الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ساق الحافظ ابن حجر عدة آثار تدل على أنَّ الشمس إذا طلعت من مغربها أُغلق باب التوبة ولم يفتح بعد، ثم قال:«فهذه آثار يشد بعضها بعضاً، متفقة على أنَّ الشمس إذا طلعت من المغرب أُغلق باب التوبة ولم يفتح بعد، وأنَّ ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة» . اهـ (1)
المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث:
فقد ذهب أبو العباس القرطبي إلى أنَّ ذكر الدجال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهمٌ من بعض الرواة، وأنَّ التكليف لا يرتفع إلا بطلوع الشمس من مغربها، كما دلت عليه بقية الأحاديث. (2)
المبحث الخامس: الترجيح:
الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو مسلك قبول الحديث، مع توجيهه، ودفع التعارض بينه وبين بقية الأحاديث التي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، فيكون معنى حديث أبي هريرة: أنَّ عدم قبول التوبة مترتب على مجموع الثلاث - الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها - فإذا اجتمعت الثلاث انقطعت التوبة، ويكون طلوع الشمس هو آخرها، وهو الذي يتحقق به عدم القبول.
ويمكن تلخيص المسألة وحصرها في خمسة أمور:
1 -
أنَّ المراد بـ «البعض» في الآية هو طلوع الشمس من مغربها فقط، دون غيرها.
2 -
أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها.
3 -
أنَّ طلوع الشمس من مغربها هو آخر الآيات الثلاث المذكورة في حديث أبي هريرة.
(1) فتح الباري، لابن حجر (11/ 363).
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (7/ 243).
4 -
أنَّ زمن عيسى عليه السلام يعقب الدجال.
5 -
أنَّ زمن عيسى عليه السلام فيه خير كثير، دنيوي وأخروي، والتوبة والإيمان مقبولان فيه.
وسأذكر من الأدلة ما يؤيد كل أمر، مع ذكر الإيرادات والاعتراضات، والجواب عنها.
أولاً: الأدلة على أنَّ المراد بـ «البعض» في الآية هو طلوع الشمس من مغربها فقط، دون غيرها:
بعد النظر في الأحاديث الواردة في تفسير الآية وجدتُ أنها متفقة على تفسير «البعض» بطلوع الشمس من مغربها، ولم يأتِ ما يُخالف ذلك إلا ما يظهر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن عند التأمل فإنه لا يظهر بينه وبين بقية الأحاديث تعارض، لإمكان حمله على بقية الأحاديث التي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، وإنَّ في اتفاق الأحاديث على تفسير «البعض» بالطلوع فقط، لدلالة واضحة على أنه هو المراد.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد بـ «بعض آيات الله» طلوع الشمس من مغربها». اهـ (1)
وقال الآلوسي: «رُويَ هذا التعيين عنه صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر صحيح» . اهـ (2)
ولنورد بعضاً من هذه الأخبار الصحيحة:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا؛ فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» . (3)
(1) تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص (433).
(2)
روح المعاني، للآلوسي (8/ 424).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (4635)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (157).
2 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ في قول الله عز وجل:(أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)[الأنعام: 158] قَالَ: «طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» . (1)
3 -
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 31)، حديث (11284) و (3/ 98)، حديث (11957)، والترمذي في سننه، في كتاب التفسير، حديث (3071)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 505)، وابن جرير في تفسيره (5/ 406)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1427)، جميعهم من طريق وكيع بن الجراح، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، به. مرفوعاً.
وأخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 406) من طريق يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، به.
قال الترمذي بعد ذكره للحديث: «هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه» .
قلت: الحديث فيه ضعف من جهة إسناده؛ لأن فيه:
«محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى» صدوق سيء الحفظ جداً. التقريب (2/ 193 - 194).
و «عطية بن سعد العوفي» صدوق يخطيء كثيراً. التقريب (2/ 28).
وأما روايته موقوفاً؛ فقد أخرجها ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 506)، عن وكيع، به.
لكن أخرجه - من طريق ابن أبي شيبة - عبد بن حُميد في المنتخب من مسنده (1/ 283) مرفوعاً. ولم يتضح لي سبب وقفه في رواية ابن أبي شيبة، وإن كنت أميل إلى أن ذلك سقط في السند؛ لاتفاق الطرق على رفعه، ولرواية عبد بن حميد عن ابن أبي شيبة مرفوعاً.
والحديث وإن كان في إسناده ضعف؛ إلا أنه يشهد له ما قبله، وما بعده من الأحاديث.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (159).
