الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث:
ظاهِرُ الآية الكريمة أَنَّ الله تعالى هو الذي حرَّم مكة، وأما الحديث فظاهره أَنَّ إبراهيم عليه السلام هو الذي حرَّمها، وهذا يُوهِمُ التعارض بين الآية والحديث. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث:
للعلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث مسلكان:
الأول: مسلك الجمع بينهما:
وعلى هذا المسلك عامة العلماء من مفسرين ومحدثين، وقد اختلفوا في الجمع على مذاهب:
الأول: أَنَّ إضافة التحريم إلى الله تعالى من حيث كان بقضائه وسابق علمه، وإضافته إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته. (2)
وهذا مذهب: ابن جرير الطبري، والقاضي عياض، وابن عطية، وأبي العباس القرطبي، وابن جزي الكلبي، وأبي حيان، والحافظ ابن كثير، والعيني، والسيوطي، والزرقاني، والصنعاني، والشوكاني، والآلوسي. (3)
(1) انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 479)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 274)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (2/ 108)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (7/ 96)، وروح المعاني، للآلوسي (20/ 332).
(2)
انظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (4274).
(3)
انظر على الترتيب: تفسير الطبري (1/ 592)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 479)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (4/ 274)، والمفهم لما أشكل من =
قال ابن جزي: "نُسِبَ تحريمها إلى الله؛ لأنه بسبب قضائه وأمره، ونَسَبَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيمَ عليه السلام؛ لأنَّ إبراهيم هو الذي أعْلَمَ الناسَ بتحريمها؛ فليس بين الحديث والآية تعارض، وقد جاء في حديث آخر: أَنَّ مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض (1) ". اهـ (2)
وقال الآلوسي: "لا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل، وما في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة، وأنا حرمت المدينة"، من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام؛ لأنَّ ما هنا باعتبار أنه هو المُحرِّمُ في الحقيقة، وما في الحديث باعتبار أَنَّ إبراهيم عليه السلام مُظْهِرٌ لحكمه عز شأنه". اهـ (3)
المذهب الثاني: أَنَّ إبراهيم عليه السلام سأل ربه تحريم مكة فأجابه الله إلى ذلك، فإضافة التحريم إلى الله تعالى باعتبار أنه كان بإذنه، وإضافته إلى إبراهيم باعتبار أنه كان بسؤاله وطلبه.
وهذا مذهب: أبي الوليد الباجي، والقاضي عياض في وجه آخر له في الجمع. (4)
والفرق بين هذا القول والذي قبله: أَنَّ هذا القول فيه أَنَّ مكة لم تُحرَّم إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه في تحريمها، وأما القول الأول ففيه أَنَّ حُرْمَة مكة لم تزل مُنذ أنْ خلق الله السماوات والأرض.
= تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 474)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (2/ 18)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (7/ 96)، وتفسير ابن كثير (1/ 179)، وعمدة القاري، للعيني (2/ 145) و (9/ 224)، وشرح سنن النسائي، للسيوطي (5/ 203)، وشرح موطأ مالك، للزرقاني (4/ 282)، وسبل السلام، للصنعاني (2/ 197)، وفتح القدير، للشوكاني (1/ 222)، وروح المعاني، للآلوسي (20/ 332).
(1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
…
". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1833).
(2)
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (2/ 108).
(3)
روح المعاني، للآلوسي (20/ 332).
(4)
انظر على الترتيب: المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (7/ 192)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 479).
المذهب الثالث: أَنَّ إبراهيم اجتهد في تحريم مكة؛ فأُضيف إليه التحريم؛ لأنه كان باجتهاده، وأُضيف إلى الله تعالى؛ لأنه أقَرَّ إبراهيمَ على اجتهاده.
ذكر هذا الجواب: أبو الوليد الباجي، والقاضي عياض. (1)
المسلك الثاني: مسلك الترجيح:
حيث ذهب الإمام ابن عبد البر إلى تضعيف الحديث الوارد في المسألة؛ لأنه من رواية عمرو بن أبي عمرو (2)، عن أنس.
قال: "وعمرو بن أبي عمرو ليس بذاك القوي عند بعضهم".
قال: "وفي حديث مالك وغيره، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنَّ إبراهيم دعاك لمكة" (3)، قال: وهذا أولى من رواية من روى: "إنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ"، وقد ثبت بالآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ الله حرَّمها ولم يُحَرِّمْها الناس" (4)، و "أنها بلد حرام، حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض" (5)، وهذا مشهور صحيح عند أهل الأثر، وجماعة أهل السير، فلا وجه لِما خالفه من الرواية، على أنها ليست بالقوية، ولو صحت لكان معناها: أَنَّ إبراهيم أعْلَمَ بتحريم مكة، وعُلِمَ أنها حرام بإخباره؛ فكأنه حرَّمها؛ إذ لم يُعْرَف تحريمها أولاً في زمانه إلا على لسانه". اهـ (6)
(1) انظر: المصادر السابقة.
(2)
هو عمرو بن أبي عمرو، اسمه ميسرة، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، أبو عثمان المدني، قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس. وقال الدوري عن ابن معين: في حديثه ضعف، ليس بالقوي. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال البخاري: روى عن عكرمة في قصة البهيمة، فلا أدري سمع أم لا؟ قال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: ليس هو بذاك، حدث عنه مالك بحديثين، روى عن عكرمة عن ابن عباس: من أتى بهيمة فاقتلوه. وقد روى عاصم عن أبي زرعة عن ابن عباس: ليس على من أتى بهيمة حد. وقال النسائي: ليس بالقوي: وقال ابن عدي: لا بأس به؛ لأن مالكاً يروي عنه، ولا يروي مالك إلا عن صدوقٍ ثقةٍ. وقال عثمان الدارمي - في حديث رواه في الأطعمة -: هذا الحديث فيه ضعف؛ من أجل عمرو بن أبي عمرو. وقال ابن حبان في الثقات: ربما أخطأ، يعتبر حديثه من رواية الثقات عنه. وقال العجلي: ثقة ينكر عليه حديث البهيمة. وقال الساجي: صدوق إلا أنه يهم. وكذا قال الأزدي. وقال الذهبي: حديثه حسن، منحط عن الرتبة العلياء من الصحيح. انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (8/ 82).
(3)
موطأ الإمام مالك، كتاب الجامع، حديث (1637)، ومن طريق مالك أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1373).
(4)
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1832).
(5)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ -: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا؛ فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَه اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1834).
(6)
الأجوبة عن المسائل المستغربة، لابن عبد البر، ص (97 - 100)، وانظر: الاستذكار (12/ 9 - 10).