الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الحديثين:
للعلماء في دفع التعارض بين الحديثين مسلكان:
الأول: مسلك الجمع بينهما:
حيث ذهب جمع من العلماء إلى نفي التعارض بين الحديثين؛ وجمعوا بينهما بأنَّ كلاً من المسجدين قد أسس على التقوى، إلا أنَّ المسجد النبوي أحق بهذا الوصف من مسجد قباء، لحديث أبي سعيد، وأما مراد الآية فهو مسجد قباء دون المسجد النبوي، كما دل عليه سبب نزول الآية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)[التوبة: 108] مسجده صلى الله عليه وسلم هو الأحق بهذا الوصف، وقد ثبت في الصحيح أنه سُئِلَ عن المسجد المؤسس على التقوى فقال:«هو مسجدي هذا» يريد أنه أكمل في هذا الوصف من مسجد قباء، ومسجد قباء أيضاً أسس على التقوى، وبسببه نزلت الآية، ولهذا قال فيه:(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة: 108] فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ لا يظن ظان أنَّ ذاك هو الذي أسس على التقوى دون مسجده، فذكر أنَّ مسجده أحق بأن يكون هو المؤسس على التقوى فقوله:(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى)[التوبة: 108] يتناول مسجده ومسجد قباء، ويتناول كل مسجد أسس على التقوى. اهـ (1)
وقال الحافظ ابن كثير: «المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجد قباء، لما دل عليه السياق، والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه، وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينافي ما تقدم؛ لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم،
(1) مجموع الفتاوى (17/ 468). بتصرف. وانظر: (27/ 406)، ومنهاج السنة (4/ 24)، واقتضاء الصراط المستقيم (1/ 431).
فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بذلك وأحرى، وأثبت في الفضل منه وأقوى». اهـ (1)
وقال: لما سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى أشار إلى مسجده، والآية نزلت في مسجد قباء، ولا تنافي؛ فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة، والله أعلم. اهـ (2)
وقال الحافظ ابن حجر: «والحق أنَّ كلاً منهما أسس على التقوى» . اهـ (3)
وقد اختار هذا الجمع:
ابن عبد البر (5)، والداوودي (6)، والسهيلي (7)، وابن القيم (8)، والسمهودي (9)(10)، والقاسمي (11)، والألباني (12).
(1) البداية والنهاية، لابن كثير (5/ 20).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 578). بتصرف. وانظر: (2/ 403 - 404) و (3/ 495).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (7/ 289).
(4)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (11/ 32).
(5)
التمهيد، لابن عبد البر (13/ 267). إلا أنه يرى أنَّ حديث أبي سعيد أثبت من جهة الإسناد، من حديث قباء.
(6)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/ 289).
(7)
الروض الأنف، للسهيلي (2/ 246).
(8)
زاد المعاد، لابن القيم (1/ 395).
(9)
هو: علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي، نور الدين أبو الحسن: مؤرخ المدينة المنورة ومفتيها. ولد في سمهود (بصعيد مصر) ونشأ في القاهرة. واستوطن المدينة سنة 873 هـ، وتوفي بها. من كتبه (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) و (جواهر العقدين) في فضل العلم والنسب، وغيرها.
(ت: 911 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (4/ 307).
(10)
خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وسلم، للسمهودي (1/ 473).
(11)
محاسن التأويل، للقاسمي (5/ 503).
(12)
الثمر المستطاب، للألباني (2/ 541، 568).
وللنحاس، وأبي العباس القرطبي، رأي آخر في الجمع:
حيث ذهبا إلى أنَّ أول الآية وهو قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) يعود على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث أبي سعيد، وأما آخر الآية، وهو قوله:(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فهو في مسجد قباء، كما يدل عليه سبب النزول.
غير أنَّ النحاس لم يجزم بذلك حيث جوَّز أنْ تكون الآية كلها في المسجد النبوي.