4 -
وعن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ قِبَلِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ بَابًا مَفْتُوحًا عَرْضُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الْبَابُ مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ؛ فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ نَحْوِهِ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» . (1)
5 -
ومما يؤكد أنَّ المراد بـ «البعض» هو طلوع الشمس فقط، اتفاق الصحابة على تفسير الآية بذلك، رُويَ هذا التفسير عن: ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وصفوان بن عسال (2)، ولا يعرف لهم مخالف؛ إلا ما رُوي عن ابن مسعود - في إحدى الروايات عنه - بأنه فسرها بإحدى ثلاث: الطلوع، أو الدابة، أو يأجوج ومأجوج، وقد تقدم أنَّ ذلك لا يصح عنه. (3)
فهذه الأحاديث مع اتفاق الصحابة رضي الله عنهم تؤكد القول بأن المراد بالبعض هو طلوع الشمس من مغربها دون غيرها، ولو كانت الثلاث المذكورة في حديث أبي هريرة هي المرادة بتفسير الآية، أو بعض المراد لذُكِرَت في بقية الأحاديث، وفي هذا دلالة واضحة على أنَّ أحد الثلاث غير مستبد بانقطاع التوبة بوجوده، بل لا بد من اجتماعها معاً، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: هذا التأويل فيه إهمال لبقية الثلاث المذكورة في الحديث؛ لأنكم قصرتم تفسير الآية على واحدة من هذه الثلاث، ولم تعملوا البقية،
(1) أخرجه بهذ اللفظ: ابن ماجة في سننه، في كتاب الفتن، حديث (4070). وحسنه الألباني في «صحيح ابن ماجة» (3/ 332)، حديث (4143).
وروي بلفظ آخر قريب منه، ونصه:«إنَّ اللَّهَ عز وجل جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَسِيرَةُ عَرْضِهِ سَبْعُونَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)» .
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 241) حديث (18125)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 344)، والترمذي في سننه، في كتاب الدعوات، حديث (3536)، وقال:«حديث حسن صحيح» . وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 45)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، حديث (3137).
(2)
انظر: تفسير ابن جرير (5/ 408 - 411).
(3)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
والحديث صريح بأن المراد بالبعض هو الثلاث، لا واحدة منها.
والجواب على هذا الإيراد سيأتي تبعاً عند ذكر فائدة مجيء الثلاث في الحديث، وسيأتي أنَّ قصر تفسير الآية على واحدة من الثلاث لا يعني إهمال البقية، وإنما ذكرت لفائدة أخرى كما سيأتي تقريره.
ثانياً: الأدلة على أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . (1)
2 -
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . (2)
3 -
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . (3)
فهذه الأحاديث متفقة على أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، والقول بأن زمن الدجال لا ينفع فيه الإيمان ولا التوبة فيه مخالفة صريحة لهذه الأحاديث؛ لأن وقته قبل طلوع الشمس من مغربها.
ثالثاً: الأدلة على أنَّ طلوع الشمس من مغربها هو آخر الآيات الثلاث المذكورة في حديث أبي هريرة.
هناك عدة أدلة تؤيد القول بأن طلوع الشمس من مغربها هو آخر الثلاث المذكورة في الحديث، ومن هذه الأدلة:
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث (2703).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب التوبة، حديث (2759).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 99)، حديث (16952)، وأبو داود في سننه، في كتاب التوبة، حديث (2479). وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 90) حديث (2479).
1 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . (1) ومفهوم هذا الحديث أنَّ من تاب بعد أن تطلع الشمس من مغربها لم تقبل منه توبته، والأصل بقاء الحديث على إطلاقه، ولا يصح تقييد ذلك بوقت الطلوع، وإذا كانت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها مردودة امتنع أن يكون وقت الدجال بعد طلوعها؛ لأن عيسى عليه السلام بعد الدجال، وزمنه فيه خير كثير، والإيمان والتوبة مقبولان فيه، فلم يبق إلا أن يكون طلوعها بعد الدجال.
2 -
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» (2)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» . (3) وقد ثبت أنَّ خروج يأجوج ومأجوج يكون بعد عيسى عليه السلام (4)،
فهذان الحديثان يدلان على أنَّ باب التوبة لم يغلق بعد في زمن عيسى، إذ لو كان قد أغلق لما كان للحج فائدة، وقد سبق أنَّ وقت الدجال قبل زمن عيسى عليه السلام، وفي ذلك دلالة واضحة على أنَّ طلوع الشمس يعقب الدجال.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الذكر والدعاء، حديث (2703).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1252).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1593).
(4)
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ في حديث طويل ذكر فيه الدجال ونزول عيسى عليه السلام، وفيه ـ: «
…
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ
…
». أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2937).
3 -
ومما يؤكد أنَّ طلوع الشمس هو آخر الثلاث، أنَّ الأحاديث متظافرة على أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، ولو كانت هي الأولى في الخروج لما كان لذكر بقية الثلاث فائدة؛ لأن انقطاع التوبة قد وقع بطلوع الشمس قبل ذلك.
