نظر؛ فقد وافقه كثير بن خنيس - بمعجمة ونون، مصغر - عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في «كتاب المغازي» من طريقه». اهـ (2)
(1) نقله عنه الحافظُ ابن حجر في الفتح (13/ 493).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (13/ 488). ورواية سعيد بن يحيى الأموي لم أقف عليها، وقد أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 509) قال: حدثنا خلاد بن أسلم قال: أخبرنا النضر، أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن كثير، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مضى جبريل حتى جاء الجنة، قال: فدخلت، فأعطيت الكوثر، ثم مضى حتى جاء السدرة المنتهى، فدنا ربك فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى» .
وأخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (2/ 530)، حديث (317)، قال: ثنا أبو عمار الحسين بن حريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو، قال: ثنا كثير بن حبيش، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا مضطجع في المسجد .... » ، ثم ذكر حديثاً طويلاً في قصة الإسراء، وفيه:«ثم عرج بي حتى جاء سدرة المنتهى، فدنا إلى ربه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ففرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة» .
وكثير: اختلف في اسم أبيه فقيل: خنيس، بالخاء والسين، وقيل: حبيش، بالحاء والشين، وقد ترجم له البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 209) وذكره باسم: كثير بن حبيش، ثم ذكر بعده كثير بن خنيس، وذكر ابن حبان في «الثقات» (7/ 349) - تبعاً للبخاري - ترجمتين: بالخاء المعجمة، ثم بالحاء المهملة والشين المعجمة، فقال - في الذي أوله معجمة -:«روى عن أنس» ، وفي الذي أوله مهملة:«روى عن عمرة» . وأما ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (7/ 150) فلم يضبط أباه، وقال:«سمعت أبى يقول: هما واحد» . ورجح ابن ماكولا أن أباه «حبيش» بالحاء المهملة، ثم الموحدة، ثم المعجمة، مع التصغير، وأما أقوال النقاد فيه: فقد ضعفه الأزدي، ووثقه ابن حبان، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: هو مديني مستقيم الحديث، لا بأس بحديثه. انظر: لسان الميزان، لابن حجر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4/ 481)، وتعجيل المنفعة، له (1/ 347).
وهناك متابعة أخرى لشريك، أخرجها ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (1/ 420 - 421)، قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون بن المغيرة، وحكام بن سلم، عن عنبسة، عن أبى هاشم الواسطي، عن ميمون بن سياه، عن أنس بن مالك قال:«لما كان حين نبئ النبي صلى الله عليه وسلم .... » ثم ذكر حديثاً طويلاً، وفيه:«ثم خرج إلى سدرة المنتهى، وهى سدرة نبق، أعظمها أمثال الجرار، وأصغرها أمثال البيض، فدنا ربك، فكان قاب قوسين أو أدنى، فجعل يتغشى السدرة من دنو ربها أمثال الدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ .... » .
وقد أورد هذه المتابعة الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 491 - 492) وسكت عنها.
وميمون بن سياه: روى له البخاري في صحيحه، والنسائي، وقد اختلف النقاد في توثيقه، فقال: الدوري، عن يحيى بن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال أبو داود: ليس بذاك. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف. ثم أعاد ذكره في الضعفاء فقال: ينفرد بالمناكير عن المشاهير، لا يحتج به إذا انفرد. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف. وقال حمزة، عن الدارقطني: يحتج به. انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (10/ 347).
قلت: الأقرب في حاله أنه صدوق يخطئ، كما وصفه الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/ 296).
وثمة متابعة أخرى رواها البيهقي في الدلائل (2/ 382 - 383)، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سختويه، قال: حدثنا أبو مسلم، ومحمد بن يحيى بن المنذر، قالا: حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أتيت بالبراق .... » ، ثم ذكر حديث الإسراء بطوله، وفيه:«ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي، تغيرت فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من حسنها، قال: فدنا فتدلى فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض علي في كل يوم خمسين صلاة .... » .
هكذا رواه بزيادة: «فدنا فتدلى فأوحى إلى عبده ما أوحى» ، وهذه الزيادة شاذة ومنكرة، لم يُتابع عليها حجاج بن منهال - إن كانت منه - وقد روى الحديث عن حماد بن سلمة: شيبانُ بن فروخ، والحسنُ بن موسى، ولم يذكرا هذه الزيادة، رواه عن شيبان بن فروخ: الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (162)، ورواه عن الحسن: الإمام أحمد في مسنده (3/ 148).