وقال أبو العباس القرطبي: «ويلزم من تعيين النبي صلى الله عليه وسلم مسجده أنْ يكون هو المراد بقوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة: 108]، وأنْ يكون الضمير في قوله: (فِيهِ رِجَالٌ) عائد على المسجد الذي أسس على التقوى؛ لأنه لم يتقدمه ظاهر غيره يعود عليه، وليس الأمر كذلك، بدليل ما رواه أبو داود من طريق صحيحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ» . (2) فعلى هذا يكون الضمير في: (فِيهِ رِجَالٌ) غير عائد على المسجد المذكور قبله، بل على مسجد قباء، الذي دلت عليه الحال والمشاهدة عندهم، وأما عندنا فلولا هذا الحديث لحملناه على الأول. وعلى هذا يتعين على القارئ أنْ يقف على «فيه» من قوله:(أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) ويبتدئ: (فِيهِ رِجَالٌ) ليحصل به التنبيه على ما ذكرناه، والله تعالى أعلم». اهـ (3)
(1) معاني القرآن (3/ 255).
(2)
سبق تخريجه في أول المسألة.
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 509 - 510).
واعتُرِضَ على هذا القول: بأن فيه تفكيكاً للضمائر، والأصل أنْ تكون الضمائر متناسقة وعائدة على مذكور واحد. (1)
أدلة هذا المذهب:
استدل القائلون بأن مراد الآية هو مسجد قباء بأدلة، منها:
الأول: أنَّ قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) يقتضي أنه مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلَّ النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُنْشَأ إلا بعد ذلك. (2)
الدليل الثاني: أنَّ قوله في بقية الآية: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يؤكد كون المراد مسجد قباء، وقد صح في سبب نزول الآية أنها نزلت في أهل قباء؛ فتعين حمل الآية جميعها على أنها واردة في مسجد قباء.
وأجابوا عن حديث أبي سعيد والذي فيه تعيين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:
وأما حديث أبي سعيد: فليس هو في معرض بيان وتعيين ما في الآية؛ بل هو في بيان الأحق بهذا الوصف، يدل عليه قوله في رواية أخرى هي من تمام الحديث:«وفي ذلك خير كثير» . (3) يريد مسجد قباء.
قالوا: والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم عن ذلك إنما هو لدفع ما توهمه السائل من
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر (7/ 289)، وتعليق الصابوني على كتاب «معاني القرآن» للنحاس (3/ 255)، حاشية (2).
(2)
انظر: تفسير القرطبي (8/ 165)، وفتح الباري، لابن حجر (7/ 289)، وروح المعاني، للآلوسي (11/ 29).
(3)
هذه الزيادة في الحديث: أخرجها ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 148)، والإمام أحمد في مسنده (3/ 23) و (3/ 91)، والترمذي في سننه، في كتاب الصلاة، حديث (323)، والحاكم في المستدرك (1/ 662)، جميعهم من طريق أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه سمعان، عن أبي سعيد الخدري، به.
و «سمعان» : هو أبو يحيى الأسلمي، مولاهم المدني، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال النسائي:«ليس به بأس» . انظر: الثقات، لابن حبان (6/ 434)، وتهذيب الكمال، للمزي (12/ 140).
وبقية رجال الإسناد ثقات، والحديث صححه الترمذي، والحاكم، وحسنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 218).