قال الشيخ حمود التويجري - بعد أن أورد حديث (ثلاث إذا خرجن) -: «وظاهر هذا الحديث يدل على أنَّ التوبة لا تزال مقبولة حتى تخرج الثلاث كلها، وقد تواترت الأحاديث الدالة على أنَّ التوبة لا تزال مقبولة ما لم تطلع الشمس من مغربها، فيستفاد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع الأحاديث الواردة في قبول التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها أنَّ خروج الدابة والدخان (1) متقدم على طلوع الشمس من مغربها، والله أعلم» . اهـ (2)
وأما الدابة فالأظهر أنَّ خروجها متقدم على طلوع الشمس من مغربها، لكن الزمن الذي بينهن يسير جداً، وليس في هذا القول مخالفة لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى» . (3)؛ لأن الحديث إنما ذكر الأولية للشمس والدابة معاً، لا للشمس وحدها؛ بدليل قوله في الحديث:«وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» . (4)، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم في الأولية الشمس دون الدابة لما قال ذلك، ومما يؤكد هذا المعنى أنَّ عبد الله بن عمرو راوي الحديث لم يفهم من الحديث أنَّ طلوع الشمس متقدم على الدابة، حيث وقع منه تردد في الأولية بقوله:«وَأَظُنُّ أُولَاهَا خُرُوجًا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (5) وترجيحه لأولية الشمس مبنيٌ على
(1) ذكره للدخان بدل الدجال؛ بناء على اعتماده حديث أبي هريرة من رواية الإمام أحمد، والتي فيها لفظة «الدخان» بدل «الدجال» ، وقد تقدم استيفاء تخريج الحديث وبيان ألفاظه في أول المسألة.
(2)
إتحاف الجماعة، للتويجري (2/ 322).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2941).
(4)
المصدر السابق.
(5)
هذه الزيادة ليست في صحيح مسلم، وقد أخرجها الإمام أحمد في مسنده (2/ 201)، حديث (6881).
اطلاعه على كتب أهل الكتاب، لا أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك أنَّ الراوي عن ابن عمرو قال:«ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ -: وَأَظُنُّ أُولَاهَا خُرُوجًا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (1)، قال الحافظ ابن كثير:«وقد ظن عبد الله بن عمرو أنَّ طلوع الشمس متقدم على الدابة، وذلك محتمل ومناسب» . اهـ (2)
قلت: لكن الذي يظهر تقدم الدابة على الطلوع، وأما الأحاديث الواردة بتقدم طلوع الشمس على الدابة، فإنها ضعيفة، والله تعالى أعلم. (3)
(1) المصدر السابق.
(2)
النهاية في الفتن والملاحم، لابن كثير (1/ 169). وانظر: إتحاف الجماعة، للتويجري (2/ 320).
(3)
ورد حديثان ضعيفان في تقدم طلوع الشمس على الدابة:
الأول: حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَوَّلُ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» .
أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 263)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 21)، والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (2/ 156)، وابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (5/ 365)، جميعهم من طريق فضالة بن جبير، عن أبي أمامة، به.
و «فضالة بن جبير» فيه ضعف، قال ابن عدي بعد أن أخرج حديثه:«أحاديثه غير محفوظة» . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 9): «رواه الطبراني في الأوسط، وفيه فضالة بن جبير، وهو ضعيف، وأنكر هذا الحديث» .
الثاني: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا يَخِرُّ إِبْلِيسُ سَاجِدًا يُنَادِي: إِلَهِي، مُرْنِي أَنْ أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ، فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ زَبَانِيَتُهُ، فَيَقُولُونَ: يَا سَيِّدُهُمْ، مَا هَذَا التَّضَرَّعُ؟ فَيَقُولُ: إِنَّمَا سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُنْظِرَنِي إِلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَهَذَا الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ، ثُمَّ تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ مِنْ صَدْعٍ فِي الصَّفَا، فَأَوَّلُ خَطْوَةٍ تَضَعُهَا بِأَنْطَاكِيَّةَ، ثُمَّ تَأْتِي إِبْلِيسَ فَتَلْطِمُهُ» .
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1/ 36). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 8): «رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه إسحاق بن إبراهيم بن زبريق وهو ضعيف» . وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (2/ 203): «هذا حديث غريب جداً، وسنده ضعيف، ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك، فأما رفعه فمنكر، والله أعلم» . وانظر: النهاية في الفتن والملاحم، لابن كثير (1/ 169).
الإيرادات والاعتراضات على القول بأن زمن الدجال متقدم على طلوع الشمس من مغربها:
الإيراد الأول: فإن قيل: فما جوابكم عن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» . (1)
فهذا الحديث صريح بأن طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة يُعد من أول الآيات، ويلزم منه أنَّ خروج الدجال متأخر عنهما.
والجواب: أنَّ الروايات مختلفة في تعيين أول الآيات:
1 -
ففي رواية: «أنَّ أولها طلوع الشمس من مغربها» . (2)
2 -
وفي رواية: «أنَّ أولها نار تحشر الناس إلى محشرهم» . (3)
3 -
وقيل: أولها خروج الدجال. (4)
وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث أقوال:
1 -
قال الحافظ ابن حجر: «الذي يترجح من مجموع الأخبار أنَّ خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم عليه السلام، وأنَّ طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب ....
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2941).
(2)
كما في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم.
(3)
لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» . أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب أحاديث الأنبياء، حديث (3329).
(4)
يدل عليه حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ؛ فذكر الدجال وقال: «وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ» . أخرجه ابن ماجة في سننه، في كتاب الفتن، حديث (4077). وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1303)، حديث (7875).
قال: وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس». اهـ (1)
واختار هذا الجمع البرزنجي (2)، حيث نقله عن الحافظ ابن حجر واستحسنه. (3)
2 -
ويرى الحافظ ابن كثير: أنَّ طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة يعد من أول الآيات السماوية التي ليست بمألوفة، وأما خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج فكلها أمور مألوفة، وهي من أول الآيات الأرضية.
