الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث:
ظاهر الآية الكريمة أَنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ أحداً بوزر غيره، وأما الحديث الشريف ففيه أنَّ الميت يُعذب ببكاء أهله عليه، وهذا يُوهِمُ مُعارضة الآية؛ لأن بكاء أهله عليه ليس من فعله. (1)
قال الشنقيطي: يَرِدُ على هذه الآية الكريمة سؤال: وهو ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، من أَنَّ الميت يُعذب ببكاء أهله عليه، فيقال: ما وجه تعذيبه ببكاء غيره؟ إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره. اهـ (2)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث:
أجمع العلماء على أَنَّ المراد بالبكاء في الحديث هو الذي يكون بصوتٍ وندبٍ ونياحة، وأما مجرد دمع العين فلا يدخل في الحديث، وقد حكى الإجماع النووي رحمه الله. (3)
ومستند الإجماع قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ
= البكاء؛ فيحمل على ما فيه نياحة جمعاً بين الأحاديث". اهـ من عمدة القاري (8/ 78).
(1)
انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (227)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (3/ 79)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي
(1/ 55)، ومفاتيح الغيب، للرازي (20/ 137 - 138)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 580)، وتفسير القرطبي (10/ 151)، واللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي
(12/ 229)، وسبل السلام، للصنعاني (2/ 238)، ونيل الأوطار، للشوكاني (4/ 125)، وروح المعاني، للآلوسي (15/ 47).
(2)
أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 470)، بتصرف.
(3)
انظر: المجموع (5/ 283)، وشرح صحيح مسلم (6/ 325)، كلاهما للنووي.
الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". (1)
ولا إشكال في مؤاخذة الحي بالندب والنياحة؛ لأنَّ ذلك أمر منهي عنه (2)، وإنما الإشكال في مؤاخذة الميت بذلك. (3)
وقد اختلف العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث على مسلكين:
الأول: مسلك الجمع بين الآية والحديث:
وعلى هذا المسلك عامة العلماء، من محدثين، ومفسرين، وفقهاء؛ إلا أنهم اختلفوا في الجمع على مذاهب:
الأول: حمل الأحاديث الواردة في المسألة على ظاهرها، وتأويل الآية.
ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ الميتَ يُعذَّبُ بمجرد بكاء أهله عليه، وإن لم يكن له تسبب في ذلك.
وهذا مذهب: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، رضي الله عنهما. (4)
أما مذهب عمر رضي الله عنه، فيدل عليه قصته مع صهيب، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ (5) إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1304)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (924).
(2)
وردت عدة أحاديث في تحريم النياحة على الميت، منها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ". أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (67).
وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1294)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (103).
(3)
انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (1/ 55).
(4)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (3/ 183)، وشرح الصدور، للسيوطي، ص (283).
(5)
البيداء: المفازة التي لا شيء بها، وقد تكرر ذكرها في عدة أحاديث، ويراد بها اسم موضع مخصوص، وهو ذو الحليفة بالقرب من المدينة على طريق مكة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 171).
ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". (1)
قال الحافظ ابن حجر: "ويُحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه كان يرى أَنَّ المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادراً على النهي ولم يقع منه؛ فلذلك بادر إلى نهي صهيب، وكذلك نهى حفصة، كما رواه مسلم (2) من طريق نافع عن ابن عمر عنه". اهـ (3)
وأما مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنه فيدل عليه: أنه شهد جنازة رافع بن خديج وقام النساء يبكين على رافع فأجلسهن مراراً ثم قال لهن: "ويحكن إنَّ رافع بن خديج شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإنَّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه". (4)
(1) سبق تخريجه في أول المسألة.
(2)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(3)
فتح الباري، لابن حجر (3/ 183).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/ 556)، والطبراني في الكبير (4/ 240)، وابن عدي في الكامل (2/ 9)، والبغدادي في تاريخه (5/ 251)، جميعهم من طريق بشر بن حرب، أبي عمرو الندبي قال: سمعت ابن عمر يقول: .... ، فذكره.
و"بشر بن حرب" هو: أبو عمرو الندبي، البصري، والندب حي من الأزد، وقد ضعفه علي بن المديني، ويحيى، والنسائي، وقال أحمد: ليس بالقوي، وقال ابن خراش: متروك، وكان حماد بن زيد يمدحه، وقال محمد بن أبي شيبة: سألت ابن المديني عنه فقال: كان ثقة عندنا، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي، لا أعرف له حديثاً منكراً. انظر: الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي (2/ 9).
وقد تُوبِعَ بشر في هذه الرواية؛ فأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 72)، وأبو عوانة [كما في فتح الباري، لابن حجر (3/ 190)] كلاهما من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، أن عبد الله بن عمر لما مات رافع بن خديج قال لهم:"لا تبكوا عليه؛ فإن بكاء الحي عذاب للميت".
ورجال إسناده ثقات؛ إلا أن فيه انقطاع بين أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عمر.
وأخرج نحوه الإمام أحمد في مسنده (2/ 135)، حديث (6195) قال: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو شُعْبَةَ الطَّحَّانُ جَارُ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: كُنْتُ =
واختار هذا المذهب:
الأُبِّيّ (1)، والشوكاني، وابن باز، رحمهم الله. (2)
واستدلوا له:
1 -
بأنَّ لله تعالى أن يتصرف في خلقه كما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل سبحانه. (3)
2 -
أَنَّ الله تعالى أخبر بأنه قد يُعذب في الدنيا من لا ذنب له، بسبب ذنب غيره، كما في قوله تعالى:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25]، يريد أنها تعم فتُصيب الظالم وغيره، وقال تعالى:(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)) [الروم: 41]، وقالت زينب بنت جحش رضي الله عنها: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ"(4)، وقد أغرق الله تعالى أمة نوح عليه السلام كلها، وفيهم الأطفال والبهائم، وذلك بذنوب البالغين، وأهلك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصاعقة، وقوم لوط بالحجارة، ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير، وعذب بعذابهم الأطفال، وإذ الأمر كذلك فإن حال البرزخ تُلْحَقُ بحال الدنيا، فيجوز التعذيب فيها بسبب ذنب الغير، كما
= مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي جَنَازَةٍ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانٍ يَصِيحُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَأَسْكَتَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لِمَ أَسْكَتَّهُ؟ قَالَ: إِنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَيِّتُ حَتَّى يُدْخَلَ قَبْرَهُ".
وفي إسناده: "أبو شعبة الطحان" قال الدارقطني: متروك. و"أبو الربيع" قال الدارقطني: مجهول. انظر: المغني في الضعفاء، للذهبي (2/ 784، 790)، ولسان الميزان، لابن حجر (7/ 47، 63)، وتعجيل المنفعة، لابن حجر (1/ 484، 493).
والأثر أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 15) وقال: "رواه أحمد، وأبو الربيع قال فيه الدارقطني: مجهول". وأورده في (3/ 16) وقال: "رواه أحمد، وفيه أبو شعبة الطحان، وهو متروك".
