الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا يُوهِمُ خِلاف الآية. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث:
بداية لا بد من تحرير المسألة، في بيان هل الحدود كفارات لأهلها أم لا؟
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
الأول: أنَّ إقامة الحد بمجرده يُعد كفارة للذنب، ولو لم يتب المحدود.
وهذا مذهب الجمهور من العلماء (2).
وهو المروي عن: علي بن أبي طالب (3)، والحسن بن علي بن أبي طالب (4)،
ومجاهد (5)، وزيد بن أسلم (6).
وهو قول: الشافعي (7)، وأحمد (8)، وسفيان الثوري (9).
واختيار: النووي (10)، والملا علي القاري (11)(12)، والشوكاني (13).
(1) انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: فتح الباري، لابن حجر (12/ 114)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (3/ 385)، وعمدة القاري، للعيني (23/ 273)، وروح المعاني، للآلوسي (6/ 397)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (6/ 185).
(2)
حكاه مذهب الجمهور القاضي عياض في إكمال المعلم (5/ 550)، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (5/ 141)، وفتح الباري، لابن حجر (1/ 86).
(3)
ذكره الحافظ ابن رجب، في فتح الباري (1/ 74).
(4)
المصدر السابق.
(5)
المصدر السابق، وانظر: جامع العلوم والحكم (1/ 431).
(6)
ذكره الحافظ ابن رجب، في فتح الباري (1/ 74).
(7)
الأم، للشافعي (6/ 138).
(8)
انظر: فتح الباري، لابن رجب (1/ 74).
(9)
المصدر السابق.
(10)
صحيح مسلم بشرح النووي (11/ 318).
(11)
هو: علي بن (سلطان) محمد، نور الدين الملا الهروي القاري: فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. قيل: كان يكتب في كل عام مصحفاً وعليه طرر من القراءات والتفسير فيبيعه فيكفيه قوته من العام إلى العام. وصنف كتباً كثيرة، منها "تفسير القرآن" ثلاثة مجلدات، و "الأثمار الجنية في أسماء الحنفية" و "شرح مشكاة المصابيح"، وغيرها. (ت: 1014هـ). انظر:
سير أعلام النبلاء، للذهبي (5/ 12).
(12)
مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (7/ 114).
(13)
نيل الأوطار، للشوكاني (7/ 66).
واستدلوا على مذهبهم هذا:
1 -
بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقد وردت الكفارة فيه مطلقة، ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم التوبة.
2 -
وبقول ماعز للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أصبت حداً فطهرني، وكذلك قالت له الغامدية (1)،
ولم يُنكر عليهما النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فدل على أنَّ الحد طهارة لصاحبه، ولو لم يتب. (2)
القول الثاني: أنَّ إقامة الحد بمجرده لا يُعد كفارة، بل لا بد معه من التوبة.
وهذا مذهب الحنفية (3).
وروي عن صفوان بن سليم (4)(5).
وهو رأي: البيهقي (6)، وابن العربي (7)، وأبو عبد الله ابن تيمية (8)(9)،
وابن مفلح (10)(11)، وابن حجر الهيتمي (12)(13).
ونُسِبَ لابن حزم (14)،
(1) أخرج قصة ماعز والغامدية رضي الله عنهما: الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الحدود، حديث
(1695)
.
(2)
انظر: فتح الباري، لابن رجب (1/ 74).
(3)
انظر: فتح القدير، لابن الهمام (5/ 211).
(4)
هو: صفوان بن سليم، أبو عبد الله، وقيل: أبو الحارث، القرشي، الزهري، المدني، مولى حميد بن عبدالرحمن بن عوف، ثقة، كثير الحديث، عابد، من خيار عباد الله الصالحين، (ت: 132هـ). انظر:
سير أعلام النبلاء، للذهبي (5/ 364).
(5)
ذكره الحافظ ابن رجب، في فتح الباري (1/ 74).
(6)
نقله عنه الهيتمي في الزواجر (2/ 361).
(7)
عارضة الأحوذي، لابن العربي (6/ 173).
(8)
هو: الشيخ الإمام العلامة المفتي المفسر الخطيب البارع، عالم حران وخطيبها وواعظها، فخر الدين، أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله، ابن تيمية الحراني الحنبلي، صاحب التفسير الكبير، برع في المذهب الحنبلي، وصنف مختصراً فيه، وله نظم ونثر،
(ت: 622 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (22/ 288).