قال الحافظ ابن كثير - بعد أن أورد حديث عبد الله بن عمرو -: «أي أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، فكل ذلك أمور مألوفة؛ لأن أمر مشاهدته ومشاهدة أمثاله مألوف؛ فأما خروج الدابة على شكل غريب غير مألوف ومخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر؛ فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أنَّ طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية» . اهـ (4)
واختار هذا الجمع ابن أبي العز الحنفي. (5)
3 -
ويرى الطيبي أنَّ الآيات عبارة عن أمارات على الساعة، إما على قربها، وإما على حصولها؛ فمن الأول: الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، والخسف، ومن الثاني: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس. (6)
واختار هذا الجمع المناوي. (7)
(1) فتح الباري، لابن حجر (11/ 361).
(2)
هو: محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد الحسني البرزنجي: فاضل، له علم بالتفسير والأدب. من فقهاء الشافعية. برزنجي الأصل. ولد وتعلم بشهرزور، ورحل إلى همذان وبغداد ودمشق والقسطنطينية. ومصر، واستقر في المدينة، فتصدر للتدريس، وتوفي بها. له كتب، منها (الإشاعة في أشراط الساعة) و (أنهار السلسبيل) في شرح تفسير البيضاوي، وغيرها. (ت: 1103هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 203).
(3)
انظر: الإشاعة لأشراط الساعة، للبرزنجي، ص (281).
(4)
النهاية في الفتن والملاحم، لابن كثير (1/ 165). وانظر:(1/ 169).
(5)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 566).
(6)
شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (10/ 111)، وانظر: فتح الباري، لابن حجر (11/ 360).
(7)
فيض القدير، للمناوي (2/ 170).
4 -
ويرى أبو العباس القرطبي أنَّ الأولية في حديث عبد الله بن عمرو المراد بها: أول الآيات الكائنة في زمان ارتفاع التوبة والطبع على كل قلب بما فيه، وعلل ذلك: بأن ما قبل طلوع الشمس من مغربها التوبة فيه مقبولة، وإيمان الكافر فيه يصح. (1)
وأما حديث أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» . (2) فقد جاء في حديث آخر أنها آخر الآيات؛ فعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: «اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ: مَا تَذَاكَرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ: الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ» (3).
قال الحافظ ابن حجر: «ويجمع بينهما بأن آخريتها باعتبار ما ذُكِرَ معها من الآيات، وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلاً، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور، بخلاف ما ذكر معها فإنه يبقى بعد كل آية منها أشياء من أمور الدنيا» . اهـ (4)
قلت: ويؤيد هذا الجمع أنَّ حديث أنس روي بلفظ: «وَأَمَّا أَوَّلُ شَيْءٍ يَحْشُرُ النَّاسَ فَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَتَحْشُرُهُمْ إِلَى الْمَغْرِبِ» . (5)
حيث لم ينص على أنها أول الآيات، بل فيه أنها أول من يحشر الناس. (6)
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (7/ 242).
(2)
سبق تخريجه في أثناء المسألة.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2901).
(4)
فتح الباري، لابن حجر (13/ 88).
(5)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 271)، حديث (13895)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (1/ 273)، وابن حبان في صحيحه (16/ 442)، وأبو يعلى في مسنده (6/ 139)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 502)، حديث (2568).
(6)
انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (10/ 82).
ويحتمل أنَّ النار المذكورة في حديث أنس نار أخرى غير المذكورة في حديث حذيفة، فالأولى تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، والثانية تخرج من اليمن فتسوق الناس إلى المحشر الذي هو أرض الشام، فتكون الأولى أول الآيات، والثانية آخر الآيات.
يقوي هذا الاحتمال اختلاف مكان وصفة خروج كل من النارين؛ فالأولى تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب، والثانية تخرج من اليمن وتسوق الناس إلى محشرهم. (1)
وبهذا يتبين أنَّ الحديث الوارد في أنَّ أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، لا ينافي القول بأن أولها خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، لما علمت من اختلاف الروايات في أول الآيات، ولما ذُكِرَ من أنَّ الأولية في الحديث ليست على إطلاقها، وعليه فلا يصح الاعتراض، والله تعالى أعلم. (2)
الإيراد الثاني: أنَّ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه تقديم طلوع الشمس من مغربها على الدجال، فكيف يقال إن طلوعها آخر الثلاث؟
والجواب: أنَّ هذا الترتيب غير مُتفقٍ عليه بين رواة الحديث، وتفصيل ذلك:
أنَّ الحديث رواه فضيل بن غزوان، وقد رُويَ عن فضيل من أربعة طرق، وفي كل طريق اختلاف في ترتيب الآيات:
الأول: طريق وكيع بن الجراح: وقد اتفق الرواة عنه على الترتيب الآتي: طلوع الشمس، والدجال، والدابة.
الثاني: طريق يعلى بن عبيد: وقد اختلف الرواة عنه في الترتيب:
فرواه عبد بن حميد، وإسحاق بن راهويه، والصغاني، بلفظ: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس.
ورواه عنه محمد بن عبد الوهاب، بلفظ: طلوع الشمس، والدجال، والدابة.
