الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نذرٌ يقبل القضاء عن الميت، ونذر لا يقبله، لم يكن بُدُّ من الاستفصال". اهـ كلام ابن القيم.
الثاني: مذهب إعمال الآية، ورد جميع الأحاديث.
وهذا مذهب المعتزلة، حيث ذهبوا إلى أَنَّه لا يصل إلى الميت شيء ألبتة، لا دعاء، ولا صدقة، ولا صوم، ولا حج، ولا غيره، أخذاً بظاهر الآية الكريمة.
وأجابوا عن الأحاديث: بأَنَّها أخبار آحاد، وهي عندهم مردودة إذا عارضت المتواتر القطعي، ومُعارض هذه الأحاديث عندهم: هو قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)). (1)
المبحث الخامس: الترجيح:
الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو وصول ثواب الصدقة والصوم والحج إلى الميت مطلقاً، سواء كان ذلك من ولد الميت أو من غيره.
وأما الآية فأحسن الأجوبة عنها: "أَنَّها إنما دلَّت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره؛ لأَنَّه لم يقل: "وأنْ لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى"، وإنما قال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، وبين الأمرين فرق ظاهر؛ لأَنَّ سعي الغير ملك لساعيه، إنْ شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإنْ شاء أبقاه لنفسه". (2)
وما قيل من أَنَّ ثواب هذه الثلاث لا يصل إلا من الولد إلى والده؛ فغير مُسَلَّمٍ، وذلك لأمور:
"الأول: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعَلِّل جواز حجِ الولد عن والده بكونه ولده، ولا أومَأَ إلى ذلك؛ بل في الحديث ما يُبطل التعليل به؛ لأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شبهه
(1) انظر: فتح القدير، لابن الهمام (3/ 142)، والروح، لابن القيم، ص (311)، ونيل الأوطار، للشوكاني (4/ 142).
(2)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (7/ 709) و (10/ 278).
بقضاء الدَّين الجائز، من الولد وغيره؛ فجعل ذلك هو العلة، وهو كونه قضاء شيء واجب عن الميت.
الثاني: أَنَّه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز الحج عن الغير، حتى من غير الولد: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَال: َ لَا. قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ". (1)
الثالث: أَنَّه قد ثبت في حديث عائشة: "أَنَّ من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، والولي هو الوارث، سواء كان ولداً، أم غير ولد؛ وإذا جاز ذلك في الصيام، مع كونه عبادة محضة، فجوازه بالحج المشوب بالمال أولى وأحرى". (2)
الرابع: أَنَّ كون السؤال جاء مقيداً في صدقةِ أو صومِ أو حجِ الولدِ عن والده؛ فإنَّ ذلك لا يعني تقييد الحكم به؛ لأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيده بالولد، ولأَنَّا لا نَعْلم لو أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سأله أخٌ عن أخيه، هل يجيبه بالجواز، أم لا؟
وأما حديث ابن عباس، في الصوم، وما ادعي عليه من الاضطراب؛ فالذي يظهر لي أَنَّ أحسن ما يُجمع به بين رواياته: أَنَّ السؤال وقع عن صوم نذر مطلق؛ وذلك لأَنَّ جميع الروايات - التي جاءت من طريق سعيد بن جبير - قد نصَّت على ذكر الصوم، ولما جاء - في طريق عبيد الله بن عبد الله - التنصيص على النذر دون تسميته، وجب تفسيره برواية سعيد بن جبير، التي نصت على أَنَّه في الصيام، ويؤكد هذا أَنَّ حديث بريدة وقع فيه السؤال عن صوم شهر، وجاء في حديث عائشة التنصيص على أَنَّ من مات وعليه صيام
(1) أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب المناسك، حديث (1811)، وابن ماجة في سننه، في كتاب المناسك، حديث (2903)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 336)، والحديث صححه البيهقي، وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (1/ 345)، والحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 223).
(2)
انظر هذه الأوجه في: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/ 313).
صام عنه وليه، ولما أفتى ابن عباس بأَنَّ من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليُّه، دلَّ على أَنَّ السؤال الذي وقع في حديثه إنما كان عن صوم نذر؛ إذ يبعد أنْ يُفتي راوي الحديث بخلاف ما رواه.
وأما مذهب عائشة: فالتحقيق أنها فَهِمَتْ من الحديث الذي روته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه مخصوصٌ بصوم النذر؛ بدليل أنها كانت تُفتي بالإطعام عمن مات وعليه صوم رمضان، والروايات وإنْ لم تَنُص على أنها كانت تُفتي بصوم النذر، إلا أنَّ حملها على هذا المعنى هو المُتعين، جمعاً بين ما رَوَته ورَأَته، إذ يبعد أنْ تُخالف ما رَوَته لمجرد رأيٍ رَأَته، والله تعالى أعلم. (1)
****
(1) جميع الروايات التي ذكرتها هنا - في مبحث الترجيح - تقدم تخريجها في أثناء المسألة.