(1)
هو: محمد بن خليفة بن عمر الأُبِّيّ، الوشتاني المالكي: عالم بالحديث، من أهل تونس. نسبته إلى (أبة) من قراها. ولي قضاء الجزيرة، سنة 808 هـ. له (إكمال إكمال المعلم، بفوائد كتاب مسلم) سبعة أجزاء، في شرح صحيح مسلم، جمع فيه بين شرح المازري، والقاضي عياض، والقرطبي، والنووي، مع زيادات من كلام شيخه ابن عرفة، مات بتونس، سنة 827 هـ. انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 115).
(2)
انظر: إكمال إكمال المعلم، للأبي (3/ 325)، ونيل الأوطار، للشوكاني (4/ 127 - 128)، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (13/ 417).
(3)
انظر: المغني، لابن قدامة (2/ 214).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب أحاديث الأنبياء، حديث (3346)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الفتن، حديث (2880).
في الدنيا. (1)
وأجاب أصحاب هذا المذهب عن الآية:
بأنها عامة، والحديث مُخصص لعمومها، والسنة تُخصص عموم القرآن على الصحيح. (2)
قال الشوكاني: "وأنت خبير بأنَّ الآية عامة; لأن الوِزْرَ المذكور فيها واقع في سياق النفي، والأحاديث المذكورة مشتملة على وِزْرٍ خاص، وتخصيص العمومات القرآنية بالأحاديث الأحادية هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور (3)،
فلا وجه لما وقع من رد الأحاديث بهذا العموم، ولا ملجأ إلى تجشم المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية .... ، والأحاديث التي ذُكِرَ فيها تعذيبٌ مختصٌ بالبرزخ، أو بالتألم، أو بالاستعبار - كما في حديث قيلة (4)(5) - لا تدل على اختصاص التعذيب المطلق في الأحاديث بنوع منها; لأن التنصيص على ثبوت الحكم لشيء بدون مشعر بالاختصاص به لا ينافي ثبوته لغيره، فلا إشكال من هذه الحيثية، وإنما الإشكال في التعذيب بلا ذنب، وهو مخالف لعدل الله وحكمته، على فرض عدم حصول سبب من الأسباب التي يحسن عندها في مقتضى الحكمة، كالوصية من الميت بالنوح، وإهمال نهيهم عنه، والرضا به، وهذا يئول إلى مسألة التحسين والتقبيح والخلاف فيها بين طوائف المتكلمين معروف (6)،
(1) انظر: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (231 - 232)، وسبل السلام، للصنعاني (2/ 238).
(2)
انظر: إكمال إكمال المعلم، للأبي (3/ 325).
(3)
مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء، من متكلمين وفقهاء: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وهناك أقوال أخرى في المسألة، انظرها في: التمهيد، لأبي الخطاب (2/ 106)، والمستصفى، للغزالي (2/ 114)، والمحصول، للرازي (1/ 121)، والإحكام، للآمدي (2/ 322)، وروضة الناظر، لابن قدامة (2/ 728).
(4)
هي: قَيْلة بِنْت مَخْرَمة الغَنَوِيّة، وقيل العنزية، وقيل العنبرية، وهو الصحيح، والعنبر من تميم، هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع حريث بن حسان وافد بني بكر بن وائل. انظر: أسد الغابة، لابن الأثير (5/ 382)، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر (8/ 83).
(5)
سيأتي تخريجه.
(6)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في مجموع الفتاوى (8/ 428): "وأما مسألة تحسين العقل وتقبيحه ففيها نزاع مشهور بين أهل السنة والجماعة من الطوائف الأربعة وغيرهم؛ فالحنفية وكثير من المالكية والشافعية والحنبلية يقولون بتحسين العقل =
ونقول: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أَنَّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فسمعنا وأطعنا، ولا نزيد على هذا". اهـ (1)
وكذا قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لما سُئِلَ عن الجمع بين الآية والأحاديث، فأجاب:"ليس هناك تعارض بين الأحاديث والآية .... ، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، ومن حديث المغيرة وغيرهما في الصحيحين، وليس في البخاري وحده، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يعذب بما يناح عليه"، وفي رواية للبخاري: "ببكاء أهله عليه" .... ، والرسول صلى الله عليه وسلم قصد بهذا منع الناس من النياحة على موتاهم، وأن يتحلوا بالصبر ويكفوا عن النوح .... ، فالميت يعذب بالنياحة عليه من أهله، والله أعلم بكيفية العذاب الذي يحصل له بهذه النياحة، وهذا مستثنى من قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]؛ فإنَّ القرآن والسنة لا يتعارضان، بل يصدق أحدهما الآخر، ويفسر أحدهما الآخر؛ فالآية عامة والحديث خاص، والسنة تفسر القرآن وتبين معناه؛ فيكون تعذيب الميت بنياحة أهله عليه مستثنى من الآية الكريمة، ولا تعارض بينها وبين الأحاديث". اهـ (2)
ولابن قتيبة رأيان في المسألة:
الأول: موافقة عائشة رضي الله عنها، كما سيأتي.
والثاني: أَنَّ الآية خاصة في أحكام الدنيا.
قال ابن قتيبة: "وأما قولهم كيف يُعذَّب الميتُ ببكاء الحي، والله تعالى يقول:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)؟ فإنا أيضاً نظن أَنَّ التعذيب للكافر ببكاء أهله عليه، وكذلك قال ابن عباس (3) إنه مرَّ بقبر يهودي فقال: إنه يعذب وإن أهله ليبكون عليه؛ فإن كان كذلك فهذا مالا يُوحِش؛ لأن الكافر يُعذب على كل
= وتقبيحه، وهو قول الكرامية والمعتزلة، وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين، واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، وكثير من الشافعية والمالكية والحنبلية ينفون ذلك، وهو قول الأشعرية".
(1)
نيل الأوطار، للشوكاني (4/ 127 - 128).
(2)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (13/ 417 - 419).
(3)
كذا في الأصل، والصواب عائشة رضي الله عنها.
حال، وإن كان أراد المسلم المقصر؛ فإن قول الله عز وجل:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إنما هو في أحكام الدنيا، وكان أهل الجاهلية يطلبون بثأر القتيل فيقتل أحدهم أخاه أو أباه أو ذا رحم به، فإذا لم يقدر على أحد من عصبته ولا ذوي الرحم به قتل رجلاً من عشيرته، فأنزل الله تبارك وتعالى:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(1)، وأخبرنا أيضاً أنه مما أنزل على إبراهيم عليه السلام (2)، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل رأى معه ابنه:"لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ"(3) ". اهـ (4)
وذهب الكرماني إلى أَنَّ الآية خاصة في أحكام الآخرة؛ إذ المراد بها الإخبار عن حال الآخرة، وأما الحديث ففيه الإخبار عن حال البرزخ، وحال البرزخ تلحق بأحوال الدنيا، والتي يجوز فيها التعذيب بذنب الغير، وعليه فلا يكون هناك تعارض بين الآية والحديث. (5)
وأجاب أصحاب هذا المذهب عن حديث عائشة رضي الله عنها، والذي فيه تخصيص ذلك بالكافر:
فقال الشوكاني: "وأما ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذلك في الكافر أو في يهودية معينة" فهو غير مناف لرواية غيرها من الصحابة; لأن روايتهم مشتملة على زيادة، والتنصيص على بعض أفراد العام لا يوجب نفي الحكم عن بقية الأفراد، لما تقرر في الأصول من عدم صحة التخصيص
(1) أخرج ابن جرير في تفسيره (11/ 532)، عن ابن عباس رضي الله عنها في تفسير قوله تعالى:(وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)) [النجم: 37]- قال: "كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي، حتى كان إبراهيم فبلَّغَ: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38))، لا يؤخذ أحد بذنب غيره".