(1) انظر: لوامع الأنوار البهية، للسفاريني (2/ 150).
(2)
انظر: القناعة فيما يحسن الإحاطة من أشراط الساعة، للسخاوي، ص (62).
الثالث: طريق محمد بن فضيل: وقد اختلف الرواة عنه في الترتيب:
فرواه محمد بن العلاء، وعبد الله بن عامر بلفظ: طلوع الشمس، والدجال، والدابة.
ورواه أبو هشام الرفاعي بلفظ: الدابة، والدجال، وطلوع الشمس.
الرابع: طريق إسحاق بن يوسف: ولم يخرجه من هذا الطريق إلا مسلم في صحيحه، ولم يذكر لفظ الحديث، وإنما ذكر هذا الطريق متابعة. (1)
والخلاصة: أنَّ هذه الروايات الواردة في ترتيب الحديث لا يمكن الجزم بأن أحدها هو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإذ الأمر كذلك فلا يصح الجزم بأن طلوع الشمس من مغربها هو أول الثلاث.
وعلى التسليم بأن الحديث قد جاء هكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم الطلوع على الثلاث؛ فإنه لا يدل على تقدم الطلوع؛ لأن تقديمها في الذكر لا يقتضي تقدمها في الوقوع (2)، كما أنَّ العطف لا يفيد الترتيب (3)، ولاحتمال أن يكون
(1) تقدم تخريج هذه الطرق في أول المسألة.
(2)
انظر: الكليات، للكفوي، ص (159)، (1066)، وفتح القدير، للشوكاني (1/ 153)، وقواعد التفسير، للسبت (1/ 379).
(3)
مذهب الجمهور من الأصوليين والنحاة أن «الواو» العاطفة تجيء لمطلق الجمع، فيُعطف بها الشيء على مصاحبه، ولا تفيد الترتيب. قال سيبويه:«ولم تُلْزِمِ الواوُ الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو، لم يكن في هذا دليل أنك مررت بعمرو بعد زيد» .
وقال: «وإنما جئت بالواو لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما، وليس فيه دليل على أن أحدهما قبل الآخر» . اهـ انظر: الكتاب، لسيبويه (1/ 291) و (4/ 216).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (18/ 217): «لفظ الواو لا يفيد الترتيب على الصحيح الذي عليه الجمهور» . اهـ
وللجمهور أدلة، منها: =
قدم الطلوع؛ لأن مدار عدم قبول التوبة متوقف عليه. (1)
ومما يؤكد أنَّ الترتيب غير مراد في الحديث: ذكر الدجال بين طلوع الشمس وخروج الدابة، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنَّ طلوع الشمس وخروج الدابة قريبان من بعضهما، ونص الحديث:«وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» . (2)، وقد تقدم أنَّ مدة مكث الدجال إلى أن يقتله ابن مريم تُعد طويلة، وهذا دليل واضح بأن طلوع الشمس ليس بأول الثلاث، والله تعالى أعلم.
الإيراد الثالث: إذا كانت التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، فما فائدة ذكر الدجال والدابة في الحديث؟
والجواب: أنَّ ذكرهما هو بمثابة التحذير والإعلام بقرب طلوع الشمس من مغربها، فكأن خروجهما إرهاصٌ وإيذانٌ بقرب طلوع الشمس من مغربها، يدل على ذلك: حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربكم أنذركم ثلاثاً .... ، فذكر الدخان، والدابة، والدجال» . (3)
= قوله تعالى: (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدي وارْكَعي مَعَ الرَّاكِعِيْنَ)[آل عمران: 43]. حيث قدم السجود على الركوع، ولو كانت الواو تفيد الترتيب؛ لقدم الركوع على السجود، وقال تعالى:(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)[البقرة: 58]، وقال في سورة الأعراف:(وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)[الأعراف: 161]، فقدم وأخر مع أن القصة واحدة. وللمزيد انظر: معاني القرآن، للفراء (1/ 396)، والمقتضب (1/ 10)، والكامل في الأدب (2/ 529)، كلاهما للمبرد، ومعاني الحروف؛ للرماني، ص (59)، والصاحبي في فقه اللغة، لابن فارس، ص (157)، والفصول في الأصول، للرازي (1/ 83)، وكشف الأسرار، للبخاري (2/ 109)، وشرح التلويح، للتفتازاني (1/ 188)، ونيل الأوطار، للشوكاني (1/ 124)، وفتح القدير، له (1/ 153)، ودراسات لأسلوب القرآن الكريم، لمحمد عضيمة (3/ 521)، وأصول الفقه الإسلامي، لوهبة الزحيلي (1/ 378 - 381).
(1)
انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (10/ 107). وللإمام ابن القيم الجوزية كلام نفيس في فوائد التقديم، حيث ذكر أن المعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب، وإما بالفضل والكمال. وقد فصَّل ومثل لذلك، فانظره في كتابه «بدائع الفوائد» (1/ 58).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2941).
