الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5)
ـ (4): وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ". (1)
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث:
ظاهرُ الآيات الكريمة أنَّ لكل نفسٍ أجلاً محدوداً، لا يتقدم ولا يتأخر، وأنَّ عُمُرَ كل إنسان له أمد لا يتعداه، وأما الأحاديث ففيها أنَّ البر والصلة يزيدان في الأعمار، وهذا يُوهِمُ خلاف الآيات. (2)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث:
لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآيات والأحاديث، وقد اختلفوا في هذه المسألة وفي الجمع بين الآيات والأحاديث على مذهبين:
الأول: مذهب تجويز الزيادة في الأعمار، وحمل الأحاديث الواردة في المسألة على الحقيقة.
(1) أخرجه من حديث سلمان الفارسي: الترمذي في سننه، في كتاب القدر، حديث (2139)، وأخرجه من حديث ثوبان: ابن ماجة في المقدمة، حديث (90)، وفي كتاب الفتن، حديث (4022)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 280)، وابن حبان في صحيحه (3/ 153)، والحاكم في المستدرك (1/ 670)، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 1271)،
حديث (7687)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 286)، حديث (154).
(2)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (1/ 189)، ومشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 304)، ومشكل الآثار، للطحاوي (4/ 78 - 79)، وصحيح مسلم، بشرح النووي (16/ 172)، وفتح الباري، لابن حجر (10/ 430)، وفيض القدير، للمناوي
(6/ 34).
وهذا مذهب الجمهور، واختاره جمع من العلماء المحققين، كابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والشوكاني، وغيرهم.
وقد اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الآيات، والجمع بينها وبين الأحاديث على أقوال:
الأول: أنَّ الزيادة الواردة في الأحاديث هي بالنسبة لعلم المَلَك الموكل بالعمر، وأما ما ورد في الآيات فهو بالنسبة لعلم الله تعالى، فيكون معنى الأحاديث: أنَّ التأخير يكون في أثره المكتوب في صحف الملائكة، وأما أثره المعلوم عند الله تعالى؛ فلا تقديم فيه ولا تأخير.
وهذا قول: البيهقي (1)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والسفاريني (2)(3)، وعبد الرحمن السعدي (4).
وذكره النووي، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي (5)، وأبو عبد الله القرطبي، والمناوي (6). (7)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجواب المحقق: أنَّ الله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإنْ عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب
…
، والله سبحانه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون; فهو يعلم ما كتبه له، وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها; فلهذا قال العلماء: إنَّ المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات". اهـ (8)
(1) القضاء والقدر، للبيهقي، ص (214).
(2)
هو: محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، أبو عون، عالم بالحديث والأصول والأدب، ومحقق، ولد في سفارين (من قرى نابلس) ورحل إلى دمشق فأخذ عن علمائها، وعاد إلى نابلس فدرس وأفتى وتوفي فيها، من مؤلفاته "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" و "لوامع الأنوار البهية" شرح منظومة له في عقيدة السلف، (ت: 1188 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 14).
(3)
لوامع الأنوار البهية، للسفاريني (1/ 349).
(4)
تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص (679).
(5)
هو: أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي، فقيه مالكي، من رجال الحديث. يعرف بابن المزين. كان مدرساً بالإسكندرية وتوفي بها. ومولده بقرطبة. من كتبه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" شرح به كتاباً من تصنيفه في اختصار مسلم. (ت: 656هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (1/ 186).
(6)
هو: محمد بن عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين، الحدادي، ثم المناوي القاهري، زين الدين: من كبار العلماء بالدين والفنون، له نحو ثمانين مصنفاً، منها الكبير والصغير والتام والناقص. عاش في القاهرة، وتوفي بها. من كتبه (كنوز الحقائق) في الحديث، و (التيسير) في شرح الجامع الصغير، مجلدان، اختصره من شرحه الكبير (فيض القدير). (ت: 1031هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 204).
(7)
انظر على الترتيب: صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 172 - 173)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 186)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي
(6/ 528)، وتفسير القرطبي (6/ 216)، وفيض القدير، للمناوي (6/ 34).
