الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث:
ظاهر الأحاديث أَنَّ ولد الزنا ملومٌ بفعل أبويه، وأنه بسبب زناهما صار هو شر الثلاثة، وأنه لا يدخل الجنة، وأنه لا خير فيه، وهذا الظاهر يُوهِمُ مُعارضة الآية، التي فيها أنَّ أحداً لا يَحْمِل من إثم غيره شيئاً، إلا أنْ يكون له فيه تسبب، وولد الزنا لا ذنب له في زنا أبويه، ولم يتسبب في زناهما، فكيف جاز أن يُلام ويُعاقب على فعلٍ ليس له فيه تسبب؟ (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث:
أولاً: مسالك العلماء في حديث: "وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ":
للعلماء في دفع التعارض بينه وبين الآية مسلكان:
الأول: مسلك قبول الحديث، وتأويله على معنىً لا يُعارض الآية.
وعلى هذا المسلك الجمهور من العلماء، وقد اختلفوا في تأويل الحديث على مذاهب:
الأول: أَنَّ هذا الشر ـ الذي يلحق ولد الزنا ـ إنما هو في حال إذا عمل الولد بعمل أبويه.
= به. وفي سنده زيد بن عياض ضعفه العقيلي، وأورده الحافظ ابن حجر في الميزان (2/ 509)، ونقل تضعيف العقيلي له، والحديث أورده السيوطي في اللآلئ (2/ 162 - 163)، وحكم بوضعه.
(1)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 366)، وصحيح ابن حبان
(8/ 177)، والفصول في الأصول، للجصاص (1/ 205)، والموضوعات، لابن الجوزي (3/ 111)، وفيض القدير، للمناوي (3/ 506)، وتذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الهندي (180)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (2/ 281، 285).
وهذا التأويل رُويَ من قول سفيان الثوري عند روايته للحديث (1)، وهو اختيار المناوي، والألباني. (2)
وأيَّد الألباني هذا التأويل بما رُويَ عن عائشة، وابن عباس، رضي الله عنهما، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ولد الزنا شر الثلاثة، إذا عمل بعمل أبويه". (3)
قال: "وهذا التفسير، وإنْ لم يثبت رفعه، فالأخذ به لا مناص منه؛ كي لا يتعارض الحديث مع النصوص القاطعة في الكتاب والسنة أَنَّ الإنسان لا يُؤاخذ بجرم
غيره". اهـ (4)
المذهب الثاني: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بكلامه هذا إنساناً بعينه، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع أذيته له ولد زنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو شر الثلاثة"، باعتبار أذاه.
وهذا التأويل جاء مرفوعاً من حديث عائشة رضي الله عنها، فعن عروة قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أَنَّ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة"،
(1) تقدم تخريجه في أول المسألة، وهو عند البيهقي في سننه (10/ 59).
(2)
انظر على الترتيب: فيض القدير، للمناوي (5/ 372)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (2/ 281).
(3)
حديث عائشة: أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 109)، قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا إسرائيل قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، عن عائشة، به.
وقد خولف أسود بن عامر، فرواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 58)، من طريق إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن إسحاق، عن محمد بن قيس، عن عائشة، به.
وهذا الاضطراب من إبراهيم بن إسحاق، وهو إبراهيم بن الفضل المخزومي، وهو متروك، كما في التقريب (1/ 55). وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (2/ 281).
وحديث ابن عباس: أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 91)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 58)، والطبراني في الكبير (10/ 285)، وفي الأوسط (7/ 210)، جميعهم من طريق ابن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، به.
والحديث في إسناده ابن أبي ليلى، وهو محمد بن عبد الرحمن، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 257):"سيئ الحفظ". وضعفه الألباني في الصحيحة (2/ 282).
(4)
سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (2/ 282).
فقالت: يرحم الله أبا هريرة، أساء سمعاً، فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنه مع ما به ولد زنا"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو شر الثلاثة". (1)
(1) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/ 367)، والحاكم في المستدرك (2/ 234)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 58)، كلاهما من طريق سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، به. واللفظ للطحاوي، ولفظ الحاكم: قالت عائشة: "لم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من يعذرني من فلان"، قيل: يا رسول الله، مع ما به ولد زنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو شر الثلاثة"، قالت عائشة: والله عز وجل يقول: (? ? ? ? ?) ".