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 227)، حديث (31062)، والطبراني في الكبير =
وهذا الحديث واضح الدلالة في المقصود؛ لأن فيه التصريح بأن الدجال والدابة إنما هي نذرٌ لما بين يديها من طلوع الشمس من مغربها، والذي يعني رفع التوبة، وعدم قبول الإيمان، فيكون خروجهما تحذيراً للناس وتنبيهاً لهم بأن عليهم التوبة قبل أن يأت يوم لا تنفع فيه، وذلك اليوم هو طلوع الشمس من مغربها.
وإنما لم يذكر في حديث أبي مالك طلوع الشمس من مغربها؛ لأن طلوعها لا يقع فيه إنذار، وهذا مما يؤكد أنَّ الدجال والدابة إنما هي نذر، والله تعالى أعلم.
ويلاحظ في حديث أبي هريرة تعليق الشرط على ثلاثة أشياء، مع أنَّ الجواب حاصل بأحدها، وهو طلوع الشمس من مغربها، ولهذا نظائر في الكتاب والسنة:
فمن الكتاب: قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) [الانفطار: 1 - 5] فانظر كيف علق الشرط على أربعة أشياء، وهي: انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، مع أنَّ الجواب - وهو علم النفس بما قدمت وأخرت - لا يكون إلا بعد بعثرة القبور.
ونظير هذا المثال من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ (1)،
= (3/ 292)، وأورده ابن كثير في تفسيره (4/ 150)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 745) وقالا:«إسناده جيد» .
(1)
الشُّعَبُ: جَمْع شُعْبَة، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ. قِيلَ: الْمُرَاد هُنَا يَدَاهَا وَرِجْلَاهَا. وَقِيلَ: رِجْلَاهَا وَفَخِذَاهَا. وَقِيلَ: سَاقَاهَا وَفَخِذَاهَا. وَقِيلَ: فَخِذَاهَا وَإِسْكَتَاهَا. وَقِيلَ: فَخِذَاهَا وَشَفْرَاهَا. وَقِيلَ: نَوَاحِي فَرْجِهَا الْأَرْبَع. قَالَ الْأَزْهَرِيّ: الْإِسْكَتَانِ نَاحِيَتَا الْفَرْجِ، وَالشَّفْرَانِ طَرَف النَّاحِيَتَيْنِ. وَرَجَّحَ الْقَاضِي عِيَاض الْأَخِير. وَاخْتَارَ اِبْن دَقِيقِ الْعِيدِ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجُلُوسِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ، فَاكْتَفَى بِهِ عَنْ التَّصْرِيحِ. انظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 470).
وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ (1)؛ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ». (2) فانظر كيف علق وجوب الغسل على شيئين، مع أنه لا يجب إلا بواحد منهما، وهو التقاء الختانين.
رابعاً: الأدلة على أنَّ زمن عيسى عليه السلام يعقب الدجال:
تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام (3)، وأغلب هذه الأحاديث فيها التصريح بقتل عيسى ابن مريم للدجال، وفي هذا دلالة واضحة بأن زمن عيسى يعقب الدجال، وفيما يأتي ذكر بعض الأحاديث الدالة على قتل عيسى عليه السلام للدجال:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ، أَوْ بِدَابِقٍ (4)،
فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ، لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ (5)، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ
(1) الختانان: هما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الجارية، ويقال لقَطْعهما الإِعْذارُ والخَفْضُ، ومعنى التقائهما غُيُوبُ الحشفة في فرج المرأَة حتى يصيرَ خِتانه بحِذاء خِتَانِها، وذلك أَن مدخل الذكر من المرأَة سافل عن ختانها؛ لأَن ختانها مستعلٍ، وليس معناه أَن يَماسَّ خِتانُه خِتانها. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 230)، ولسان العرب، لابن منظور (13/ 138).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الحيض، حديث (349).
(3)
انظر: النهاية في الفتن والملاحم، لابن كثير (1/ 127، 142)، وإتحاف الجماعة، للتويجري (3/ 81)، فما بعدها.
(4)
«الْأَعْمَاق» بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة، وَ «دَابِق» بكَسْرِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَفَتْحهَا، وَالْكَسْر هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وهما مَوْضِعَانِ بِالشَّامِ بِقُرْبِ حَلَب. انظر: معجم البلدان، لياقوت الحموي (1/ 222)، وصحيح مسلم بشرح النووي (18/ 29).
(5)
قُسْطنْطِينِيَّة: هِيَ بِضَمِّ الْقَاف، وَإِسْكَان السِّين، وَضَمّ الطَّاء الْأُولَى، وَكَسْر الثَّانِيَة وَبَعْدهَا يَاء سَاكِنَة ثُمَّ نُون، هَكَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق عَنْ =
الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ. فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ». (1)
2 -
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: « .... فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ (2) بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ (3) وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ (4) كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ .... » . (5)
= الْمُتْقِنِينَ وَالْأَكْثَرِينَ، وَعَنْ بَعْضهمْ زِيَادَة يَاء مُشَدَّدَة بَعْد النُّون، وَهِيَ مَدِينَة مَشْهُورَة مِنْ أَعْظَم مَدَائِن الرُّوم. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 199)، وصحيح مسلم بشرح النووي (18/ 30).
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن، حديث (2897).