(2)
وذلك في قوله تعالى: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)) [النجم: 38].
(3)
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الترجل، حديث (4208)، والنسائي في سننه، في كتاب القسامة، حديث (4832)، وابن ماجة في سننه، في كتاب الديات، حديث (2671). وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 281)، حديث (1317).
(4)
تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (231 - 232)
(5)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 185)، وانظر: سبل السلام، للصنعاني (2/ 238).
بموافق العام". اهـ (1)
وقال سماحة الشيخ ابن باز: "وأما قول عائشة رضي الله عنها فهذا من اجتهادها وحرصها على الخير، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على قولها وقول غيرها لقول الله سبحانه: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى: 10] وقوله عز وجل: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59] والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله الموفق". اهـ (2)
المذهب الثاني: حمل الآية على ظاهرها وتأويل الأحاديث.
وهذا مذهب الجمهور من العلماء حيث ذهبوا إلى تأويل الأحاديث الواردة في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، لما فيها من مخالفة لعمومات القرآن، وإثباتها لتعذيب من لا ذنب له، لكن اختلفوا في التأويل على أقوال:
الأول: أَنَّ الباء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ببكاء أهله" هي للحال، والمعنى: أَنَّ مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أَنَّ شدة بكائهم غالباً إنما تقع عند دفنه، وهو في تلك الحالة يُسْأل، ويبتدئ به عذاب القبر، فكأن معنى الحديث: أَنَّ الميت يعذب حال بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سبباً لتعذيبه. (3)
حكى هذا القول: الخطابي، والمازري، وابن الجوزي. (4)
الإيرادات والاعتراضات على هذا القول:
قال الحافظ ابن حجر: "ولا يخفى ما في هذا القول من التكلف، ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة رضي الله عنها: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ" (5)، وعلى هذا يكون خاصاً ببعض
(1) نيل الأوطار، للشوكاني (4/ 128).
(2)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (13/ 417 - 419).
(3)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (3/ 183).
(4)
انظر: معالم السنن، للخطابي (1/ 264)، والمعلم بفوائد مسلم، للمازري (1/ 324)، وكشف المشكل، لابن الجوزي (1/ 58).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (3979)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (932).
الموتى". اهـ (1)
وضعفه الطيبي بناء على رواية: "ببكاء الحي": ورواية: "يعذب في قبره بما نيح عليه"، حيث يرى أَنَّ هاتين الروايتين تردان القول بأن الباء للحال. (2)
وقال ابن القيم: "وهذا المسلك باطل قطعاً؛ فإنه ليس كل ميت يعذب، ولأن هذا اللفظ لا يدل إلا على السببية كما فهمه أعظم الناس فهماً؛ ولهذا ردته عائشة لما فهمت منه السببية؛ ولأن اللفظ الآخر الصحيح الذي رواه المغيرة (3) يُبطل هذا التأويل؛ ولأن الإخبار بمقارنة عذاب الميت المستحق للعذاب لبكاء أهله لا فائدة فيه". اهـ (4)
القول الثاني: أَنَّ اللام في قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ" هي لمعهود معين، وهي يهودية مَرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث، والراوي سمع بعض الحديث، ولم يسمع بعضه الآخر.
وهذا هو الظاهر من رواية عمرة (5)،
وعروة (6)، عن عائشة رضي الله عنها.
(1) فتح الباري، لابن حجر (3/ 183).
(2)
انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (3/ 412).
(3)
لفظ حديث المغيرة رضي الله عنه: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". وقد تقدم في أول المسألة.
(4)
حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (8/ 279).
(5)
عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ - فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ:"إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا".
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1289)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (27) - (932)، واللفظ لمسلم.
(6)
عن أبي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ"، فَقَالَتْ: وَهَلَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ".
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (3979)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (26) - (932)، واللفظ للبخاري.
وهو اختيار: القاضي أبي بكر الباقلاني (1)(2)، والخطابي - في أحد قوليه (3).
واحتجوا له: بأن حديث عمر بن الخطاب، وابنه، مجمل، وحديث عائشة مُفَسَّر، والمفسر مقدم على المجمل. (4)
القول الثالث: أَنَّ التعذيب المذكور في الحديث مختص بالكافر؛ فإن الله يزيده عذاباً ببكاء أهله عليه، وأما المؤمن فلا يعذب بذنب غيره أبداً.
قال الحافظ ابن حجر: "وهو بين من رواية ابن عباس عن عائشة". (5)
قلت: رواية ابن عباس أخرجها البخاري (6)، ومسلم (7)، من طريق عبد الله بن عبيدالله بن أبي مُلَيْكَةَ قال:"تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلَا تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ".
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ
= وعَنْ حَمَّادٍ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ:"أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ".
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (25) - (931).
(1)
هو: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر: قاضٍ، من كبار علماء الكلام. انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة. ولد في البصرة، وسكن بغداد فتوفي فيها. كان جيد الاستنباط، سريع الجواب. وجهه عضد الدولة سفيراً عنه إلى ملك الروم، فجرت له في القسطنطينية مناظرات مع علماء النصرانية بين يدي ملكها. من كتبه (إعجاز القرآن) و (الانتصار للقرآن) وغيرها، (ت: 403 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 176).
(2)
نقله عنه الحافظ ابن حجر، في فتح الباري (3/ 184).
(3)
معالم السنن، للخطابي (1/ 264).
(4)
انظر: معالم السنن، للخطابي (1/ 462)، وكشف المشكل، لابن الجوزي (1/ 56).
(5)
فتح الباري، لابن حجر (3/ 184).
(6)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، حديث (1286) و (1287) و (1288)، واللفظ له.
(7)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، حديث (928).
فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما شَيْئًا". (1)
وقد ذهب الإمام الشافعي إلى تصويب عائشة رضي الله عنها فيما ذهبت إليه، حيث قال: "وما روت عائشة عن رسول الله أشبه أن يكون محفوظاً عنه صلى الله عليه وسلم، بدلالة الكتاب ثم السنة. فإن قيل: فأين دلالة الكتاب؟ قيل: في قوله عز وجل: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، و (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، وقوله:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) [الزلزلة: 7 - 8]، وقوله:(لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)[طه: 15].