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وتعقبه الذهبي بقوله:"كذا قال، وسلمة لم يحتج به مسلم، وقد وُثِّق، وضعفه ابن راهويه"، وقال البيهقي:"سلمة بن الفضل الأبرش يروي مناكير"، وضعف الحديثَ الألباني في الصحيحة (2/ 281) من أجل سلمة، ومن أجل عنعنة ابن إسحاق.
قلت: سلمة هو ابن الفضل الأبرش، الأنصاري مولاهم، أبو عبد الله الأزرق، وقد اختلف النقاد في توثيقه؛ فقال البخاري: عنده مناكير، وقال أبو زرعة: كان أهل الري لا يرغبون فيه، لمعان فيه، من سوء رأيه وظلم فيه، وقال أبو حاتم: محله الصدق، في حديثه إنكار، يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن معين: ثقة، سمعت جريراً يقول: ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق من سلمة، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقاً، وقال ابن عدي: عنده غرائب وأفراد، ولم أجد في حديثه حديثاً قد جاوز الحد في الإنكار، وأحاديثه متقاربة محتملة، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف، وقال الترمذي: كان إسحاق يتكلم فيه، وقال ابن عدي عن البخاري: ضعفه إسحاق، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، وذكر ابن خلفون أَنَّ أحمد سُئِل عنه فقال: لا أعلم فيه إلا خيراً. انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (4/ 135).
قلت: الأقرب في حاله أنه صدوق كثير الخطأ، كما قال الحافظ ابن حجر في ترجمته له في التقريب (1/ 308).
وقد توبع سلمةُ ومحمدُ بنُ إسحاق في إسناد هذا الحديث؛ فرواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده [كما في زوائد الهيثمي (2/ 565)]، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان، ثنا معمر بن أبان، ثنا الزهري، أَنَّ عروة بن الزبير أخبره عن عائشة، قيل لها: إن أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة"، فقالت عائشة: ليس كذا، إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقابل رجلاً شديد البأس، شديد العداوة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ولد زنا، فقال:"ولد الزنا شر الثلاثة"، يعني ذلك الرجل". =
واختار هذا التأويل: أبو جعفر الطحاوي، وأبو محمد ابن حزم. (1)
ولأبي جعفر تأويل آخر في معنى الحديث حيث قال: "يحتمل أنْ يكون المراد بالحديث هو من تحقق بالزنا حتى صار غالباً عليه، فيكون بذلك شراً ممن سواه، ممن ليس كذلك". اهـ (2)
وهذا التأويل ذكره أيضاً في الجواب على حديث: "لن يدخل الجنة ولد زنية"، وسيأتي.
المذهب الثالث: أَنَّ شر الأبوين عارض، وولد الزنا نطفته خبيثة، فشره في أصله، وشر الأبوين من فعلهما.
وهذا التأويل قال به ابن القيم؛ فإنه ذكر حديث: "لا يدخل الجنة ولد زنا"، ثم حكى قول ابن الجوزي: إنه مُعارض لآية: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[فاطر: 18] ثم قال ابن القيم: "وليس هو مُعارض لها ـ إنْ صح ـ فإنه
= إلا أَنَّ هذه المتابعة لا يعتدُّ بها؛ من أجل عبد العزيز بن أبان، فإنه متروك، وكذّبه ابن معين وغيره، كما في التقريب (1/ 470).
لكن جاء عن عائشة ما يؤيد رواية ابن إسحاق؛ فعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنها كانت إذا قيل لها: هو شر الثلاثة، عابت ذلك وقالت: ما عليه من وزر أبويه، قال الله:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ".
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 454)، عن معمر، وسفيان، كلاهما عن هشام، به.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 107)، عن عبدة، عن هشام، به.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 58)، من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن هشام، به.
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (24/ 136)، من طريق يزيد بن هارون، عن سفيان، عن هشام، به.
وهو صحيح بهذه الأسانيد، ورُويَ مرفوعاً ولا يصح، فأخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 269)، والحاكم في المستدرك (4/ 112)، كلاهما من طريق جعفر بن محمد بن جعفر المدائني، عن عباد بن العوام، عن سفيان، عن هشام، به. مرفوعاً.