(2)
قال الحافظ ابن كثير في «النهاية» (1/ 149): «هذا هو الأشهر في موضع نزوله أنه على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق؛ وقد رأيت في بعض الكتب أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي جامع دمشق، فلعل هذا هو المحفوظ، وتكون الرواية «فينزل على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق» فتصرف الراوي في التعبير بحسب ما فهم، وليس بدمشق منارة تعرف بالشرقية سوى التي إلى شرق الجامع الأموي، وهذا هو الأنسب والأليق». اهـ
(3)
المهرود: الثوب المصبوغ بالزعفران. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 268)، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 257).
(4)
الجمان: هي شذور تصنع من الفضة أمثال اللؤلؤ، والمعنى: أن الماء يتحدر من رأسه كأنه حبات اللؤلؤ. انظر: مشارق الأنوار (1/ 153)، والنهاية في غريب الحديث (1/ 301).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن، حديث (2937).
خامساً: الأدلة على أنَّ زمن عيسى عليه السلام فيه خير كثير، دنيوي وأخروي، والتوبة والإيمان مقبولان فيه:
هناك عدة أدلة تدل على أنَّ زمن عيسى عليه السلام التوبة والإيمان مقبولان فيه، سواء كانت التوبة والإيمان قبل نزوله، أم بعد ذلك.
وفيما يلي ذكر بعض هذه الأدلة:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)) [النساء: 159].
حيث أخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أنَّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى عليه السلام بعد نزوله، ولا يتخلف أحد منهم عن التصديق والإيمان به (1)، فدل على قبول الإيمان في زمنه.
الإيرادات والاعتراضات على هذا الدليل:
الإيراد الأول: أنَّ الاستدلال بهذه الآية غير مستقيم؛ لأن هناك خلافاً بين المفسرين في مرجع الضمير في قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ)[النساء: 159] فبعضهم يقول: إن الضمير راجع إلى الكتابي، والمعنى أنَّ الكتابي يؤمن عند الموت والمعاينة، بأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله. (2)
وقال آخرون: معنى الآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي. (3)
والجواب: أنَّ الصواب رجوع الضمير إلى عيسى عليه السلام، لا إلى الكتابي، وهذا هو مذهب الجمهور من المفسرين، روي عن أبي هريرة (4)، وابن
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 590).
(2)
رُويَ ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وابن سيرين، والضحاك. انظر: تفسير ابن كثير (1/ 590).
(3)
رُويَ هذا القول عن عكرمة. انظر: تفسير ابن كثير (1/ 590).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب أحاديث الأنبياء، حديث (3448)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (155).
عباس (1)، وبه قال أبو مالك (2)، والحسن البصري (3)، وقتادة (4)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (5).
وهو اختيار: ابن جرير، وابن كثير، والشوكاني، والشنقيطي. (6)
ومما يرجح هذا الاختيار:
1 -
أنَّ الضمائر في الآيات التي قبلها كلها راجعة إلى عيسى عليه السلام، قال تعالى:(وَقولهمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)) [النساء: 157 - 158].
فقوله: (وَمَا قَتَلُوهُ)(وَمَا صَلَبُوهُ)(وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(اخْتَلَفُوا فِيهِ)(لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)(مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)(وَمَا قَتَلُوهُ)(بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ) كل هذه الضمائر راجعة إلى عيسى عليه السلام، ولما عطف عليها قوله:(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وجب أن يكون الضمير عائداً إلى عيسى عليه السلام، حتى تنسجم الضمائر. (7)
2 -
ومما يقوي عود الضمير إلى عيسى عليه السلام، أنَّ الأصل في الضمير عوده على مفسر مذكور، وليس في الآية ذكر للكتابي، وإنما المذكور عيسى عليه السلام. (8)
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/ 356)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1114)، والحاكم في المستدرك (2/ 338)، وقال:«صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» . وصححه الحافظ ابن كثير في «النهاية في الفتن والملاحم» (1/ 142)، والحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/ 568).
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/ 357)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1113).
(3)
المصادر السابقة.
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/ 357).
(5)
المصدر السابق.
(6)
انظر على الترتيب: تفسير الطبري (4/ 360)، وتفسير ابن كثير (1/ 590)، وفتح القدير، للشوكاني (1/ 807)، وأضواء البيان، للشنقيطي (7/ 264).
(7)
انظر: أضواء البيان (7/ 265 - 266).
(8)
المصدر السابق.
الإيراد الثاني: على التسليم بأن الضمير عائد على عيسى عليه السلام؛ فإن هذا الإيمان إيمان اضطراري، بمعنى أنَّ أهل الكتاب يتحققون أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، ومثل هذا لا ينفع صاحبه، كحالة الغرغرة فإن الإيمان لا ينفع عندها. (2)
والجواب: أنَّ الآية لم تُفصل في هذا الإيمان، من حيث القبول والرد، فبقيت على إطلاقها بأن الإيمان نافع في زمن عيسى عليه السلام، ولا يصح تقييدها إلا بدليل.
الدليل الثاني: على أنَّ من أحدث إيماناً أو توبة في زمن عيسى عليه السلام قُبِلَ منه، حديث أبي هريرة، وفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عيسى ابن مريم فقال: «
…
وَإِنَّهُ نَازِلٌ
…
فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ». (3)
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 591).
(2)
انظر: النهاية في الفتن والملاحم، لابن كثير (1/ 172 - 173).