(9)
ذكره الحافظ ابن رجب، في فتح الباري (1/ 74)، وفي جامع العلوم والحكم (1/ 431).
(10)
هو: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي الرامينى ثم الصالحي: أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل. ولد ونشأ في بيت المقدس، وتوفي بصالحية دمشق. من تصانيفه (كتاب الفروع) ثلاثة مجلدات، و (النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر لابن تيمية)، و (أصول الفقه) و (الآداب الشرعية الكبرى) ثلاثة مجلدات. (ت: 763هـ). انظر: الأعلام، للزركلي
(7/ 107).
(11)
الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/ 106 - 107).
(12)
هو: أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام، أبو العباس: فقيه باحث مصري، مولده في محلة أبي الهيتم (من إقليم الغربية بمصر) وإليها نسبته. والسعدي نسبة إلى بني سعد من عرب الشرقية (بمصر)، تلقى العلم في الأزهر، ومات بمكة. له تصانيف كثيرة، منها:(تحفة المحتاج لشرح المنهاج) في فقه الشافعية، و (شرح مشكاة المصابيح للتبريزي)،
و (الزواجر عن اقتراف الكبائر) وغيرها، (ت: 974 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (1/ 234).
(13)
الزواجر عن اقتراف الكبائر، للهيتمي (2/ 361).
(14)
نسبه لابن حزم: الحافظ ابن رجب، في فتح الباري (1/ 74)، وتبعه الحافظ ابن حجر، في الفتح
(1/ 86)، والشوكاني، في نيل الأوطار (7/ 66).
قلت: وفي نسبة هذا القول لابن حزم نظر، والذي وقفت عليه من كلامه هو موافقة الجمهور - في أنَّ الحد مسقط للإثم، ولو لم يتب المحدود - وهذا نص كلامه في المحلى (12/ 12) حيث قال: "كل من أصاب ذنباً فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط عنه ما أصاب من ذلك - تاب أو لم يتب - حاشا المحاربة؛ فإن إثمها باق عليه وإن أقيم =
والبغوي (1).
وذكر الحافظ ابن حجر أنه مذهب المعتزلة (2)(3).
واستدلوا على مذهبهم هذا:
1 -
بقوله تعالى - في قُطّاع الطريق -: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 33]، فأخبر أنَّ جزاء فعلهم عقوبة دنيوية، وعقوبة أخروية، إلا من تاب فإنها حينئذ تسقط عنه العقوبة الأخروية.
2 -
وبالإجماع على أنَّ التوبة لا تُسقط الحد في الدنيا، قالوا: ويجب أنْ يحمل حديث عبادة رضي الله عنه على ما إذا تاب في العقوبة; لأنه هو الظاهر; لأن الظاهر أنَّ ضربه أو رجمه يكون معه توبة منه لذوقه مسبب فعله، فيقيد به جمعاً بين الأدلة. (4)
3 -
واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى في آية الحرابة: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)) [المائدة: 34]، حيث اشترط التوبة لرفع العقوبة عنهم. (5)
واعترض: بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعها، فقد دل الدليل على أنَّ عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة. وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة
= عليه حدها، ولا يسقطها عنه إلا التوبة لله تعالى فقط". اهـ ولعل الحافظ ابن رجب رحمه الله أراد ذكر مذهب ابن حزم في أنَّ حد الحرابة لا يسقط العقوبة في الآخرة عن المحدود، بل لا بد معه من التوبة.
(1)
نقله عنه: الحافظ ابن رجب، في فتح الباري (1/ 74)، والحافظ ابن حجر، في الفتح (1/ 86).
(2)
المعتزلة: هم إحدى الفرق الإسلامية الكبيرة، مؤلفة من عشرين فرقة، وهذه الفرق تجتمع على القول بالأصول الخمسة، وهي:"التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". انظر: الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، ص (115)، والملل والنحل، للشهرستاني، ص (56).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (1/ 86).
(4)
انظر: فتح القدير، لابن الهمام (5/ 211).
(5)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 86).
الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها. (1)
4 -
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم للسارق حين قطعه: "تب إلى الله"(2)،
حيث أمره بالتوبة فدل على اشتراطها. (3)
القول الثالث: التفصيل في المسألة: فما كان من حقوق الله تعالى فإنه يطهر منها بإقامة الحد عليه، وحق المخلوق يبقى، فارتكاب جريمة السرقة مثلاً، يطهر منه بالحد، والمؤاخذة بالمال تبقى.
وهذا اختيار: الشنقيطي (4)، ونقله الآلوسي عن النووي (5).
ويَرِدُ عليه: أنَّ في حديث عبادة رضي الله عنه ما هو من حق الله تعالى، وحق المخلوقين؛ كالسرقة، ونحوها، ولم يفرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم.
ويرد عليه أيضاً: أنَّ فيه تخصيصاً لعموم حديث عبادة رضي الله عنه، من غير دليل. (6)
القول الرابع: التوقف: حيث ذهب آخرون إلى التوقف في ذلك، فلا يُحكم بأن الحدود كفارة، ولا بعدمه؛ وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أدري الحدود كفارات لأهلها، أم لا". (7)
(1) انظر: فتح الباري، لابن رجب (1/ 74)، وفتح الباري، لابن حجر ((1/ 86).
(2)
عن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلِصٍّ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ جِيئُوا بِهِ. فَقَطَعُوهُ ثُمَّ جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ لَه: قُلْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. قَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ".
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الحدود، حديث (4380)، والنسائي في سننه، في كتاب قطع السارق، حديث (4877)، وابن ماجة في سننه، في كتاب الحدود، حديث (2597). وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص (358)، حديث (4380)، وضعيف سنن النسائي، ص (161)، حديث (4829).
(3)
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر، للهيتمي (2/ 361).
(4)
أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 429).
(5)
روح المعاني، للآلوسي (6/ 379).
(6)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (5/ 142).
(7)
رُوي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: من طريق معمر، عن أبن أبي ذئب، عن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سعيد المقبري، عن أبي هريرة، به.
أخرجه البزار في مسنده [كما في كشف الأستار عن زوائد البزار (2/ 213)]، وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3289)، والحاكم في المستدرك (2/ 17)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 329)، وأبو القاسم الحنائي في الفوائد، ص (16)، وابن عساكر في تاريخه (11/ 4)، وابن عبد البر، في جامع بيان العلم وفضله (2/ 828)، جميعهم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، به.
وقد أعل جماعة من أهل العلم هذا الحديث بتفرد معمر بن راشد بوصله:
قال البزار: "لا نعلم رواه عن ابن أبي ذئب إلا معمراً"، وقال الدارقطني في أطراف الغرائب والأفراد، (5/ 198):"تفرد به معمر بن راشد، عن ابن أبي ذئب، عنه"، وقال ابن عساكر:"تفرد به عبدالرزاق"، وقال ابن كثير، في البداية والنهاية (2/ 95):"غريب من هذا الوجه".
وقال الحنائي: "غريب؛ رواه هشام بن يوسف الصنعاني، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً؛ وهو الأصح".
ورواية هشام أخرجها البخاري في التاريخ الكبير (1/ 152): قال: قال لي عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، قال: حدثنا معمر، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
فذكره".
ثم أورد البخاري رواية عبد الرزاق الموصولة، وقال:"والأول أصح - يريد رواية الزهري - ولا يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحدود كفارة".
وقال ابن عبد البر: "حديث عبادة أثبت وأصح إسناداً من حديث أبي هريرة".
وقد تُوبع معمرٌ في روايته عن ابن أبي ذئب موصولاً:
فرواه الحاكم في المستدرك (2/ 488)، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القاضي بهمذان، حدثنا إبراهيم بن الحسين - هو ابن ديزيل - حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا بن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
، به.
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
لكن هذه المتابعة ضعيفة جداً؛ لأن شيخ الحاكم - وهو عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني - قد اتهم بالكذب، وبادعاء السماع من شيخه ابن ديزيل، وهو لم يلقه، ولم يسمع منه. انظر: تاريخ بغداد
(10/ 292 - 293)، وسير أعلام النبلاء (16/ 15)، ولسان الميزان (3/ 411 - 412). وانظر: الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات، لطارق بن عوض الله، ص (109 - 112).