وجعفر بن محمد مجهول، قال الطبراني:"لم يرفع هذا الحديث عن سفيان الثوري إلا عباد بن العوام، تفرد به جعفر بن محمد المدائني"، وقال البيهقي بعد أن رواه موقوفاً:"رفعه بعض الضعفاء، والصحيح موقوف"، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 257):"جعفر بن محمد بن جعفر المدائني لم أعرفه"، وكذا قال الألباني في الصحيحة (2/ 285).
(1)
انظر على الترتيب: مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 366)، والمحلى، لابن حزم (8/ 529).
(2)
مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 375).
لم يُحرم الجنة بفعل والديه، بل لأن النطفة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإنْ كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص.
قال: وقد ورد في ذمه أنه شر الثلاثة، وهو حديث حسن، ومعناه صحيح بهذا الاعتبار، فإنَّ شر الأبوين عارض، وهذا نطفة خبيثة، فشرُّه في أصله، وشرُّ الأبوين من فعلهما". اهـ (1)
ويرد على هذا القول: أَنَّ النطفة إنما خَبُثَتْ بفعل الأبوين، والولد المُتَخَلِّقِ منها
لا ذنب له في خُبثها، فكيف يكون خبيثاً وهو لم يقصد الخبث، ولم يتسبب فيه؟ وعليه فالإشكال باقٍ ولم يتمَّ دفعه.
المذهب الرابع: أَنَّ معنى الحديث أَنَّ ولد الزنا شر الثلاثة نسباً.
وهذا تأويل السرخسي حيث قال: "تأويل الحديث: (شر الثلاثة نسباً) فإنه لا نسب له، أو أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في ولد زنا بعينه نشأ مرتداً، فكان أخبث من أبويه.
قال: وذلك لأن لأولاد الزنا من الحرمة ما لسائر بني آدم، ولا ذنب لهم، وإنما الذنب لآبائهم، كما ذُكِرَ عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتأول في أولاد الزنا:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(2)[الأنعام: 164] ". اهـ (3)
المذهب الخامس: أَنَّ ولد الزنا إنما يُذم لأنه مظنة أنْ يعمل عملاً خبيثاً.
وهذا تأويل شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال:"ولد الزنا إنْ آمن وعمل صالحاً دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يُجازى غيره، والجزاء على الأعمال لا على النسب، وإنما يُذَمُّ ولد الزنا لأنه مَظِنَّة أنْ يعمل عملاً خبيثاً، كما يقع كثيراً، كما تُحمد الأنساب الفاضلة لأنها مَظِنَّة عمل الخير، فأما إذا ظهر العمل فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم". اهـ (4)
(1) المنار المنيف، لابن القيم (1/ 133).
(2)
تقدم تخريجه في أثناء المسألة.
(3)
المبسوط، للسرخسي (7/ 77 - 78)، (1/ 41).
(4)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 312).
المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث وعدم قبوله.
وهذا المسلك حكاه ابنُ عبد البر عن الإمام مالك. (1)
وإليه ذهب أبو بكر الجصاص في كتابه "أحكام القرآن"(2)؛ فإنه حكم على الحديث بالضعف، لشذوذه، ومخالفته للأصول، لكنه في كتابه "الفصول في الأصول"(3) ذهب إلى قبول الحديث مع تأويله، على نحوِ ما جاء في المذهب الثاني، حيث قال:"وأما حديث أبي هريرة ـ في ولد الزنا أنه شر الثلاثة ـ فإنما معناه عندنا أنه أشار به إلى أشخاص بأعيانهم، فحكم فيهم بهذا الحكم؛ لعلمه عليه السلام بأحوالهم التي يستحقون بها ذلك". اهـ
وممن ذهب إلى تضعيف الحديث: ابن الجوزي؛ فإنه أورده في العلل المتناهية (4)، وقال: لا يصح.
وقد جاء عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر، ما يدل على معارضتهما للحديث:
فعن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت إذا قيل لها في ولد الزنا: هو شر الثلاثة، عابت ذلك وقالت: ما عليه من وزر أبويه، قال الله:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ". (5).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال في ولد الزنا:"لو كان شر الثلاثة لم يُتَأنَّ بأمه أن تُرجم حتى تضعه". (6)
وعن ميمون بن مهران، أنه شهد ابن عمر صلى على ولد زنا فقيل له: إن أبا هريرة لم يُصلِّ عليه، وقال: هو شر الثلاثة. فقال ابن عمر: "هو
(1) انظر: الاستذكار، لابن عبد البر (23/ 174).