(8)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/ 490 - 491)، وانظر:(8/ 517، 540).
وقال الحافظ ابن حجر: والحق أنَّ الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأنَّ الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أنْ يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي، فيقع فيه المحو والإثبات، كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات، والعلم عند الله. اهـ (1)
والمراد بالمكتوب في صحف الملائكة يفسره حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ". (2)
وحديث حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رضي الله عنه، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ ـ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ـ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَيُكْتَبَانِ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، فَيُكْتَبَانِ؟ وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ". (3)
وفي رواية: "فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ". (4)
وعلى هذا فإنَّ زيادة العمر ونقصانه إنما هي بالنسبة لعلم الملك الموكل بالآجال، وأما ما سبق في علم الله تعالى وقضاه في الأزل فلا زيادة فيه ولا نقصان، وعليه تحمل الآيات الواردة بأنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر. (5)
(1) فتح الباري، لابن حجر (11/ 497)، بتصرف. وانظر:(10/ 430).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الحيض، حديث (318)، وفي كتاب القدر، حديث (6595)، ومسلم في صحيحه، في كتاب القدر، حديث (2646).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب القدر، حديث (2644).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، في الموضع السابق، حديث (2645).
(5)
انظر: منهج الإمام الشوكاني في العقيدة، لعبد الله نومسوك، ص (240 - 242).
القول الثاني: أنَّ معنى الأحاديث: أنَّ الله تعالى جعل صلة الرحم سبباً لطول العمر، كسائر الأعمال التي أمر الله بها شرعاً، ورتب عليها جزاء قدرياً، فمن عَلِمَ أنه يصل رحمه جعل أجله إلى كذا، ومن عَلِمَ أنه يقطع رحمه جعل أجله ينتهي إلى كذا، والكل قد فُرِغَ منه في الأزل، وجف به القلم.
وهذا قول: الطحاوي، والقاضي عياض، وابن حزم، والزمخشري، وابن عطية، والقرافي، وابن أبي العز الحنفي، والمناوي، وشمس الحق آبادي، والشوكاني، والآلوسي، وابن عثيمين. (1)
وذكره: ابن فورك، وابن الجوزي. (2)
قال ابن حزم: "وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أنْ يُنسأ في أجله فليصل رحمه" فصحيح موافق للقرآن، ولما توجبه المشاهدة، وإنما معناه: أنَّ الله عز وجل لم يزل يعلم أنَّ زيداً سيصل رحمه، وأنَّ ذلك سببٌ إلى أنْ يبلغ من العمر كذا وكذا، وهكذا كل أجل في الدنيا؛ لأن مَنْ عَلِمَ الله تعالى أنه سيُعمَّر كذا وكذا من الدهر؛ فإنَّ الله تعالى قد عَلِمَ وقدَّر أنه سيتغذى بالطعام والشراب، ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لا بد من استيفائها، والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز وجل كما هو لا يُبَدَّل، قال تعالى:(مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)) [ق: 29]
ولو كان على غير هذا لوجب البداء (3) ضرورة، ولكان غير عليم بما
(1) انظر على الترتيب: مشكل الآثار، للطحاوي (4/ 78)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (8/ 21)، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 114 - 115)، والكشاف، للزمخشري
(3/ 586)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (2/ 396)، وأنوار البروق، للقرافي (1/ 148)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 150)، وفيض القدير، للمناوي (6/ 34)، وعون المعبود، للآبادي (5/ 77)، وتنبيه الأفاضل، ص (29)، وفتح القدير (4/ 486)، كلاهما للشوكاني، وروح المعاني، للآلوسي (4/ 397)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/ 111).
(2)
انظر على الترتيب: مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 307)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 186).
(3)
البداء يُطلق ويراد به في اللغة معنيين: الأول: الظهور بعد الخفاء، والثاني: نشأة رأي آخر لم يكن من قبل. وهذان المعنيان يستلزمان سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محالان في حق الله تعالى؛ لأن الله تعالى متصف أزلاً وأبداً بالعلم الواسع المحيط بكل شيء، فهو سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون. انظر: النسخ في القرآن الكريم، لمصطفى زيد
(1/ 20 - 21).