قال الشافعي: وعمرة أحفظ عن عائشة من ابن أبي مليكة، وحديثها أشبه الحديثين أن يكون محفوظاً؛ فإن كان الحديث على غير ما روى ابن أبي مليكة من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها" فهو
(1) قال أبو العباس القرطبي: "سكوت ابن عمر عن عائشة حين قالت ما قالت ليس لشّكه فيما رواه، لا هو ولا أبوه عمر رضي الله عنهما؛ فإنهما قد صرحا برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان - والله تعالى أعلم - لأنه ظهر له أن الحديث قابل للتأويل، ولم يتعين له محمل، أو سكت محترماً لها عن أن يراجعها في ذلك المجلس، وفي ذلك الوقت، وأخَّر ذلك لوقت آخر، مع أنه لم تُرْهِقْ إليه في ذلك الوقت حاجة يعتد بها، والله تعالى أعلم". اهـ من المفهم (2/ 583 - 584).
وقال الأُبِّيّ: "فإن قلت: سكوت ابن عمر وعدم قوله شيئاً هو تسليم منه لما ذَكَرَتْ. قلت: لا يتعين أن يكون تسليماً؛ لاحتمال أن يكون مذهبه أن السنة لا تخصص القرآن". اهـ من إكمال إكمال المعلم (3/ 326).
واضح لا يحتاج إلى تفسير؛ لأنها تعذب بالكفر، وهؤلاء يبكون ولا يدرون ما هي فيه، وإن كان الحديث كما رواه ابن أبي مليكة فهو صحيح؛ لأن على الكافر عذاباً أعلى، فإن عذب بدونه فزيد في عذابه فيما استوجب وما نيل من كافر من عذاب أدنى من أعلى منه، وما زيد عليه من العذاب فباستيجابه لا بذنب غيره في بكائه عليه.
فإن قيل: يزيده عذاباً ببكاء أهله عليه؟ قيل: يزيده بما استوجب بعمله ويكون بكاؤهم سبباً، لا أنه يُعذب ببكائهم.
فإن قيل: أين دلالة السنة؟ قيل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "ابنك هذا؟ قال: نعم. قال: "أَمَا إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ" (1)، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعلم الله من أَنَّ جناية كل امرئ عليه كما عمله له لا لغيره ولا عليه". اهـ (2)
وذكر ابن عبد البر أَنَّ ما ذهب إليه الشافعي هو تحصيل مذهب الإمام مالك؛ لأن مالكاً ذكر حديث عائشة في موطئه (3)، ولم يذكر خلافه عن أحد. (4)
الإيرادات والاعتراضات على مذهب عائشة رضي الله عنها:
إن المتأمل في الروايات الواردة عن عائشة رضي الله عنها يلحظ فيها شيئاً من الاختلاف، فهي مرة تؤول الحديث بأنه حكاية حال عن امرأة يهودية تُعذب في قبرها، ومرة تذكر بأنه يهودي وليست يهودية، ومرة أخرى تؤول الحديث بأن الكافر يزيده الله عذاباً ببكاء أهله عليه، وهي في كل ذلك ترفع هذه التأويلات للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكلم العلماء على مذهب عائشة وما أوردته من تأويلات:
فقال الحافظ ابن حجر: "وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه
(1) سبق تخريجه، ص (153).
(2)
الأم، للشافعي (8/ 649)، وانظر: اختلاف الحديث (1/ 537).
(3)
انظر: الموطأ، كتاب الجنائز، حديث (553).
(4)
التمهيد، لابن عبد البر (17/ 279)، وانظر: الاستذكار (8/ 321 - 322).
إشعار بأنها لم تَرُد الحديثَ بحديثٍ آخر؛ بل بما استشعرته من معارضة القرآن". اهـ (1)
وقال الداوودي (2):
"رواية ابن عباس عن عائشة أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أَنَّ الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء". اهـ (3)
وقال ابن الجوزي: "وهذا الجواب لا أعتمد عليه لثلاثة أوجه:
أحدها: أَنَّ ما روته عائشة حديث وهذا حديث، ولا تناقض بينهما، بل لكل واحد منهما حكمه.
والثاني: أنها أنكرت برأيها وقالت بظنها، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صح لا يلتفت معه إلى رأي.
والثالث: أَنَّ ما ذكرته لم يُحْفَظْ إلا عنها، وذلك الحديث محفوظ عن عمر، وابن عمر، والمغيرة، وهم أولى بالضبط منها". اهـ (4)
وقال أبو العباس القرطبي - بعد أن أورد إنكار عائشة رضي الله عنها: "وهذا فيه نظر؛ أما إنكارها ونسبة الخطأ لراويه فبعيد، وغير بيّن ولا واضح، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أَنَّ الرواة لهذا المعنى كثير؛ عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، وإذا أُقْدِمَ على ردِّ خبر جماعة مثل هؤلاء - مع إمكان حمله على محمل الصحيح - فلأن يُرَدَّ خبر راوٍ واحد أولى، فرد خبرها أولى، على أَنَّ الصحيح: ألا يرد واحد من تلك الأخبار، وينظر في معانيها كما نبينه.
وثانيهما: أنه لا معارضة بين ما روتْ هي، ولا ما رَوَوْا هم؛ إذ كل واحد منهم أخبر عما سمع وشاهد، وهما واقعتان مختلفتان.
وأما استدلالها على رد ذلك بقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)
(1) فتح الباري، لابن حجر (3/ 184).
(2)
هو: عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ الداوودي، البوشنجي، أبو الحسن، الإمام العلامة، مسند وقته، قال الذهبي:"سمع الصحيح، ومسند عبد بن حميد وتفسيره، ومسند أبي محمد الدارمي من أبي محمد بن حمّويه السرخسي ببوشنج، وتفرد في الدنيا بعلو ذلك"، وبوشنج: بلدة على سبعة فراسخ من هراة. (ت: 467 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي
(18/ 222).
(3)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 184).
(4)
كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (1/ 56).
[الأنعام: 164] فلا حجة فيه، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث، على ما نبديه من معنى الحديث إن شاء الله". اهـ (1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد أنكر طوائف من السلف الأحاديث الواردة في ذلك، وغلَّطوا الرواة لها، واعتقدوا أَنَّ ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، وهذه طريقة عائشة، والشافعي، وغيرهما .... ، والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا تُرد بمثل هذا، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك.
ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً، وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين - وهي الصادقة فيما نقلته - فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"، وهذا موافق لحديث عمر؛ فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله. اهـ (2)
وقال ابن القيم: "وإنكار عائشة لذلك بعد رواية الثقات لا يعول عليه؛ فإنهم قد يحضرون ما لا تحضره، ويشهدون ما تغيب عنه، واحتمال السهو والغلط بعيد، خصوصاً في حق خمسة من أكابر الصحابة، وقوله في اليهود لا يمنع أن يكون قد قال ما رواه عنه هؤلاء الخمسة في أوقات أخر، ثم هي محجوجة بروايتها عنه أنه قال: "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"؛ فإذا لم يمنع زيادة الكافر عذاباً بفعل غيره - مع كونه مخالفاً لظاهر الآية - لم يمنع ذلك في حق المسلم؛ لأن الله سبحانه كما لا يظلم عبده المسلم لا يظلم الكافر، والله أعلم". اهـ (3)
وقال الأُبِّيّ: "تواترت الأحاديث بإثبات عذاب القبر، والتعذيب فيه
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 581 - 582). ولأبي عبد الله القرطبي كلاماً نحو هذا ذكره في تفسيره (10/ 151).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (24/ 370 - 371)، بتصرف. وانظر:(18/ 142).
(3)
عدة الصابرين، لابن القيم، ص (172).
ببكاء الحي صورة من صور التعذيب، وصحت فيه هذه الأحاديث فأمرَّها عمر وغيره على ظاهرها، ورآها مخصصة لعموم:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، والسنة تخصص عموم القرآن على الصحيح.
وأما عائشة فجزمت بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، وأنه إنما قال:"الكافر يزيده الله عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت في الطريق الآخر: إنه مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال: "هم يبكون عليه وإنه ليعذب".
وأما استشهادها بالآية؛ فلا يخفى عليك ما فيه من الإشكال؛ أما أولاً: فإنها شهادة على النفي، وهي وإن كانت مقبولة من مثل عائشة، لكن عارضتها رواية عمر، وابنه، وناهيك مع صحة حديث المغيرة الآتي:"من نيح عليه عذب".
وأما ثانياً: فإن ما ذكرَتْ في الطريق الأول هو أيضاً معارض للآية التي احتجت بها، وغاية ما يقال: إن التخصيص عليه أقل، أعني تخصيص عمومها بالكافر، وما ذكرت في الطريق الثاني غير مناف لحديث عمر". اهـ (1)
وقال ابن عادل: "وعائشة رضي الله عنها لم تخبر أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفى ذلك، وإنما تأولت على ظاهر القرآن، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر .... ، والحديث الذي روته حديث آخر لا يجوز أن يُرَدَّ به خبر الصادق؛ لأن القوم قد يشهدون كثيراً مما لا تشهد، مع أَنَّ روايتها تحقق ذلك الحديث؛ فإن الله تعالى إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذب الميت ابتداء ببكاء أهله.
ثم في حديث ابن رواحة (2)
ما ينص على أَنَّ ذلك في المسلم؛ فإن ابن رواحة كان مسلماً، ولم يوص بذلك". اهـ (3)
(1) إكمال إكمال المعلم، للأبي (3/ 325).
(2)
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ".
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (4268).
(3)
اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي (12/ 231). وانظر: سبل السلام، للصنعاني (2/ 238 - 239).
وقال المُلا علي بن سلطان القاري: "ولا يخفى أَنَّ هذا الاعتراض وارد لو لم يُسْمَع الحديث إلا في هذا المورد، وقد ثبت بألفاظ مختلفة وبروايات متعددة - عنه وعن غيره - غير مقيدة بل مطلقة، فدخل هذا الخصوص تحت هذا العموم، فلا منافاة ولا معارضة، فيكون اعتراضها بحسب اجتهادها". اهـ (1)
ويتلخص من أقوال العلماء في الرد على عائشة رضي الله عنها:
1 -
أَنَّ ما أوردته من تأويلات، إنما هو من اجتهادها، وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الظاهر من كلام الحافظ ابن حجر، والداوودي، وابن الجوزي.
2 -
أَنَّ ما اعترضت به عائشة بقولها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" هو أيضاً معارضٌ للآية، على مذهبها.
3 -
أنه لا تعارض بين ما روت عائشة، وما روى عمر، وابنه؛ لأن كل واحد منهم أخبر بما سمع وشاهد، وهما واقعتان مختلفتان.
4 -
أنه على فرض التعارض فإن حديث عمر بن الخطاب، وابنه، أولى بالتقديم من حديث عائشة؛ لأن الرواة له أكثر.
القول الرابع: أَنَّ الحديث محمول على ما إذا كان النوح من سنة الميت وسنة أهله، ولم ينه أهله عنه في حياته؛ فإنه يعذب من أجل ذلك، وأما إذا لم يكن من سنته فإنه لا يعذب.
وحاصل هذا المذهب أَنَّ الإنسان لا يعذب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبب.
وهذا مذهب البخاري، وقد ترجم له في صحيحه بقوله:"باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، إذا كان النوح من سنته؛ لقول الله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (2)، فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت
(1) مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (4/ 195).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجمعة، حديث (893)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإمارة، حديث (1829).
عائشة رضي الله عنها: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وهو كقوله:(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ)[فاطر: 18]، وما يرخص من البكاء في غير نوح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ"(1) ". اهـ (2)
وهو اختيار: أبي البركات ابن تيمية (3). (4)
القول الخامس: أَنَّ الحديث محمول على من أوصى أهله بذلك، فإنه يعذب بسبب وصيته، لا بسبب النياحة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ". (5)
قالوا: وكان ذلك مشهوراً من مذاهب العرب وعاداتهم، حيث كانوا يوصون بالندب والنياحة، وهو موجود في أشعارهم:
كما قال لبيد (6) يخاطب ابنتيه: (7)
فقوما فقولا بالذي قد علمتما
…
ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا الشعر
وقولا هو المرءُ الذي لا صديق له
…
أضاع، ولا خان الأمير ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
…
ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر
وكما قال طرفة بن العبد (8): (9)
إذا متُّ فانعيني بما أنا أهله
…
وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبدِ
وهذا قول: المزني (10)(11)، وإبراهيم الحربي (12)(13).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب أحاديث الأنبياء، حديث (3336)، ومسلم في صحيحه، في كتاب القسامة، حديث (1677).
(2)
صحيح البخاري (2/ 99).
(3)
هو: عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد، ابن تيمية الحراني، أبو البركات، مجد الدين: شيخ الحنابلة، وفقيه عصره، ولد بحران، وحدث بالحجاز والعراق والشام، ثم ببلده حران وتوفي بها، وكان فرد زمانه في معرفة المذهب الحنبلي، من كتبه "المنتقى في أحاديث الأحكام" و "المحرر في الفقه". وهو جد شيخ الإسلام ابن تيمية، توفي المجد سنة: 652 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (23/ 291)، والأعلام، للزركلي (4/ 6).
(4)
انظر: الإنصاف، للمرداوي (2/ 569)، وقد حكاه عنه: ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/ 370)، وابن القيم في عدة الصابرين (172).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب العلم، حديث (1017).