(2)
(3/ 404).
(3)
(1/ 207).
(4)
(2/ 769).
(5)
تقدم تخريجه في أثناء المسألة، وإسناده صحيح.
(6)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (24/ 135)، قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر قال: حدثنا ابن أبي دليم قال: حدثنا ابن وضاح قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران بن مقلاص قال: حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، به. وإسناده صحيح.
خير الثلاثة". (1)
ورُويَ نحو ذلك عن عكرمة (2)، والشعبي (3).
ثانياً: مسالك العلماء في حديث: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنْيَةٍ":
للعلماء في دفع التعارض بينه وبين الآية مسلكان:
الأول: مسلك قبول الحديث، وتأويله على معنىً لا يُعارض الآية.
وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في تأويل الحديث على مذاهب:
الأول: أَنَّ المراد بالحديث هو من تحقق بالزنا حتى صار غالباً عليه.
وهذا التأويل قال به أبو جعفر الطحاوي، وهو اختيار الألباني. (4)
قال الطحاوي ـ بعد أن ساق الحديث ـ: "هذا الحديث أُريد به من تحقق بالزنا حتى صار غالباً عليه، فاستحق بذلك أنْ يكون منسوباً إليه، فيُقال: هو ابن له، كما يُنسب المتحققون بالدنيا إليها، فيُقال لهم: بنو الدنيا، لعملهم لها، وتحققهم بها، وتركهم ما سواها، وكما قد قيل للمتحقق بالحذر: ابن أحذار، وللمتحقق بالكلام: ابن الأقوال، وكما قيل للمسافر: ابن سبيل، وكما قيل للمقطوعين عن أموالهم، لبعد المسافة بينهم وبينها: أبناء السبيل، كما قال تعالى في أصناف أهل الزكاة:(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)[التوبة: 60]، حتى ذكر فيهم ابن السبيل
…
، ومثل ذلك ابن زنية، قيل لمن قد تحقق بالزنا حتى صار بتحققه به منسوباً إليه، وصار الزنا غالباً عليه، أنه لا يدخل الجنة بهذه المكان التي فيه، ولم يُرِدْ به من كان ليس من ذوي الزنا الذي هو مولود
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/ 537)، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، عن ميمون بن مهران، به. وسنده ضعيف، من أجل أبي معشر، وهو: نجيح بن عبد الرحمن، ضعفه الحافظ ابن حجر في التقريب (2/ 303)، وأخرجه الطحاوي في المشكل (1/ 378)، من طريق أبي نعيم، عن أبي جعفر الرازي، عن يحيى البكاء، عن ابن عمر، به. ويحيى البكاء ضعيف، كما في التقريب (2/ 365 - 366).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 455).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 107).
(4)
انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (2/ 285).
من الزنا". اهـ (1)
المذهب الثاني: أَنَّ الحديث محمول على الغالب؛ فإن ولد الزنا في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثاً لا خير فيه، فلا يعمل عملاً يدخل به الجنة.
وهذا التأويل قال به ابن حبان، وهو اختيار الآلوسي. (2)
قال ابن حبان: "معنى نفي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ولد الزنية دخول الجنة ـ وولد الزنية ليس عليهم من أوزار آبائهم وأمهاتهم شيء ـ أَنَّ ولد الزنية على الأغلب يكون أجسر على ارتكاب المزجورات، أراد صلى الله عليه وسلم أَنَّ ولد الزنية لا يدخل الجنة، جنة يدخلها غير ذي الزنية، ممن لم تكثر جسارته على ارتكاب المزجورات". اهـ (3)
المذهب الثالث: أَنَّ المراد بالحديث: أَنَّ ولد الزنا لا يدخل الجنة إذا عمل بعمل أبويه.
وهذا التأويل قال به البيهقي (4)، والحافظ ابن حجر، فيما نقله عنه السخاوي. (5)
المذهب الرابع: أَنَّ المراد بالحديث: أنه لا يدخل الجنة مع السابقين الأولين.
وهذا التأويل قال به المناوي، قال:"وذلك لأنه يتعثر عليه اكتساب الفضائل الحسنة، ويتيسر له رذائل الأخلاق". اهـ (6)
المذهب الخامس: أَنَّ المراد بالحديث: أنه لا يدخل الجنة بعمل أصليه، بخلاف ولد الرشد؛ فإنه إذا مات طفلاً وأبواه مؤمنان أُلحق بهما، وبلغ درجتهما بصلاحهما، على ما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
(1) مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 372 - 373).