قال الحافظ ابن رجب، في الفتح (1/ 73):"وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعاً". اهـ وانظر: كشف الأستار (2/ 213).
وقد صحح الحديث ابن حزم في المحلى (12/ 14)، والحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 84)، والألباني في الصحيحة، حديث (2217). أما ابن حزم فلم يقف على علة =
واحتجوا بأن حديث أبي هريرة متأخر على حديث عبادة، بدليل تأخر إسلام أبي هريرة عن بيعة العقبة، وهؤلاء جازمون بأن حديث عبادة وقع ليلة العقبة،
قبل الهجرة. (1)
مسألة: وقد اختلف العلماء في الجواب عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
1 -
فذهبت طائفة إلى تصحيح الحديث، واختلف هؤلاء في الجمع بينه وبين حديث عبادة:
فذهب بعضهم: إلى أنَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورد أولاً قبل أنْ يُعلمِ الله نبيه، ثم أعلمه بعد ذلك أنَّ الحدود كفارة.
وقد ذهب هؤلاء إلى أنَّ حديث عبادة رضي الله عنه كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصارُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى قبل الهجرة.
وأجابوا عن تأخر إسلام أبي هريرة رضي الله عنه بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة؛ وإنما سمعه من صحابي آخر. (2)
وهذا رأي: ابن حزم (3)، وابن بطال (4)، والقاضي عياض (5).
واعتُرِضَ: بأن أبا هريرة رضي الله عنه قد صرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن الحدود لم تكن نزلت قبل ذلك. (6)
وذهب آخرون إلى أنَّ حديث عبادة رضي الله عنه متأخر على حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ويرى هؤلاء أنَّ المبايعة التي في حديث عبادة رضي الله عنه إنما وقعت بعد فتح مكة، بعد نزول آية الممتحنة (7).
= الحديث - كما صرح هو بنفسه - وأما الحافظ ابن حجر، والألباني: فإنما صححاه من أجل متابعة آدم بن أبي إياس، وقد تقدم أنَّ هذه المتابعة ضعيفة جداً، لا يصح اعتبارها، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (12/ 86).
(2)
انظر: المحلى، لابن حزم (12/ 14).
(3)
المحلى (12/ 14).
(4)
شرح صحيح البخاري، لابن بطال (8/ 281).
(5)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (5/ 550).
(6)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 84).
(7)
وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا =
وهذا رأي: ابن التين (1)، والحافظ ابن رجب (2)، والحافظ ابن حجر (3)، وشمس الحق العظيم آبادي (4).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر عدة أدلة تؤيد هذا المذهب، وهي قوية. (5)
2 -
وذهب آخرون إلى تضعيف حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتقديم حديث عبادة رضي الله عنه عليه.
وهذا رأي: البخاري (6)، والدارقطني (7)، وابن عبد البر (8)، والمناوي (9).
وقد تقدم ذكر سبب تضعيفهم للحديث عند تخريجه.
مذاهب العلماء تجاه التعارض بين الآية، وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:
وبعد أنَّ ذكرنا أقوال العلماء في الحدود هل هي كفارة لأهلها أم لا، نأتي الآن إلى ذكر مسالك العلماء في دفع التعارض بين آية الحرابة، وحديث عبادة رضي الله عنه:
لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآية والحديث، وقد تباينت آراؤهم فيها على مذاهب:
الأول: أنَّ الوعيد في الآية - وهو قوله: (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) - خاصٌ بالمشركين؛ كما دل عليه سبب نزول الآية (10)، وحديث عبادة خاص
= وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)) [الممتحنة: 12].
(1)
نقله عنه الحافظ ابن حجر، في الفتح (7/ 86).
(2)
فتح الباري، لابن رجب (1/ 64).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (1/ 85).
(4)
عون المعبود، للآبادي (12/ 280).
(5)
انظرها: في فتح الباري (1/ 84 - 86).
(6)
التاريخ الكبير (1/ 152).
(7)
أطراف الغرائب (5/ 198).
(8)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 828).
(9)
فيض القدير (5/ 501).
(10)
عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) - قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، =
بالمسلمين، فإذا عوقب المسلم بجنايته في الدنيا كانت عقوبته كفارة له.