وقد أعل هذه الرواية البيهقي في الدلائل (2/ 385) فإنه قال - بعد روايته للحديث -: «ورواه مسلم في الصحيح، عن شيبان بن فروخ، عن حماد بن سلمة؛ إلا أنه لم يذكر قوله: «فدنا فتدلى» وإنما قال: فأوحى إلى عبده ما أوحى. فيحتمل أن تكون زيادة في الحديث غير محفوظة؛ =
قال: «والأولى التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها؛ إما بدفع تفرده، وإما بتأويله على وفاق الجماعة» . اهـ (1)
الجواب الثاني: أنَّ الحديث موقوف على أنس رضي الله عنه.
ذكر هذا الجواب: الخطابي (2)، والبيهقي (3)، وابن جماعة (4).
قال الخطابي مشيراً إلى رفع الحديث من أصله: «ثم إنَّ القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يَعْزُهَا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقلها عنه، ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي، إما من أنس، وإما من شريك؛ فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يُتابعه عليها سائر الرواة» . اهـ (5)
= فإن كانت محفوظة كما رواه حجاج بن منهال، وكما رواه شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك، فيحتمل أن يكون جبريل عليه السلام فعل ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم حين رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، كما فعله في المرة الأولى». اهـ
النتيجة: الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أنَّ هاتين المتابعتين لا يتقوى بهما حديث شريك؛ وذلك لاختلاف النقاد في توثيق كثير بن حبيش، وميمون بن سياه، ولما في روايتهما من المخالفة للجم الغفير من الرواة عن أنس، وسيأتي مزيد بيان لذلك في مبحث الترجيح، إن شاء الله تعالى.
(1)
فتح الباري، لابن حجر (13/ 493).
(2)
أعلام الحديث، للخطابي (4/ 2353).
(3)
الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 357).
(4)
إيضاح الدليل، لابن جماعة (1/ 145).
(5)
أعلام الحديث، للخطابي (4/ 2353).
(6)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) [النجم: 13] قَالَ: «رَأَى جِبْرِيلَ» . أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (175). ولم أقف عليه مرفوعاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
إيضاح الدليل، لابن جماعة (1/ 145)، وانظر: الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 357).
إلا أنَّ الحافظ ابن حجر لم يرتضِ دعوى وقف الحديث على أنس رضي الله عنه، حيث قال - في رده على الخطابي -:«وما نفاه - من أنَّ أنساً لم يُسند هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له؛ فأدنى أمره فيها أنْ يكون مرسل صحابي، فإما أنْ يكون تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يُقال بالرأي، فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لِمَا ذَكَرَهُ تأثير لم يُحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلاً، وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود» . اهـ (1)
الجواب الثالث: أنَّ الدنو والتدلي المذكورين في الآية هما غير الدنو والتدلي المذكورين في حديث أنس رضي الله عنه، فإنَّ الذي في الآية هو دنو جبريل عليه السلام وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، رضي الله عنهما، وأما الدنو والتدلي اللذين في حديث أنس فذلك صريح في أنَّه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تَعَرّضَ في سورة النجم لذلك؛ بل فيها أنه رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. (2)
ذكر هذا الجواب: ابن القيم (3)، والحافظ ابن كثير (4)، وابن أبي العز الحنفي (5)، والقاسمي (6).
والظاهر من كلام هؤلاء الأئمة قبول رواية شريك، إلا أنَّ الحافظ ابن كثير يميل إلى تفرد شريك بن عبد الله بهذه الرواية، حيث ذكر أنَّ شريكاً قد اضطرب في رواية هذا الحديث، وساء حفظه ولم يضبطه. (7)
وثمة أجوبة أخرى عن حديث شريك؛ غير أنَّ هذه الأجوبة صادرة عن
(1) فتح الباري، لابن حجر (13/ 493).
(2)
انظر: زاد المعاد، لابن القيم (3/ 38).
(3)
زاد المعاد (3/ 38)، ومدارج السالكين (3/ 300 - 301).
(4)
تفسير ابن كثير (4/ 67)، والبداية والنهاية (3/ 110).
(5)
شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 276).
(6)
محاسن التأويل، للقاسمي (9/ 67).
(7)
انظر: تفسير ابن كثير (3/ 4) و (4/ 267)، والبداية والنهاية (3/ 110).
استشكال ظاهر الحديث، والذي فيه نسبة الدنو والتدلي إلى الله تعالى، ومن هذه الأجوبة:
1 -
أنَّ الدنو والتدلي في الحديث المراد بهما قرب الكرامة، لا قرب المكان.
ذكر هذا الجواب: ابن فورك، والقاضي عياض، والعيني. (1)
2 -
أنَّ ما جاء في حديث شريك هي رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه، ولا إشكال فيما يراه صلى الله عليه وسلم في منامه.