يكون، متشككاً فيه أيكون أم لا يكون؟ أو جاهلاً به جملة، وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق، وهذا كفر ممن قال به". اهـ (1)
وقال القرافي: "الحق أنَّ الله تعالى قدَّر له ستين سنة مرتبة على الأسباب العادية، من الغذاء والتنفس في الهواء، ورتب له عشرين سنة أخرى مرتبة على هذه الأسباب وصلة الرحم، وإذا جعلها الله تعالى سبباً أمكن أن يُقال: إنها تزيد في العمر حقيقة، كما نقول الإيمان يُدخل الجنة، والكفر يُدخل النار، بالوضع الشرعي لا بالاقتضاء العقلي، ومتى علم المكلف أنَّ الله تعالى نصب صلة الرحم سبباً لزيادة النساء في العمر بادر إلى ذلك كما يُبادر لاستعمال الغذاء وتناول الدواء والإيمان رغبة في الجنان، ويَفِرُّ من الكفر رهبة من النيران، وبقي الحديث على ظاهره من غير تأويل يُخِلُّ بالحديث". اهـ (2)
القول الثالث: أنَّ معنى الحديث: أنَّ الله تعالى يكتب أجل عبده عنده مائة سنة، ويجعل بُنْيَتَهُ وتركيبه وهيئته لتعمير ثمانين سنة؛ فإذا وصل رحمه زاد الله تعالى في ذلك التركيب وفي تلك البنية، ووصل ذلك النقص فعاش عشرين أخرى حتى يبلغ المائة، وهي الأجل الذي لا مستأخر عنه ولا متقدم.
ذكر هذا القول: ابن قتيبة، وابن فورك، وابن الجوزي. (3)
القول الرابع: أنَّ معنى الحديث: أنَّ من وصل رحمه زاد الله في عمره في الدنيا من أجله في البرزخ، ومن قطع رحمه نقّص الله من عمره في الدنيا، وزاده في أجل البرزخ.
روي هذا القول عن ابن عباس رضي الله عنه.
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 114 - 115).
(2)
أنوار البروق، للقرافي (1/ 148).
(3)
انظر على الترتيب: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (1/ 189)، ومشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 307)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 186).
قال أبو عبد الله القرطبي: "قيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه" كيف يزاد في العمر والأجل؟ فقال: قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)[الأنعام: 2] فالأجل الأول: أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني، يعني المسمى عنده: من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ، لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء فيزيده في أجل البرزخ، فإذا تحتم الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى:(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)[الأنعام: 2].
قال القرطبي: فتوافق الخبر والآية، وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم". اهـ (1)
ونقل الحافظ ابن حجر نحو هذا القول عن الحكيم الترمذي (2)، حيث قال:"المراد بذلك قلة البقاء في البرزخ". (3)
أدلة هذا المذهب:
لأصحاب هذا المذهب عدة أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه من أنَّ الزيادة الواردة في الأحاديث حقيقية وليست معنوية، وأنَّ إثبات الزيادة لا ينافي الآيات التي فيها أنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، ومن هذه الأدلة:
الأول: قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[الرعد: 39].
ووجه الدلالة: أنَّ المحو والإثبات - المذكورين في الآية - هما بالنسبة لما في علم المَلَك، وأما الذي في أم الكتاب - وهو الذي في علم الله تعالى - فلا محو فيه ألبتة، وهو الذي يقال له القضاء المبرم، ويقال للأول
(1) تفسير القرطبي (9/ 216 - 217)، ولم أقف على أثر ابن عباس المذكور.
(2)
هو: محمد بن علي بن الحسن بن بشر، الحكيم الترمذي، من أعلام الصوفية، وعالم بالحديث وأصول الدين، اتهم باتباع طريقة الصوفية في الإشارات ودعوى الكشف، (ت: 255 هـ، وقيل: 285 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (13/ 439)، والأعلام، للزركلي (6/ 272).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (4/ 353). وانظر: عمدة القاري، للعيني (11/ 182).