وهذا مذهب: الواحدي (1)، والقاضي عياض (2)، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والعيني (3)، والسندي (4).
قال الحافظ ابن كثير: "قوله تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي: هذا الذي ذكرته - من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم - خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:
…
". اهـ ثم ذكر حديث عبادة. (5)
وقال الحافظ ابن حجر: "أشكل قوله في آية المحاربين: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) مع حديث عبادة الدال على أنَّ من أقيم عليه الحد في الدنيا كان له كفارة؛ فإنَّ ظاهر الآية أنَّ المُحَارِب يُجمع له الأمران. والجواب: أنَّ حديث عبادة مخصوص بالمسلمين، بدليل: أنَّ فيه ذكر الشرك، مع ما انضم إليه من المعاصي، فلما حصل الإجماع على أنَّ الكافر إذا قُتِلَ على شركه فمات مشركاً أنَّ ذلك القتل لا يكون كفارة له، قام إجماع أهل السنة على أنَّ من أقيم عليه الحد من أهل المعاصي كان ذلك كفارة لإثم معصيته، والذي يضبط ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48]، والله أعلم". اهـ (6)
= وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، فَمَنْ قَتَلَ وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَحَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ".
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الحدود، حديث (4372)، والنسائي في سننه، في كتاب تحريم الدم، حديث (4046). وحسنه الألباني، في صحيح سنن أبي داود (3/ 47)، حديث (4372).
(1)
الوسيط في تفسير القرآن المجيد (2/ 182).
(2)
إكمال المعلم (5/ 550).
(3)
عمدة القاري (23/ 273 - 274).
(4)
حاشية السندي على سنن ابن ماجة (7/ 142).
(5)
تفسير ابن كثير (2/ 54).
(6)
فتح الباري (12/ 114 - 115).
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب:
1 -
اعتُرِضَ على هذا المذهب: بأن الكفار إذا تابوا فإن الحد يسقط عنهم، سواء كانت توبتهم قبل القدرة عليهم، أو بعدها، وذلك لقوله تعالى:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)[الأنفال: 38]، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء؛ وأما آية الحرابة فإنها اشترطت أنْ تكون التوبة قبل القدرة عليهم، فدل على أنها في المسلمين لا في الكفار.
2 -
واعتُرِضَ أيضاً: بأنها لو كانت خاصة بالكفار المرتدين لكان حكمهم القتل مطلقاً، لا ما ذكر في الآية من التفصيل؛ إذ في الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا يُنفى، وفيها قطع اليد والرجل، والمرتد لا تُقطع له يد ولا رجل، فثبت أنها لا يراد بها المشركون، ولا المرتدون. (1)
3 -
واعتُرِضَ أيضاً: بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والآية وإن قيل إنها نزلت في المشركين؛ إلا أنَّ حكمها عام، ولا يصح تخصيصها بالمشركين.
وأجيب: بأن جميع ما ذُكِرَ في الآية من أحكام فهو عام في المسلمين وغيرهم، إلا أنَّ الوعيد في آخر الآية خاص بالمشركين دون المسلمين، ولا مانع من تخصيص أحكام العام ببعض أفراده، إذا دلَّ الدليل على ذلك، وقد قام الدليل وهو سبب نزول الآية.
المذهب الثاني: أنَّ حديث عبادة رضي الله عنه عام، والآية مخصصة لعمومه، فكل من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، عدا الحرابة فإن إثمها باق عليه، وإنْ أقيم عليه حدها، ولا يسقطها عنه إلا التوبة إلى الله تعالى.
وهذا مذهب: الطحاوي (2)، والجصاص، وابن حزم، وابن عطية (3)، وابن الفرس (4)(5)، وأبي عبد الله القرطبي (6)، وابن جزي (7)، وابن عاشور
(1) انظر: أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 93).
(2)
مشكل الآثار (4/ 426).
(3)
المحرر الوجيز (2/ 185).
(4)
هو: عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي، أبو عبد الله، المعروف بابن الفرس: قاضٍ أندلسي، من علماء غرناطة. ولي القضاء بجزيرة شقر، ثم في وادي آش، ثم في جيان. وأخيراً بغرناطة، وجُعل إليه النظر في الحسبة والشرطة. وتوفي في إلبيرة. له تآليف، منها (كتاب أحكام القرآن) فرغ من تأليفه بمرسية سنة 553 هـ، (ت: 599هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (4/ 168).