(6)
هو: لبيد بن ربيعة بن مالك، أبو عقيل العامري: أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية. من أهل عالية نجد. أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم ويعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم. وترك الشعر، فلم يقل في الإسلام إلا بيتاً واحداً، قيل: هو:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه
…
والمرء يصلحه الجليس الصالح
وسكن الكوفة، وعاش عمراً طويلاً. وهو أحد أصحاب المعلقات، ومطلع معلقته:
عفت الديار محلها فمقامها
…
بمنى تأبد غولها فرجامها
وكان كريماً: نذر أن لا تهب الصبا إلا نحر وأطعم، جُمِعَ بعضُ شعره في ديوان مطبوع باسمه،
(ت: 41 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (5/ 240).
(7)
ديوان لبيد، ص (213).
(8)
هو: طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، البكري الوائلي، أبو عمرو: شاعر، جاهلي، من الطبقة الأولى. ولد في بادية البحرين، وتنقل في بقاع نجد. واتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه. ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر (عامله على البحرين وعمان) يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر، شاباً، في (هجر) وهو ابن عشرين عاماً، وقيل: ابن ست وعشرين. أشهر شعره معلقته، ومطلعها:"لخولة أطلال ببرقة ثهمد"، وقد شرحها كثيرون من العلماء. وجُمِعَ المحفوظ من شعره في ديوان مطبوع باسمه، وكان هجاءً، غير فاحش القول. تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره.
(ت: 60 قبل الهجرة). انظر: الأعلام، للزركلي (3/ 225).
(9)
ديوان طرفة، ص (46).
(10)
هو: أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني، المصري، تلميذ الشافعي، كان رأساً في الفقه، وله كتاب اشتهر به، واسمه "مختصر المزني"، امتلأت البلاد بذكره، وشرحه عدةٌ من الكبار، توفي سنة (264 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (12/ 492 - 495).
(11)
انظر: الأم، للشافعي (8/ 134)، والمجموع، للنووي (5/ 282).
(12)
هو: إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله البغدادي الحربي، أبو إسحاق: من أعلام المحدثين. أصله من مرو، واشتهر وتوفي ببغداد، ونسبته إلى محلة فيها. كان حافظاً للحديث، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، قيماً بالأدب، زاهداً، أرسل إليه المعتضد ألف دينار فردها. تفقه على الإمام أحمد، وصنف كتباً كثيرة منها (غريب الحديث) و (مناسك الحج) و (دلائل النبوة)، وغيرها، وكان عنده اثنا عشر ألف جزء، في اللغة وغريب الحديث، كتبها بخطه، (ت: 285 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 356)، والأعلام، للزركلي (1/ 32).
(13)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 184).
وحكى أبو الليث السمرقندي: أنه قول عامة أهل العلم. (1)
ونقله النووي عن الجمهور. (2)
وهو اختيار: الطحاوي، والخطابي في قول، والبغوي، وأبي عبد الله القرطبي، والنووي، والذهبي، والشاطبي، والمُلا علي بن سلطان القاري، والسندي، والآلوسي، والألباني. (3)
واستدلوا له:
1 -
بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، إِذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، وَاكَاسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِبُهَا". (4)
قال المُلا علي بن سلطان القاري: "وهذا صريح أنه إنما يُعذّب إذا كان أوصى، أو كان بفعلهم يرضى". اهـ (5)
2 -
واستدلوا برواية: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"(6)؛ إذ المراد بالبعض ما يكون عن وصية. (7)
الإيرادات والاعتراضات على هذا القول:
أُعتُرِضَ على هذا القول:
1 -
بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، لفظ عام،
(1) المصدر السابق.
(2)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 324)، والمجموع، للنووي (5/ 282).
(3)
انظر على الترتيب: شرح معاني الآثار، للطحاوي (4/ 295)، ومعالم السنن (1/ 264)، وأعلام الحديث (1/ 684)، كلاهما للخطابي، وشرح السنة، للبغوي (3/ 291)، وتفسير القرطبي
(10/ 151)، وصحيح مسلم بشرح النووي (6/ 325)، والكبائر، للذهبي، ص (183)، والموافقات، للشاطبي (2/ 397)، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (4/ 181)، وحاشية السندي على سنن ابن ماجة (4/ 17)، وروح المعاني، للآلوسي (15/ 47)، وأحكام الجنائز، للألباني، ص (41 - 42).
(4)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(5)
مرقاة المفاتيح (4/ 181).
(6)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(7)
انظر: مرقاة المفاتيح (4/ 197).
وتخصيصه بمن أوصى تحكم بلا دليل. (1)
2 -
وبأن الوصية بالنياحة حرام يستحق الموصي بها التعذيب، نيح عليه أم لا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما علق التعذيب على النياحة، لا على الوصية. (2)
3 -
وبأن الصحابة الذين رووا الحديث لو فهموا منه أَنَّ ذلك خاص بمن أوصى، لما عجبوا منه، ولما أنكره من أنكره كعائشة رضي الله عنها؛ لأنهم يعرفون بأن من أمر بمنكر فإنه يستحق العقوبة عليه. (3)
4 -
وبأنه لو كان خاصاً بمن أوصى لما قيد ذلك بالنوح دون غيره من المنكرات. (4)
القول السادس: أَنَّ الحديث محمول على ما إذا أهمل الميت نهي أهله عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه؛ لأن إهماله لهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى:(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)[التحريم: 6]، فتعذيبه إذاً بسبب تفريطه وتركه ما أمر الله به.
قال ابن المرابط (5): "إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أَنَّ أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يُعْلِمْهُم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه؛ فإذا عُذِّبَ على ذلك عُذِّبَ بفعل نفسه لا بفعل غيره". اهـ (6)
وهو مذهب: داود بن علي (7)، واختيار الشنقيطي (8).
القول السابع: أَنَّ معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يعذب ببكاء أهله"، أي بنظير ما
(1) انظر: حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (8/ 278).
(2)
انظر: حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (8/ 278)، وفتح الباري، لابن حجر (3/ 184).
(3)
حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (8/ 278)، واللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي (12/ 231).
(4)
انظر: اللباب في علوم الكتاب (12/ 231).
(5)
هو: محمد بن خلف بن سعيد بن وهب، أبو عبد الله ابن المرابط: قاضي المَرِيَّة (بالأندلس) ومفتيها وعالمها، له كتاب كبير في (شرح البخاري). (ت: 485 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (19/ 66).
(6)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 184).
(7)
نقله عنه ابن عبد البر في التمهيد (17/ 280)، والحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 184).
(8)
أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 471).
يبكيه أهله به، وذلك أَنَّ الأفعال التي يعددون بها عليه غالباً تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه به.
وهذا مذهب الإسماعيلي، وابن حزم.
