الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث:
ظاهر الآياتُ الكريمةِ نفي الظلمِ عن اللهِ تعالى، وأنَّه سبحانه لا يُعذِّبُ أحداً من خلقه إلا بعد الإعذار إليه، وقيام الحجة عليه، وهذا الذي دلَّت عليه الآيات هو محل إجماع بين العلماء، من تنزيهه سبحانه عن الظلم، أو أَنْ يُعَذِّبَ أحداً بغير ذَنْبٍ ولا حُجَّة.
وأما الحديث الوارد في المسألة فقد جاء فيه ما يُوهِمُ مُعَارَضَة هذا الأصل الذي دلَّت عليه الآيات، وهو قوله:"وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ"، وهذا اللفظ يُوهِمُ أنَّ الله تعالى يُعذِّب في النار من لا ذنب له، وهو خِلاف الآيات. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث:
للعلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث مسلكان:
الأول: مسلك تضعيف الحديث بهذا اللفظ، والجزم بوقوع الغلط فيه:
حيث ذهب جماعةٌ من الأئمة إلى أنَّ الحديث لا يصح بهذا اللفظ، وأنَّه مما وقع فيه الغلط من بعض الرواة، حيث انقلب عليه الحديث، فجعل الإنشاء للنار، والصواب أنَّ الإنشاء للجنة، بدليل ما أخرجاه في الصحيحين - واللفظ للبخاري - من حديث
عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتِ
صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به.
(1)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/ 1104)، وتفسير ابن كثير
(13/ 31)، وإيثار الحق على الخلق، لابن الوزير اليماني (1/ 217 - 221)، وفتح الباري، لابن حجر (13/ 446).
الجَنَّةُ والنَّارُ" فذكر الحديث إلى أَنْ قال: "فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ. فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى (1) بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ عز وجل مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا". (2)
نقل الحافظ ابن حجر هذا المذهب: عن أبي الحسن القابسي (3)، وشيخه البلقيني (4). (5)
وممن جزم بوقوع الغلط في الحديث: شيخ الإسلام ابن تيمية (6)، وابن القيم (7)، والحافظ ابن كثير (8)، وابن الوزير اليماني (9). (10)
قال أبو الحسن القابسي: "المعروف في هذا الموضع أنَّ الله ينشئ للجنة خلقاً؛ وأما النار فيضع فيها قدمه، ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار إلا هذا". اهـ (11)
وقال ابن القيم: "وأما اللفظ الذي وقع في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة: "وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ"، فغلط من بعض الرواة، انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونص القرآن يَرُدُّهُ، فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه، وأنه لا يُعذِّب إلا من قامت عليه حجته، وكذَّب رسله، قال تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ
(1) يُزْوَى: أي يُجمع ويُضم بعضها إلى بعض. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 313).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (4850)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث (2847).
(3)
هو علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني، أبو الحسن ابن القابسي: عالم المالكية بإفريقية في عصره. كان حافظاً للحديث وعلله ورجاله، فقيهاً أصولياً من أهل القيروان. رحل إلى المشرق
(سنة 352 هـ) وعاد إلى القيروان سنة (357 هـ) وتولى الفتيا وتوفي بها سنة (403هـ)، له تصانيف، منها (الممهد) وهو كبير جداً، في الفقه وأحكام الديانات، و (ملخص الموطأ)، وغيرهما. انظر: الأعلام، للزركلي (4/ 326).
(4)
هو: عمر بن رسلان بن نصير بن صالح الكناني، العسقلاني الأصل، ثم البلقيني، المصري، الشافعي، أبو حفص، سراج الدين: مجتهد، حافظ للحديث، ومن العلماء المبرزين. ولد في بلقينة (من غربية مصر) وتعلم بالقاهرة. وولي قضاء الشام، من كتبه "التدريب" في الفقه الشافعي، و "تصحيح المنهاج"، وغيرهما، (ت: 805 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (5/ 46).
(5)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (13/ 446).
(6)
مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، ص (89).
(7)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (12/ 322)، وحادي الأرواح (1/ 258، 278)، وأحكام أهل الذمة (2/ 1104 - 1108)، وزاد المعاد (1/ 226)، وطريق الهجرتين، ص (577).
(8)
تفسير ابن كثير (3/ 31).
(9)
هو: محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي، أبو عبد الله، عز الدين، من آل الوزير، مجتهد باحث، من أعيان اليمن، ولد في هجرة الظهران (من شطب: أحد جبال اليمن) وتعلم بصنعاء وصعدة ومكة، وأقبل في أواخر أيامه على العبادة. قال الشوكاني:"تمشيخ وتوحش في الفلوات وانقطع عن الناس"، ومات بصنعاء، من مؤلفاته:"إيثار الحق على الخلق"، و "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم"، ومختصره "الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم"، وغيرها. (ت: 840 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (5/ 300).
(10)
إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير اليماني (1/ 217 - 221).
(11)
فتح الباري، لابن حجر (13/ 446).
خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [الملك: 8]، ولا يظلم الله أحداً من خلقه". اهـ (1)
وقال الحافظ ابن كثير: "طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري
…
"، ثم ذكر الحديث وقال: "فهذا إنما جاء في الجنة؛ لأنها دار فضل، وأما النار فإنها دار عدل، لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه، وقيام الحجة عليه، وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا: لعله انقلب على الراوي
…
". اهـ (2)
الثاني: مسلك قبول الحديث، والجمع بينه وبين الآيات:
وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في الجمع على مذهبين:
الأول: مذهب قبول الرواية مع توجيهها وصرفها عن ظاهرها:
وهذا رأي الحافظ ابن حجر، حيث قال:"ويمكن التزام أَنْ يكونوا من ذوي الأرواح، ولكن لا يُعَذَّبون؛ كما في الخزنة، ويحتمل أَنْ يُراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار، وعبر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء، فهو إنشاء الإدخال، لا الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق؛ بدليل قوله: "فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ"، وأعادها ثلاث مرات ثم قال: "حتى يضع فيها قدمه فحينئذ تمتلئ"، فالذي يملؤها حتى تقول حسبي هو القَدَم، كما هو صريح الخبر
…
". اهـ (3)
الثاني: مذهب قبول الرواية مطلقاً:
وهذا رأي المُهَلَّب (4)، حيث يرى أنَّ هذه الرواية حجة لأهل السنة في قولهم: إنَّ لله أَنْ يُعَذِّبَ من لم يُكَلِّفْه لعبادته في الدنيا؛ لأن كل شيء ملكه، فلو عذبهم لكان غير ظالم لهم. (5)
وتُعُقِّبَ: بأنَّ أهل السنة إنما تمسكوا في ذلك بقوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) [الأنبياء: 23]، وبقوله:(وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم: 27]، وغير ذلك، وهو عندهم من جهة الجواز، وأما الوقوع
(1) حادي الأرواح، لابن القيم (1/ 278).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 31).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (13/ 446).
(4)
هو المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الأسدي الأندلسي المريي، مصنف شرح صحيح البخاري، وكان أحد الأئمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء، ولي قضاء المرية، توفي في شوال سنة خمس وثلاثين وأربع مئة. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 579).
(5)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 446).
ففيه نظر. (1)
وممن ذهب إلى قبول الرواية مطلقاً: القاضي عياض، والكرماني.
قال القاضي عياض في تعليقه على الرواية: "قال بعض المتعقبين: هذا وهم، والمعروف في الإنشاء إنما هو للجنة. قال القاضي: لا يُنكر هذا، وأحد التأويلات التي قَدَّمْنَا (2)
في القَدَم - أنهم قوم تَقَدَّمَ في علم الله أنه يخلقهم لها - مطابق للإنشاء، وموافق لمعناه
…
، ولا فرق بين الإنشاء للجنة أو النار، لكن ذِكْرُ القَدَمِ بعد ذِكْرِ الإنشاء هنا يُرجِّح أَنْ يكون تأويل القَدَمِ بخلافه، بمعنى القهر والسطوة، أو قدم جبار وكافر من أهلها كانت النار تنتظر إدخاله إياها بإعلام الله لها، أو الملائكة الموكلين بما أمرهم
…
". اهـ (3)
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر (13/ 446).
(2)
قال القاضي عياض في مشارق الأنوار (1/ 137) عند شرحه للحديث: "قوله: حتى يضع الجبار فيها قدمه. قيل: هو أحد الجبابرة الذين خلقهم الله لها فكانت تنتظره، وقيل: الجبار هنا الله تعالى، وقدمه قوم قدمهم الله تعالى لها، أو تقدم في سابق علمه أنه سيخلقهم لها، وهذا تأويل الحسن البصري، كما جاء في كتاب التوحيد من البخاري: "وإن الله ينشىء للنار من يشاء فيلقون فيها" وذكر أيضاً في الجنة وقال: "فينشئ لها خلقاً"، وقيل: معناه يقهرها بقدرته حتى تسكن، يقال: وطئنا بني فلان إذا قهرناهم وأذللناهم، وعند أبي ذر في تفسير سورة "ق" حتى يضع رجله، ومثله في كتاب مسلم في حديث عبدالرزاق. وإذا أضفنا ذلك إلى أحد الجبابرة كان على وجهه؛ وإلا كان بمعنى الجماعة التي خلقهم لها، والرجل الجماعة من الجراد، أو يتأول فيه ما يتأول في القدم كما تقدم". اهـ
قلت: ما ذهب إليه القاضي رحمه الله من تأويل صفتي القدم والرجل لله تعالى هو مذهب أهل التأويل، والحق وجوب حملهما على الحقيقة من غير تأويل ولا تعطيل ولا تكييف، كما هو مذهب أهل السنة.
قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - في شرح العقيدة الواسطية، ص (414):"في هذا الحديث من الصفات: أن لله تعالى رجلاً وقدماً حقيقية، لا تماثل أرجل المخلوقين .... ، وخالف الأشاعرة وأهل التحريف في ذلك فقالوا: (يضع عليها رجله) يعني: طائفة من عباده مستحقين للدخول .... ، وهذا تحريف باطل؛ لأن قوله: "عليها" يمنع ذلك، وأيضاً لا يمكن أن يضيف الله عز وجل أهل النار إلى نفسه؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تكريم وتشريف
…
". اهـ
(3)
مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 321 - 322).