ذكر هذا الجواب: الخطابي (3)، والسهيلي. (4)
قال الخطابي: «ليس في هذا الكتاب - يعني صحيح البخاري - حديثٌ أشنعَ ظاهراً، ولا أشنع مذاقاً من هذا الفصل؛ فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل، فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعاً عن غيره، ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قصاراه: إما رَدُّ الحديث من أصله، أو الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما، وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الإشكال؛ فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا؛ لقوله في
(1) انظر على الترتيب: مشكل الحديث، لابن فورك (1/ 156)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (1/ 156)، وعمدة القاري، للعيني (25/ 172).
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (1/ 131)، وانظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 528).
(3)
أعلام الحديث، للخطابي (4/ 2352).
(4)
الروض الأنف، للسهيلي (2/ 202).
أوله: «وهو نائم» وفي آخره: «استيقظ» ، وبعض الرؤيا مثلٌ يُضرب ليُتأول على الوجه الذي يجب أنْ يُصرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك، بل يأتي كالمشاهدة». اهـ (1)
المذهب الثاني: أنَّ الدنو والتدلي في الآية المراد بهما دنو الله تعالى من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، ما يدل على هذا المعنى:
فعن أبي سلمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما في قوله تعالى:(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)) [النجم: 13 - 14]- قال: «دنا ربه منه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى. قال: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم» . (2)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:«لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم اقترب منه ربه، فكان قاب قوسين أو أدنى» . (3)
وروى ابن خزيمة، عن عباد بن منصور قال:«سألت الحسن، فقلت: ثم دنا فتدلى، من ذا يا أبا سعيد؟ قال: ربي» . (4)
ونسب ابن الجوزي هذا القول لمقاتل. (5)
وقد مال إلى هذا التفسير الإمام ابن خزيمة؛ فإنه قال: «فأما قوله جل وعلا: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)) ففي خبر شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك، بيان ووضوح أنَّ معنى قوله: (دنا فتدلى) إنما دنا الجبار رب العزة، لا جبريل» . اهـ (6)
ثم أورد حديث أنس من طريق شريك بن عبد الله، وأتبعه بتفسير الحسن
(1) أعلام الحديث، للخطابي (4/ 2352).
(2)
سيأتي تخريجه والكلام عليه في مبحث الترجيح.
(3)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 158)، وعزاه لابن المنذر، وابن مردويه.
(4)
كتاب التوحيد، لابن خزيمة (2/ 529)، حديث (316).
(5)
زاد المسير، لابن الجوزي (7/ 275).
(6)
كتاب التوحيد (2/ 521).
البصري للآية، ثم قال:«وفي خبر كثير بن حبيش، عن أنس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل هذه اللفظة التي في خبر شريك بن عبد الله» . اهـ (1)
ثم روى بإسناده حديث كثير بن حبيش، عن أنس رضي الله عنه، ولفظه:«فدنا إلى ربه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى» . (2)
وكما ترى فإنَّ لفظ كثير بن حبيش مُغاير للفظ شريك؛ إذ في لفظ «شريك» نسبة الدنو إلى الله تعالى، وأما لفظ «كثير بن حبيش» ففيه: أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي دنا إلى ربه عز وجل.
لكن روى الحديث ابنُ جرير في تفسيره، عن كثير بن حبيش، بلفظ موافق لرواية شريك، ولفظ الحديث كاملاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عُرِجَ بي مضى جبريل حتى جاء الجنة، قال: فدخلتُ فأُعطيت الكوثر، ثم مضى حتى جاء السدرة المنتهى، فدنا ربُّك فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى» . (3)
وممن ذهب إلى نسبة الدنو إلى الله تعالى: القاضي أبو يعلى، في كتابه «إبطال التأويلات لأخبار الصفات»؛ فإنه أورد الآية ثم قال:«فعُلِمَ أنَّ المتدلي هو الذي يُوحي، وهو الله تعالى» . اهـ (4)
المذهب الثالث: أنَّ الدنو والتدلي في الآية المراد بهما دنو جبريل عليه السلام من الله تعالى.
رُوي هذا القول عن مجاهد (5)، وبه قال ابن حبان (6).
المذهب الرابع: أنَّ المراد بالآية دنو الله تعالى من جبريل عليه السلام.
رُوي هذا القول عن مجاهد (7).
(1) كتاب التوحيد (2/ 529).
(2)
كتاب التوحيد، لابن خزيمة (2/ 530)، وقد تقدم الكلام عليه.
(3)
تفسير ابن جرير الطبري (11/ 509)، وقد تقدم الكلام عليه.
(4)
إبطال التأويلات لأخبار الصفات (1/ 125).
(5)
انظر: تفسير البغوي (4/ 246)، وزاد المسير، لابن الجوزي (7/ 275).
(6)
صحيح ابن حبان (1/ 256، 259).
(7)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 509).