القضاء المعلق. (1)
والأحاديث الواردة في أنَّ صلة الرحم تزيد في العمر محمولة على المعنى الأول؛ فإنَّ الله يمحو ما يشاء فيه ويثبت، والآيات التي تفيد أنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر محمولة على المعنى الثاني، فلا محو فيه ولا إثبات.
قالوا: ومما يؤكد هذا المعنى قوله في الآية التي قبلها: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) ثم قال: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) أي من ذلك الكتاب (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) أي أصله وهو اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات. (2)
قال الشوكاني: "المحو والإثبات في الآية عامان يتناولان العمر والرزق، أو السعادة والشقاوة
…
، ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه بما يخصص هذا العموم". اهـ (3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات.
(1) لله تعالى في خلقه قضاءان: مبرماً، ومعلقاً بفعل؛ فالمبرم: هو عبارة عما يقدره تعالى في الأزل من غير أن يعلقه على فعل، وهو في الوقوع نافذ لا محالة، ولا يمكن أن يتغير بحال، ولا يتوقف وقوعه على المقضي عليه، ولا المقضي له؛ لأنه من علمه سبحانه بما كان وما يكون، وخلاف معلومه سبحانه مستحيل قطعاً، وهذا النوع لا يتطرق إليه المحو والإثبات، قال تعالى:(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)[الرعد: 41]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ". [أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2889)]. وأما القضاء المعلق: فهو أن يعلق الله تعالى قضاءه على شيء؛ فإن فعل العبد ذلك الشيء كان له كذا وكذا، وإن لم يفعله لم يكن شيء، وهذا النوع يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال تعالى:(? ? ? ? ?)[الرعد: 39]. انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (10/ 430)، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 333).
(2)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 430)، وصحيح مسلم بشرح النووي (16/ 173)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 151 - 152)، وشرح سنن ابن ماجة، للسيوطي
(1/ 291).
(3)
تنبيه الأفاضل، ص (20).
قال: ونظير هذا ما في الترمذي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنَّ آدم لما طلب من الله أن يُريه صورة الأنبياء من ذريته، فأراه إياهم، فرأى فيهم رجلاً له بصيص (1) فقال: من هذا يا رب؟ فقال: ابنك داود. قال: فكم عمره؟ قال: أربعون سنة. قال: وكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال: فقد وهبت له من عمري ستين سنة. فكتب عليه كتاب وشهدت عليه الملائكة، فلما حضرته الوفاة قال: قد بقي من عمري ستون سنة. قالوا: وهبتها لابنك داود. فأنكر ذلك، فأخرجوا الكتاب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته"(2)،
وروي: "أنه كمل لآدم عمره ولداود عمره"(3). فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة ثم جعله ستين (4)، وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: "اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت (5). اهـ (6)
(1) البصيص: البَرِيق. يقال: وَبَص الشيء يَبِصُ وَبِيصاً، وبَصَّ بَصِيصاَ، بمعنى: برق. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 277)، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 128).
(2)
أخرجه من حديث أبي هريرة: الترمذي في سننه، في كتاب التفسير، حديث (3076)، وحديث
(3368)
، وابن حبان في صحيحه (14/ 41)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 147)، وأبو يعلى في مسنده (11/ 263)، والحاكم في المستدرك (1/ 132)، وقال:"صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2/ 924 - 925)، حديث (5208)، وحديث (5209).
(3)
هذه الرواية أخرجها الإمام أحمد في مسنده (1/ 298)، حديث (2713)، من حديث ابن عباس، وفي سند الحديث:"علي بن زيد بن جدعان"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 806):"رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن زيد ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات".
(4)
كذا في الأصل، ولعل الصواب "ثم جعله مائة"، يؤيد ذلك قول المؤلف في موضع آخر من الفتاوى
(8/ 540): "وكذا عمر داود زاد ستين سنة، فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين".
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 401)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة
(4/ 663 - 664)، أثر (1206) و (1207)، كلاهما من طريق عصمة أبي حكيمة، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب، به. وأبو حكيمة: ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 298)، وقال أبو حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" (7/ 20):"محله الصدق"، وبقية رجاله ثقات، وعليه فالإسناد حسن.