(3)
لفظ الحديث كاملاً: «الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، رَجُلًا مَرْبُوعًا إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ، كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ =
والشاهد من الحديث قوله: «وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ» ، وهذا نص صريح بأن عيسى عليه السلام يدعو إلى الإسلام، ويلزم من دعوته أنَّ الإيمان مقبول ممن آمن به واتبعه، وإلا فكيف يدعوهم إلى الإسلام وهو يعلم أنَّ إسلامهم غير نافع لهم.
فإن قيل: إن اللفظ الذي استدللتم به غير متفق عليه بين رواة الحديث، حيث روي بلفظ:«فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» ، وبلفظ:«وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ» . (1) وهذه الروايات ليس فيها أنه يدعو للإسلام، وعليه فلا يستقيم الاستدلال.
= الدَّجَّالَ، وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى تَرْتَعَ الْأُسُودُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا تَضُرُّهُمْ، فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ».
روي هذا الحديث من طريق قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة، به.
وقد روي عن قتادة من ثلاثة طرق:
الأول: طريق همام بن يحيى، عن قتادة، به:
وقد رواه عنه:
1 -
عفان بن مسلم: أخرجه من طريقه الإمام أحمد في مسنده (2/ 406)، حديث (9259)، والحاكم في المستدرك (2/ 651) وقال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . ولفظه: «وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ» .
2 -
هدبة بن خالد: أخرجه من طريقه الإمام أبي داود في سننه، في كتاب الملاحم، حديث (4324)، وابن حبان في صحيحه (15/ 233). ولفظه:«فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» .
الثاني: طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، به:
وقد رواه عنه:
1 -
يحيى بن سعيد بن فروخ: أخرجه من طريقه الإمام أحمد في مسنده (2/ 437)، حديث (9630). ولفظه:«وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ» .
2 -
يزيد بن هارون: أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 499)، وابن جرير في تفسيره (4/ 361). ولفظه:«فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» .
الثالث: طريق الحسن بن دينار، عن قتادة، به:
رواه عنه ابن إسحاق: أخرجه من طريقه ابن جرير في تفسيره ((3/ 289). ولفظه: «فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» .
وللحديث شاهد مرسل، أخرجه أبو عمرو الداني في كتابه «السنن الواردة في الفتن» (6/ 1233) عن الحسن مرسلاً، ولفظه:«فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» .
وقد صحح الحديث الحافظ ابن كثير، في «النهاية» (1/ 146)، وابن حجر في «الفتح» (6/ 569)، والألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 32)، حديث (4324).
(1)
انظر هذه الروايات في تخريج الحديث، ص (590).
فالجواب: أنَّ لفظ: «فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» هو بمعنى لفظ «وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ» ولا فرق؛ لأن قتاله الناس على الإسلام إنما هو من أجل أن يسلموا، فمن أسلم كف عنه، ومن أبى قاتله، يدل على هذا المعنى حديث:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .... » (1) ومعلوم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث للقتال وحسب، وإنما بعث لدعوة الناس للإيمان، والقتال إنما هو لمن أعرض وأبى.
وكذا الرواية الثانية هي بمعنى هذه الرواية، والله تعالى أعلم.
الدليل الثالث: ما ورد من أحاديث أنَّ المسلمين يقاتلون العدو في زمن الدجال، وزمن عيسى عليه السلام (2)،
وقد جاء ما يفيد بأن التوبة لا تنقطع ما دام المسلمون يقاتلون العدو؛ فعن عبد الله بن وَقْدَانَ السَّعْدِيِّ (3) أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ» (4)، والهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة؛
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (25)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (20).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2897).
(3)
هو: أبو محمد، عبد الله بن وقدان بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب. واسم وقدان: عمرو، ويقال: عمرو بن وقدان. يقال له ابن السعدى؛ لأن أباه استرضع في بني سعد بن بكر بن هوازن، صحب ابن السعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً، وقال: وفدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ت: 57 هـ). انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر
(4/ 113)، وصحيح مسلم بشرح النووي (7/ 193).
(4)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 192)، حديث (1671)، والنسائي في سننه، في كتاب البيعة، حديث (4172)، وابن حبان في صحيحه (11/ 207).
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 251): «رجال أحمد ثقات» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (2/ 927)، حديث (5218).
وفي هذا كله دلالة واضحة على أنَّ التوبة لا تزال مقبولة في زمن الدجال، وعيسى عليه السلام، إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم عن عيسى عليه السلام: «ويُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ» . (2)
فهذا الحديث يدل على دخول الناس كافة في دين الله في زمن عيسى عليه السلام، ولا يقال بأن عيسى يقتل جميع من لم يكن مؤمناً؛ لأن هذا لم يرد به دليل، ويبعد أن يقتل أعداداً هائلة من البشر؛ لأن نزوله إنما هو لهداية الناس، لا لإزهاق أرواحهم، فدل على أنَّ وقته يكون لدعوة الناس للإيمان، وبالتالي فزمنه زمن إيمان وقبول، والله تعالى أعلم.
****
(1) سبق تخريجه، ص (575).
(2)
سبق تخريجه من حديث أبي هريرة، ص (590).