اختصاص ذلك بمسجد قباء دون المسجد النبوي، والتنويه بمزية هذا على ذاك. (1)
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته:
الإيراد الأول: إذا كان كل واحد من المسجدين قد أسس على التقوى، فما المزية التي أوجبت تعيينه صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة دون مسجد قباء؟
وأجيب: بأن بناء مسجد قباء لم يكن بأمر جزم من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، بل نُدب إليه، أو كان رأياً رآه، بخلاف مسجد المدينة؛ فإنه أُمر بذلك، وجُزم عليه، فأشبه امتثال الواجب، فكان بذلك الاسم أحق. (2)
ويحتمل أنْ تكون المزية لما اتفق من طول إقامته صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء فما أقام به إلا أياماً قلائل. (3)
الاعتراض الثاني: أنَّ قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) لا يفيد أنه مسجد قباء؛ لأن المعنى: أنه أسس على التقوى من أول مبتدأ تأسيسه، أي أنه لم يشرع فيه، ولا وضع حجر على حجر منه، إلا على اعتقاد التقوى. (4)
قال الآلوسي: «ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم: أنَّ تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده، لا حادثاً بعده، ولا يمكن أنْ يراد من أول الأيام مطلقاً» . اهـ (5)
الاعتراض الثالث: أنَّ القول بأن كلاً منهما قد أسس على التقوى يوحي بنوع استدراك على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه حينما سُئل أي المسجدين أسس على التقوى؟ أجاب: بأنه مسجده، ولم يقل كلا المسجدين قد أسسا على التقوى، بل أشار إلى أنَّ مسجد قباء فيه خير كثير، فكيف يقال بعد ذلك أنَّ كلاً منهما قد أسسا على التقوى؟!
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 508 - 509)، وفتح الباري، لابن حجر (7/ 289)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (5/ 504 - 505).
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 509).
(3)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (7/ 289).
(4)
انظر: أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 585).
(5)
روح المعاني (11/ 30).
المسلك الثاني: الترجيح بين الأحاديث:
حيث ذهب آخرون إلى تضعيف الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية، التي فيها أنَّ المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وأنَّ الآية لا يصح فيها إلا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال ابن العربي: فإن قيل: إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نزلت هذه الآية في أهل قباء: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم» . يدل على أنَّ ضمير المتطهرين هو ضمير مسجد قباء.
قلنا: هذا حديث لم يصح، والصحيح هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال آخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو مسجدي هذا. اهـ (1)
وقال الشوكاني: ولا يخفاك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد عيَّن هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم، كما قدمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم ولا غيرهم، ولا يصح لإيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء؛ فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أنَّ ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك ولا شبهة تعم. اهـ (2)
وقال الآلوسي بعد أنْ ذكر المذهب الأول: «ولا يخفى بُعْد هذا الجمع، فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني .... ، وأما ما رواه
(1) أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 584 - 585). بتصرف. ولابن العربي رأي آخر مضاد لهذا القول، حيث يرى أنَّ المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، ويرى تقديم حديث قباء على حديث أبي سعيد؛ لأن الرواة له أكثر. انظر: عارضة الأحوذي، لابن العربي (2/ 104) و (11/ 177).
(2)
فتح القدير (2/ 589)، بتصرف.
الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: «من أنَّ قوله جل وعلا: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء» . فهو لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب وجابر وأنس من أنَّ هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار إن الله تعالى قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. قال: فهل مع ذلك غيره؟ قالوا: لا، غير أنَّ أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أنْ يستنجي بالماء. قال صلى الله عليه وسلم: هو ذاك فعليكموه» . فلا يدل على اختصاص أهل قباء، ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلى الله عليه وسلم».
وممن ذهب إلى ترجيح حديث أبي سعيد:
الطحاوي (2)، والقاضي عياض (3)، والنووي (4)، وابن عطية (5)، وأبو عبد الله القرطبي (6)، والحافظ العراقي (7)، والعيني (8)، والسندي (9)، والمُلا علي القاري (10).
أدلة هذا المذهب:
استدل القائلون بأن مراد الآية هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دون مسجد قباء بأدلة منها:
(1) روح المعاني (11/ 29 - 30).
(2)
شرح مشكل الآثار، للطحاوي (12/ 177).
(3)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 518).
(4)
صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 240).
(5)
المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 82).
(6)
تفسير القرطبي (8/ 165).
(7)
نقله عنه السيوطي في شرح سنن النسائي (2/ 35).
(8)
عمدة القاري، للعيني (17/ 49).
(9)
حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 36).
(10)
مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (2/ 371).