(6)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/ 491 - 492)، بتصرف.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)[فاطر: 11]، فالزيادة والنقصان المشار إليهما في الآية المراد بهما ما يُكتب في صحف الملائكة، ومعنى الآية: أنه لا يطول عمر إنسان ولا يُنقص منه إلا وهو في كتاب، أي صحف الملائكة. (1)
الدليل الثالث: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)[الأنعام: 2]، فالمراد بالأجل الأول هو ما في صحف الملائكة، وما عند مَلَك الموت وأعوانه، وأما الأجل الثاني فالمراد به ما ذُكِرَ في قوله تعالى:(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]. (2)
الدليل الرابع: ما رُوي عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة؛ فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة.
رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب (3)، وابن مسعود (4) رضي الله عنهم، فدل على أنَّ مذهب الصحابة جواز المحو والإثبات في الشقاء والسعادة، فكذلك زيادة العمر ونقصانه. (5)
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته:
ذكر أصحاب المذهب الثاني - القائلون بمنع الزيادة - بعض الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته، منها:
الأول: إذا كان المحتوم واقعاً فما الذي يفيده زيادة المكتوب ونقصانه؟
وأجيب: بأن الأصل أن تُجرى المعاملات على الظاهر، وأما الخفي الباطن الذي لا يعلمه إلا الله فلا يعلق عليه حكم، فيجوز أن يكون المكتوب
(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 151)، وتنبيه الأفاضل، للشوكاني،
ص (20)، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 290).
(2)
انظر: تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 290).
(3)
سبق تخريجه في أثناء المسألة.
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 401)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 171).
(5)
انظر: تنبيه الأفاضل، للشوكاني ص (20).
يزيد وينقص، ويُمحى ويُثبت ليبَّلغَ ذلك على لسان الشرع إلى الآدمي، فبذلك يُعلم فضيلة البر وسوء العقوق، ويجوز أن يكون هذا مما يتعلق بالملائكة؛ فتؤمر بالإثبات والمحو، والعلم المحتوم لا يطلعون عليه، ومن هذا الباب إرسال الرسل إلى من علم الله أنهم لا يؤمنون. (1)
الاعتراض الثاني: أنَّ قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[الرعد: 39] معناه: يمحو ما يشاء من الشرائع، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه، وهو قوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[الرعد: 38] فأخبر تعالى أنَّ الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله تعالى، ثم قال:(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)) [الرعد: 38، 39] أي أنَّ الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ثم تُنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. (2)
وأجيب: بأن هذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص، وأيضاً فإن الشرائع والفرائض هي مثل العمر؛ فإذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات. (3)
الاعتراض الثالث: أنَّ قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)[فاطر: 11]، الضمير في قوله:(مِنْ عُمُرِهِ) هو بمنزلة قولهم عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، فيكون معنى الآية: وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمر آخر إلا في كتاب. (4)
وأجيب: بأن الأصل اتساق الضمائر، وعودها لمذكور واحد، فالضمير
(1) انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 186 - 187).
(2)
انظر: مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 152)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 152).
(3)
انظر: إرشاد ذوي العرفان، للكرمي، ص (53)، وتنبيه الأفاضل، ص (14)، وقطر الولي، كلاهما للشوكاني، ص (504).
(4)
انظر: مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 307 - 308)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 151)، وحاشية العطار (2/ 478).
في قوله: (مِنْ عُمُرِهِ) عائد على قوله: (مِنْ مُعَمَّرٍ)، وهذا ظاهر النظم الكريم، وأما التأويل الذي ذكرتم ففيه إرجاع الضمير لشيء ليس له ذكر في الآية، وهذا خلاف الأصل، وخلاف الظاهر. (1)
الاعتراض الرابع: أنَّ قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)[الأنعام: 2]، المراد بالأجل الأول أجل الحياة إلى الموت، والأجل الثاني أجل الموت إلى البعث، وقيل: الأجل الأول: أجل الدنيا، والثاني: الآخرة. (2)
وأجيب: بأن الآية محتملة لهذه الأقوال، وغيرها، والآية إذا كانت محتملة لعدة معانٍ لا تضاد بينها؛ فإنها تُحمل على الجميع، ولا يصح تخصيصها بمعنى دون غيره. (3)
المذهب الثاني: منع الزيادة في الأعمار.