قال الإسماعيلي (1): "كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كلٌ مجتهداً على حسب ما قُدِّرَ له، ومن أحسن ما حضرني وجهٌ لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بَكَتْهُ باكيته بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الخبر: أَنَّ الميت يُعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به؛ لأن الميت يُندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذُكِر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحق العذاب عليها". اهـ (2)
وقال ابن حزم: "هذا الخبر بتمامه (3) يُبين معنى ما وهل فيه كثير من الناس من قوله عليه السلام: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، ولاح بهذا أَنَّ هذا البكاء الذي يعذب به الميت ليس هو الذي لا يعذب به من دمع العين، وحزن القلب، فصح أنه البكاء باللسان، إذ يُعذبونه برياسته التي جار فيها فعُذِّب عليها، وشجاعته التي يُعذب عليها، إذ صرفها في غير طاعة الله تعالى، وبجوده الذي أخذ ما جاد به من غير حله، ووضعه في غير حقه فأهله يبكونه بهذه المفاخر، وهو يعذب بها بعينها، وهو ظاهر الحديث لمن لم يتكلف في ظاهر الخبر ما ليس فيه، وبالله تعالى التوفيق". اهـ (4)
(1) هو: أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الجرجاني، أبو بكر الإسماعيلي، الشافعي، إمام في الفقه والحديث، من مؤلفاته (المسند المستخرج على الصحيح)، أي صحيح الإمام البخاري، و (المعجم) وغيرها، (ت: 371 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 292).
(2)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 184). وانظر: نيل الأوطار، للشوكاني (4/ 127).
(3)
الخبر الذي أورده ابن حزم هو: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ: قَدْ قَضَى؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فَقَالَ:"أَلَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1304)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (924).
(4)
المحلى، لابن حزم (3/ 374).
ويؤيد هذا القول: رواية: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"(1)؛ إذ ليس كل ما يعددونه من خصاله يكون مذموماً، فقد يكون من خصاله الكرم، وإعتاق الرقاب، وكشف الكرب، ونحوها. (2)
ويؤيده أيضاً: حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ". (3)(4)
القول الثامن: أَنَّ معنى "التعذيب" في الحديث توبيخ الملائكة للميت بما يندبه أهله به.
كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، إِذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، وَاكَاسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِبُهَا". (5)
وفي لفظ: "مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ: وَا جَبَلَاهْ، وَا سَيِّدَاهْ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ إِلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ: أَهَكَذَا كُنْتَ". (6)
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ". (7)
ذكر هذا القول: الحافظ ابن حجر، والمناوي. (8)
القول التاسع: أَنَّ معنى التعذيب في الحديث: تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة عليه، وليس المراد أَنَّ الله تعالى يعاقبه بتلك النياحة.
(1) سبق تخريجه في أول المسألة.
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 583).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (4267).
(4)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 583).
(5)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(6)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(7)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (4267).
(8)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (3/ 185)، وفيض القدير، للمناوي (2/ 397).
وهذا اختيار ابن جرير الطبري. (1).
ورجحه: ابن المرابط (2)، والقاضي عياض (3)، وأبو العباس القرطبي (4)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والعراقي (5)، وابن عثيمين (6).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما قول السائل: هل يؤذيه البكاء عليه؟ فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء، والصواب: أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفي لفظ: "من ينح عليه يعذب بما نيح عليه".
ثم قال: "والمقصود هاهنا أَنَّ الله لا يعذب أحداً في الآخرة إلا بذنبه وأنه (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
قال: وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال:"يعذب" والعذاب أعم من العقاب؛ فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب
…
، والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملاً له يعاقب عليه؟
ثم النياحة سبب العذاب؛ وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه، فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب، كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة والأرواح والصور
(1) انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (3/ 372)، وفتح الباري، لابن حجر (3/ 185).
(2)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 185).
(3)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (3/ 372).
(4)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 583).
(5)
نقله عنه المناوي في "فيض القدير"(2/ 397).
(6)
الشرح الممتع، لابن عثيمين (5/ 491).
القبيحة". اهـ (1)
وقال ابن القيم: "ليس في هذه الأحاديث بحمد الله إشكال، ولا مخالفة لظاهر القرآن، ولا لقاعدة من قواعد الشرع، ولا تتضمن عقوبة الإنسان بذنب غيره؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ونوحهم، وإنما قال: يعذب بذلك، ولا ريب أَنَّ ذلك يؤلمه ويعذبه، والعذاب هو الألم الذي يحصل له، وهو أعم من العقاب، والأعم لا يستلزم الأخص .... ، وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر، حتى إنَّ الميت ليتألم بمن يعاقب في قبره في جواره (2)، ويتأذى بذلك كما يتأذى الإنسان في الدنيا بما يشاهده من عقوبة جاره؛ فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم - وهو البكاء الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، والبكاء على الميت عندهم اسم لذلك، وهو معروف في نظمهم ونثرهم - تألم الميت بذلك في قبره، فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه، وبالله التوفيق". اهـ (3)
أدلة هذا القول:
ذكر أصحاب هذا القول عدة أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه، ومن هذه الأدلة:
1 -
حديث قيْلَةَ بنت مَخْرَمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيغلب أحدكم أن يُصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر (4) إليه صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم". (5)
(1) مجموع الفتاوى (24/ 369 - 375). باختصار. وانظر: (18/ 142)، وتفسير آيات أشكلت (1/ 452 - 456).
(2)
لا أعلم دليلاً من كتاب أو سنة يدل على أن الميت يتأذى بمن يُعاقب في قبره في جواره، ومثل هذه الأمور المغيبة ينبغي عدم الخوض فيها إلا بدليل.
(3)
عدة الصابرين، ص (172 - 173)، وانظر: حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (8/ 280)، والروح، ص (239).
(4)
الاستعبار هو جريان دمع العين، مأخوذ من العَبْرَة التي تسيل من العين عند الحزن ونحوه. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 171)، ولسان العرب، لابن منظور (4/ 532).
(5)
هذا جزء من حديث طويل أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 317 - 320)،
ومعنى الحديث أَنَّ الميت يستعبر ويبكي لبكاء أهله، فيتأذى بذلك.
قال ابن المرابط: "حديث قيلة نص في المسألة فلا يُعدل عنه". اهـ (1)
وقال القاضي عياض: "هو أولى ما يقال فيه؛ لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما أبهمه في غيره". اهـ (2)
2 -
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ". (3)(4)
3 -
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، إِذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، وَاكَاسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِبُهَا". (5)
"ومعنى الحديث أَنَّ الميت إذا كان كافراً أو عاصياً عُذِّب، وكان النوح سبباً في تعذيبه بذنوبه، وإن كان صالحاً أُخْبِرَ بما تقول النائحة فيزيده ذلك ألماً؛ لأنه يرجو الاستغفار، فإذا بلغه ما يكرهه كان غمُّه عذاباً، لعلمه أَنَّ الله تعالى يكره ذلك". (6)
4 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ؛ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ
= والطبراني في الكبير (25/ 10).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 12): "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وحسنه الحافظ ابن حجر، في الفتح (3/ 185).
(1)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 185). وانظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (3/ 371 - 372)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/ 583).
(2)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (3/ 372).
(3)
سبق تخريجه في أثناء المسألة.
(4)
انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (24/ 370)، وحاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (8/ 279).