(2)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (29/ 44).
(3)
صحيح ابن حبان (8/ 177).
(4)
شعب الإيمان، للبيهقي (6/ 192).
(5)
المقاصد الحسنة، للسخاوي، ص (549)، وانظر: كشف الخفاء، للعجلوني (2/ 501).
(6)
فيض القدير، للمناوي (4/ 428).
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور: 21]، وولد الزنا لا يدخل بعمل أصليه، أما الزاني فنسبه منقطع، وأما الزانية فشؤم زناها ـ وإن صلحت ـ يمنع من وصول بركة صلاحها إليه.
وهذا التأويل قال به الطالقاني (1). (2)
المذهب السادس: أَنَّ الحديث فيه تغليظ وتشديد على ولد الزنية، تعريضاً بالزاني؛ لئلا يورطه في السفاح، فيكون سبباً لشقاوة نسمة بريئة.
وهذا التأويل قال به الطيبي، قال:"ومما يؤذن أنه تغليظ وتشديد: سلوك ولد الزنية في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر، ولا ارتياب أنهم ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبداً". اهـ (3)
المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث.
حيث ذهب جمعٌ من العلماء إلى أَنَّ الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فوصفه بالاضطراب الدارقطني (4)، وضعفه الحافظ ابن حجر (5)، وحكم عليه بالوضع: ابن الجوزي، والسيوطي، وابن عرَّاق (6)، وابن طاهر (7)، والعجلوني (8)، والشوكاني. (9)
ثالثاً: مسالك العلماء في حديث: "نَعْلَانِ أُجَاهِدُ بِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ وَلَدَ زِنًا".
هذا الحديث لم يصححه أحد من العلماء حسب ما وقفت عليه، وقد تأوله الطحاوي بعد روايته له، بأنه محمول على من تحقق بالزنا حتى صار
(1) هو: أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني، رضي الدين القزويني: واعظ، عالم بالحديث، من أهل قزوين مولداً ووفاة، أقام زمناً في بغداد، ودرس بالنظامية، وكان إماماً في فقه الشافعية، من مؤلفاته:(التبيان في مسائل القرآن) رد به على الحلولية والجهمية، و (تعريف الأصحاب سواء السبيل)، وغيرها، توفي سنة (590هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (21/ 190)، والأعلام، للزركلي
(1/ 96).
(2)
انظر: التدوين في أخبار قزوين، للرافعي (2/ 144)، وفيض القدير، للمناوي (4/ 428).
(3)
شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (7/ 213).
(4)
العلل، للدارقطني (9/ 102).
(5)
الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، لابن حجر (4/ 576).
(6)
هو: علي بن محمد بن علي بن عبد الرحمن بن عراق الكناني، نور الدين: فقيه، متصوف، له نظم، وفيه قوة على نقد الشعر. ولد في دمشق ورحل إلى الحجاز فتولى الإمامة بالمدينة وتوفي فيها. له:(تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة)، في الحديث، أتم تأليفه بمصر سنة (954هـ)، وأهداه إلى السلطان سليمان العثماني، توفي سنة (963هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (5/ 12).
(7)
هو: محمد بن طاهر الصديقي الهندي، الفتني، جمال الدين: عالم بالحديث ورجاله، كان يلقب بملك المحدثين، نسبته إلى فتن (من بلاد كجرات بالهند) ومولده ووفاته فيها، من كتبه (مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار)، و (تذكرة الموضوعات)، وغيرها، توفي سنة (986هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 172).
(8)
هو: إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي الجراحي العجلوني الدمشقي، أبو الفداء: محدث الشام في أيامه. مولده بعجلون ومنشأه ووفاته بدمشق. له كتب منها (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس)، و (الفيض الجاري في شرح صحيح البخاري)، وغيرها، توفي سنة (1162هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (1/ 325).
(9)
انظر على الترتيب: الموضوعات، لابن الجوزي (3/ 111)، واللآلئ المصنوعة، للسيوطي (2/ 163)، وتنزيه الشريعة، لابن عراق (2/ 228)، وكشف الخفاء، للعجلوني (2/ 452)، وتذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الهندي، ص (180)، والفوائد المجموعة، للشوكاني (1/ 204).