وهذا مذهب عدد من العلماء، ونسبه بعضهم للجمهور. (4)
(1) انظر: تنبيه الأفاضل، ص (17)، وقطر الولي، ص (506)، كلاهما للشوكاني.
(2)
انظر هذه الأقوال وغيرها في النكت والعيون، للماوردي (2/ 93).
(3)
انظر: تنبيه الأفاضل، للشوكاني، ص (19)، وأصول في التفسير، لابن عثيمين، ص (34).
(4)
نسبه للجمهور: مرعي بن يوسف الكرمي، في كتابه "إرشاد ذوي العرفان"، ص (41)، وتبعه الشوكاني، في "تنبيه الأفاضل"، ص (12).
قلت: وفي نسبته للجمهور نظر؛ فإن هذا المذهب لم يقل به إلا عدد قليل من العلماء مقارنة بالمذهب الأول، والشوكاني إنما تبع مرعي بن يوسف في نسبته للجمهور، ولعل مرعي اعتقد ذلك بناء على ما فهمه من كلام ابن عطية، قال مرعي، ص (41 - 42):"ومنهم من قال: إن العمر لا يزيد ولا ينقص، وبه قال جمهور العلماء، وحكى ابن عطية في تفسير سورة الأعراف: أنه مذهب أهل السنة". اهـ
قلت: ليس في كلام ابن عطية ما يُفهم منه أنَّ ذلك هو مذهب أهل السنة، بل الذي يفهم من كلامه أنَّ حمل النصوص على الحقيقة هو مذهب أهل السنة، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (2/ 396):"وكأنه يظهر بين هذه الآية (يعني قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34]) وبين قوله تعالى: (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [إبراهيم: 10] تعارض؛ لأن تلك تقتضي الوعد بتأخيرٍ إن آمنوا، والوعيد بمعاجلةٍ إن كفروا، والحق مذهب أهل السنة: أنَّ كل أحدٍ إنما هو بأجلٍ واحد لا يتأخر عنه ولا يتقدم، وقوم نوح كان منهم من سبق في علم الله تعالى أنه يكفر فيُعاجل، وذلك هو أجله المحتوم، ومنهم من يؤمن فيتأخر إلى أجله المحتوم، وغُيّب عن نوح تعيين الطائفتين فندب الكل إلى طريق النجاة وهو يعلم أنَّ الطائفة إنما تُعاجل أو تؤخر بأجلها". اهـ
وأجاب أصحاب هذا المذهب عن الأحاديث بأنها محمولة على المجاز، لا الحقيقة، إلا أنهم اختلفوا في معنى "الزيادة" الواردة فيها على أقوال:
الأول: أنَّ الزيادة كناية عن البركة في العمر؛ بسبب توفيق صاحبه إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، فينال في قصير العمر ما يناله غيره في طويله. (1)
وهذا قول: أبي حاتم السجستاني (2)(3)، وابن حبان (4)، وابن التين (5).
واختاره: النووي (6)، والطيبي (7)(8).
القول الثاني: أنَّ الزيادة كناية عما يبقى بعد موته من الثناء الجميل، والذكر الحسن، والأجر المتكرر، حتى كأنه لم يمت.
حكى هذا القول القاضي عياض (9)، وهو مذهب أبي العباس القرطبي. (10)
القول الثالث: أنَّ معنى الزيادة في العمر: نفي الآفات عمن وصل رحمه، والزيادة في فهمه وعقله وبصيرته.
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 430)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي
(3/ 187)، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (9/ 140)، وروح المعاني، للآلوسي (4/ 396 - 397).
(2)
هو: سهل بن محمد بن عثمان، السجستاني ثم البصري، المقريء النحوي اللغوي، (ت: 255 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (12/ 268).
(3)
نقله عنه البغوي في شرح السنة (6/ 426).