(5)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(6)
انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (1/ 59).
إِلَى أَهْلِهِ". (1)
فسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر عذاباً، وليس هو عقاباً على ذنب، والعذاب أعم من العقاب، لأن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب. (2)
5 -
واستدلوا أيضا: بأن الميت يسمع بكاء الحي، ويسمع قرع نعال مشيعيه إذا انصرفوا من دفنه، وتُعرض عليه أعمال أقاربه الأحياء، فإذا رأى ما يسؤهم تألم له، وهذا ونحوه مما يتعذب به الميت ويتألم. (3)
الإيرادات والاعتراضات على هذا القول:
الإيراد الأول: يرد على هذا القول حديث: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(4)؛ إذ في الحديث أَنَّ العذاب يكون يوم القيامة، فهل يقال إنه يتأذى يوم القيامة ببكاء أهله عليه في الدنيا؟
قال الألباني: "كنت أميل إلى هذا المذهب برهة من الزمن، ثم بدالي أنه ضعيف؛ لمخالفته للحديث الذي قيد العذاب بأنه "يوم القيامة"، ومن الواضح أَنَّ هذا لا يمكن تأويله بما ذكروا، ولذلك فالراجح عندنا مذهب الجمهور (5)، ولا منافاة بين هذا القيد والقيد الآخر في قوله: "في قبره" (6)، بل يضم أحدهما إلى الآخر، وينتج أنه يعذب في قبره، ويوم القيامة، وهذا بَيّنٌ إن شاء الله تعالى". اهـ (7)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الحج، حديث (1804)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإمارة، حديث (1927).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (24/ 374)، وحاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود
(8/ 279)، والشرح الممتع، لابن عثيمين (5/ 491).
(3)
انظر: حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (8/ 279).
(4)
سبق تخريجه في أول المسألة، وهو في صحيح مسلم.
(5)
هو القول الخامس في هذه المسألة.
(6)
سبق تخريجه في أول المسألة، وهو في الصحيحين.
(7)
أحكام الجنائز، ص (42). وللقاري إيراد نحو هذا، انظره في كتابه: مرقاة المفاتيح (4/ 196).
الإيراد الثاني: أَنَّ حديث قيلة ليس نصاً في المسألة؛ لاحتمال أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "فيستعبر إليه صويحبه" هو صاحبه الحي، والمعنى: إنَّ أحدكم إذا بكى استعبر له صاحبه الذي هو معه فبكى مثله فأجهش الجميع بكاء؛ فيعذب الميت حينئذ ببكاء الجماعة عليه. (1)
الإيراد الثالث: أنَّ القول بأنَّ الميت يسمع بكاء الحي، وأنه تُعرض عليه أعمال أقاربه الأحياء، فإذا رأى ما يسؤهم تألم له؛ قولٌ لا دليل عليه، والثابت هو سماع الميت لقرع نعال مشيعيه فقط، وذلك بعد الدفن مباشرة، وهو غير مستمر.
القول العاشر: هو الجمع بين هذه الوجوه المذكورة في توجيه الأحاديث، وتنزيل كل وجه منها على حسب حالة الشخص.
وهذا اختيار الحافظ ابن حجر، حيث قال:"ويحتمل أن يُجمع بين هذه التوجيهات، فيُنزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلاً: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك عُذِّب بصنعه، ومن كان ظالماً فنُدِبَ بأفعاله الجائرة عُذِّبَ بما نُدِبَ به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول، وإن كان غيرَ راضٍ عُذِّبَ بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب". (2)
القول الحادي عشر: أَنَّ البكاء جُعل سبباً للعذاب لا مؤثراً في استحقاقه، كما تكون أسباب الآلام في الدّنيا أموراً غير مؤثرة في الاستحقاق.
وهذا رأي ابن الوزير اليماني. (3)
ويرى أن الحكمة في جعل البكاء سبباً للعذاب، لما في ذلك من الزّجر العظيم عن البكاء، وتسمية الآلام عذاباً كثير في اللّغة شائع، وقد دلَّ السمع
(1) أورد هذا الاعتراض ابن رشيد كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 185).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (3/ 185).
(3)
الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (2/ 379).
على استحقاق كلّ أحد لشيء من العذاب، فمن الجائز أن يكون عذاباً مستحقاً بذنبٍ غير البكاء. (1)
القول الثاني عشر: أَنَّ المراد بالميت في الحديث: هو المشرف على الموت، وتعذيبه أنه إذا احُتُضِرَ والناس حوله يصرخون ويتفجعون يزيد كربه، وتشتد عليه سكرات الموت؛ فيصير معذباً بذلك.
ذكر هذا القول: المناوي، والآلوسي (2).
ويرد على هذا القول: ما ورد من تقييد ذلك بالقبر، وبيوم القيامة.
المسلك الثاني: رد الأحاديث الواردة في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ومعارضتها بقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى):
قال الحافظ ابن حجر: "وممن روي عنه الإنكار مطلقاً: أبو هريرة رضي الله عنه كما رواه أبو يعلى (3) من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "والله لئن انطلق رجل محارباً في سبيل الله، ثم قُتِل في قطر من أقطار الأرض شهيداً فعمدت امرأته سفهاً وجهلاً فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد ببكاء هذه السفيهة عليه".
قال الحافظ ابن حجر: "وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية، منهم أبو حامد (4) وغيره". اهـ (5)
قلت: أثر أبي هريرة رضي الله عنه لا يصح، كما بينت ذلك في التخريج.
(1) انظر: المصدر السابق، والعواصم والقواصم، للمؤلف (7/ 279).
(2)
انظر: فيض القدير، للمناوي (2/ 397)، وروح المعاني، للآلوسي (15/ 47).
(3)
قال أبو يعلى في مسنده (3/ 165): حدثنا زحمويه، حدثنا صالح، حدثنا حاجب يعني ابن عمر قال: دخلت مع الحكم الأعرج على بكر بن عبد الله، فتذاكروا أمر الميت يعذب ببكاء الحي فحدثنا بكر قال: حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو هريرة خالفه في ذلك، فقال: قال أبو هريرة:
…
، فذكره.
وأخرجه من طريق أبي يعلى الحافظُ ابن عساكر في تاريخ دمشق (67/ 354).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 16): "رواه أبو هريرة، وفيه من لا يُعرف".
(4)
هو: أحمد بن محمد بن أحمد، الشيخ الإمام أبو حامد بن أبي طاهر الإسفراييني، شيخ الشافعية بالعراق، ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، واشتغل بالعلم، قال سليم: وكان يحرس في درب، وكان يطالع الدرس على زيت الحرس، وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، وقدم بغداد سنة أربع وستين فتفقه على ابن المرزبان والداركي، وروى الحديث عن الدارقطني، وكان يفتي لفظاً ويأبى أن يكتب، توفي في شوال سنة ست وأربع مائة، وله شرح مشكل الوسيط، وغيره. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 193).
(5)
فتح الباري، لابن حجر (3/ 183).