(4)
صحيح ابن حبان (3/ 153).
(5)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 430).
(6)
صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 172).
(7)
هو: الحسين بن محمد بن عبد الله، شرف الدين الطيبي: من علماء الحديث والتفسير والبيان، من أهل توريز، من عراق العجم، كان شديد الرد على المبتدعة، ملازماً لتعليم الطلبة والإنفاق على ذوي الحاجة منهم، آية في استخراج الدقائق من الكتاب والسنة، من كتبه "التبيان في المعاني والبيان" و"الخلاصة في معرفة الحديث" و "شرح مشكاة المصابيح"، وغيرها (ت: 743هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (2/ 256).
(8)
شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (10/ 3160).
(9)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (8/ 21).
(10)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (6/ 528)، وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي
(16/ 173)، وتفسير القرطبي (9/ 216).
وهذا قول ابن فورك. (1)
القول الرابع: أنَّ المراد بالزيادة التوسعة في الرزق، والصحة في البدن، إذ إنَّ الغنى يُسمى حياةً، والفقر يُسمى موتاً.
ذكره ابن قتيبة. (2)
القول الخامس: أنَّ المراد بالزيادة ما يكون للواصل من ذرية صالحة يدعون له بعد موته.
ذكره الحافظ ابن حجر (3)، وهو اختيار: الشيخ حافظ حكمي (4).
وقد ورد في هذا المعنى حديث مرفوع، لكنه لا يصح، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال: "إن الله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، وإنما الزيادة في العمر أنْ يَرزقَ اللهُ العبدَ ذريةً صالحةً يدعون له؛ فيلحقه دعاؤهم في قبره". (5)
القول السادس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالحديث الحث على صلة الرحم بطريق المبالغة، ومعناه لو كان شيء يبسط الرزق والأجل لكان صلة الرحم.
(1) مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 306 - 307). وانظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 430).
(2)
تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (1/ 189). وانظر: مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 306)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 185 - 186).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (10/ 430).
(4)
معارج القبول، لحافظ حكمي (2/ 706).
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3174)، والطبراني في الأوسط (3/ 343)، وابن عدي في الكامل (3/ 285)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 134)، وابن حبان في المجروحين (1/ 331 - 332)، جميعهم من طريق سليمان بن عطاء، عن مسلمة بن عبد الله، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي، عن أبي الدرداء، به.
وهذا إسناد ضعيف؛ من أجل "سليمان بن عطاء بن قيس القرشي"؛ فإنه منكر الحديث، كما قال البخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم. انظر: التاريخ الصغير، للبخاري (2/ 292)، وتهذيب التهذيب، لابن حجر (4/ 184)، والجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 133). والحديث ضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 430)، والألباني في ضعيف الجامع، ص (242)، حديث (1671).
ذكره المناوي. (1)
أدلة هذا المذهب:
استدل القائلون بمنع الزيادة في الأعمار بأدلة منها:
الأول: ما ورد في الكتاب والسنة من أنَّ الآجال مقدرة، وأنها لا تزيد ولا تنقص.
أما الكتاب؛ فقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا (34)) [آل عمران: 145]، وقوله تعالى:(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]، وقوله تعالى:(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)) [المنافقون: 11]، وقوله تعالى:(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[نوح: 4].
قالوا: ففي هذه الآيات التصريح بأن الآجال مقدرة، وأنها لا تزيد ولا تنقص.
وأما السنة؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ". (2)
وعنه قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ". (3)
قالوا: فهذه أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءت مجيء الكتاب بأن لكل
(1) فيض القدير، للمناوي (6/ 34)، وانظر: رد المحتار، لابن عابدين (6/ 412).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب القدر، حديث (4815).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب بدء الخلق، حديث (3208)، ومسلم في صحيحه، في كتاب القدر، حديث (4781).
نفس أجلاً، لا يتقدم ولا يتأخر. (1)
الدليل الثاني: أنَّ الله تعالى أخبر أنه قسم الأرزاق بين عباده فقال: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)[الزخرف: 32]، وقال في الأجل:(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)) [الأعراف: 34]، ولم يُخبر أنَّ غيرَ الأجلِ والرزقِ بمنزلة الرزق والأجل، وقد أخبر أنه يزيد من يشاء في فضله، ولم يُخبر أنه يزيد من يشاء في رزقه، ويؤخر من يشاء في عمره. (2)
الدليل الثالث: أنَّ معنى الأثر في اللغة هو ما يتبع الشيء؛ فإذا أُخرَ حَسُنَ أن يُحملَ على الذكر الحسن، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَه"؛ فإنه محمول على الذكر الحسن، ومنه قول الخليل عليه السلام:(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)) [الشعراء: 84]، وقوله تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)[يس: 12].
وقال أبو تمام (3):
توفيت الآمال بعد محمد
…
وأصبح في شغل عن السفر السفر (4)
الدليل الرابع: قالوا: ومما يدل على أنَّ المراد بالزيادة الذكر الجميل: أنَّ أكثر الأحاديث التي فيها الزيادة وردت في الصدقة وصلة الرحم، وهما مما يترتب عليهما ثناء الناس، في الحياة وبعد الممات. (5)
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته:
وقد أجاب أصحاب المذهب الأول - القائلون بجواز الزيادة - على هذه الأدلة وعارضوا بعض التأويلات التي ذكروها فقالوا:
(1) انظر: مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 305 - 306)، وتنبيه الأفاضل، للشوكاني، ص (11 - 12).
(2)
انظر: مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 307).
(3)
لم أقف عليه في ديوان أبي تمام، والبيت في كتاب الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني (23/ 124).
(4)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 430)، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (9/ 140).
(5)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (4/ 396).
1 -
إنَّ ما ذكر من أنَّ المراد بالزيادة البركة في العمر، يُجاب عنه: بأن البركة أيضاً من جملة المقدرات، فإذا كان القدر مانعاً من الزيادة فليمنع من البركة في العمر والرزق كما منع من الزيادة فيهما، بل هذا القول يلزم منه مفسدتان:
الأولى: إيهام أنَّ البركة خرجت عن القدر، وهذا رديء جداً.
الثانية: أنه يقلل من الرغبة في صلة الرحم؛ فإذا قلنا لزيد: إنْ وصلت رحمك زادك الله تعالى في عمرك عشرين سنة، فإنه يجد من الوقع لذلك ما لا يجده عند قولنا: إنه لا يزيدك الله تعالى بذلك يوماً واحداً؛ بل يبارك لك في عمرك فقط، فيختل المعنى الذي قصده رسول صلى الله عليه وسلم من المبالغة في الحث على صلة الرحم، والترغيب فيها. (1)
2 -
وأما الآيات التي فيها أنَّ الأجل إذا جاء لا يتقدم ولا يتأخر؛ فإنها مختصة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدم ولا يتأخر عند حضوره.
يؤيد هذا: أنَّ أغلب الآيات جاءت مقيدة بالمجيء، قال تعالى:(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ) وقال: (إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)، فإذا حضر الأجل فإنه لا يتقدم ولا يتأخر، وأما قبل ذلك فيجوز أن يؤخره الله بالدعاء وصلة الرحم، ونحو ذلك. (2)
وقد روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: لما طُعِنَ عمرُ بن الخطاب قال كعب: لو أنَّ عمر دعا الله لأُخِّرَ في أجله، فقال الناس: سبحان الله. أليس قد قال الله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) فقال كعب: أو ليس قد قال الله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)[فاطر: 11] قال الزهري: فنرى أنَّ ذلك يؤخر ما لم يحضر الأجل، فإذا حضر لم يؤخر، وليس أحد إلا وله أجل مكتوب. (3)
(1) انظر: أنوار البروق، للقرافي (1/ 147 - 148)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/ 490)، وإرشاد ذوي العرفان، للكرمي، ص (53)، وتنبيه الأفاضل، للشوكاني، ص (13).
(2)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (4/ 396)، وتنبيه الأفاضل، ص (27)، وقطر الولي، ص (508)، كلاهما للشوكاني.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 137 - 138)، وأخرجه من طريقه ابن وهب في كتاب "القدر"(1/ 247).