(5)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ل 393 ب) مخطوط.
(6)
تفسير القرطبي (6/ 103).
(7)
التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 230).
(1)
، والقاسمي (2).
قال الجصاص: "قوله تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) يدل على أنَّ إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه؛ لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم". اهـ (3)
وقال ابن حزم: "كل من أصاب ذنباً فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط عنه ما أصاب من ذلك - تاب أو لم يتب - حاشا المحاربة، فإن إثمها باقٍ عليه، وإن أقيم عليه حدها، ولا يسقطها عنه إلا التوبة لله تعالى فقط.
برهان ذلك: ما رويناه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: .... ، ثم ذكر الحديث وقال: وأما تخصيصنا المحاربة من جميع الحدود، فلقول الله تعالى:(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33))، فنص الله تعالى نصاً لا يحتمل تأويلاً، على أنهم مع إقامة هذا الحد عليهم، أنه لهم خزي في الدنيا، ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب عظيم، فوجب استعمال النصوص كلها كما جاءت، وأن لا يُترك شيء منها لشيء آخر، وليس بعضها أولى بالطاعة من بعض، وكلها حق من عند الله تعالى، ولا يجوز النسخ في شيء من ذلك:
أما حديث عبادة: فإنه فضيلة لنا أنْ تكفر عنا الذنوب بالحد، والفضائل لا تنسخ؛ لأنها ليست أوامر، ولا نواهي، وإنما النسخ في الأوامر والنواهي، سواء وردت بلفظ الأمر والنهي أو بلفظ الخبر، ومعناه الأمر والنهي. وأما الخبر المحقق فلا يدخل النسخ فيه، ولو دخل لكان كذباً، وهذا لا يجوز أنْ يُظن بشيء من أخبار الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الآية في المحاربة: فإن وجوب العذاب في الآخرة مع الخزي في
(1) التحرير والتنوير (6/ 186).
(2)
محاسن التأويل (4/ 122).
(3)
أحكام القرآن، للجصاص (2/ 516).
الدنيا بإقامة الحد عليهم: خبر مجرد من الله تعالى، لا مدخل فيه للأمر والنهي، فَأُمِنَ دخول النسخ في شيء من ذلك، والحمد لله رب العالمين". اهـ (1)
ويرد على هذا القول:
بأن قتل العمد ورد فيه وعيد في الآخرة، كما ورد في آية الحرابة، فقال تعالى:(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)) [النساء: 93]، مع أنَّ حديث عبادة رضي الله عنه نص على أنَّ حد القصاص مكفر لإثم القتل، فهل يقال: إنَّ وعيد القاتل مخصوص فيه، وأن الحد لا يكفره؟!
ويلزم من هذا القول أنَّ إقامة الحد على المحاربين غير مكفرٍ لهم، بل لا بد من التوبة مع الحد، وعليه فما الفائدة حينئذ من إقامة الحد، خصوصاً وقد ورد النص صريحاً بأن الحد مكفر للذنب، وهو نص عام في جميع الحدود.
المذهب الثالث: وهو مذهب القائلين باشتراط التوبة لتكفير الحد للذنوب، وهؤلاء لا تعارض عندهم بين الآية والحديث؛ لأن الوعيد في الآية إنما هو في حق من لم يتب.
وهذا المذهب هو اختيار: ابن جرير الطبري (2)، وابن مفلح، وابن الهمام (3).
قال ابن مفلح: "وأما آية المحاربة فإنما فيها له عذاب في الآخرة .... ، ونحن نقول بها، لكن على إصراره وعدم توبته، لا على ذنب حُدَّ عليه". اهـ (4)
واعتُرِضَ: بأن حديث عبادة رضي الله عنه ورد مطلقاً ولم يُقيّد بالتوبة، وورد أيضاً بصيغة العموم على كل من أقيم عليه الحد.
المذهب الرابع: أنَّ الخزي الوارد في الآية إنما هو لمن عوقب في
(1) المحلى (12/ 14 - 15).
(2)
تفسير الطبري (4/ 560).
(3)
فتح القدير، لابن الهمام (5/ 211).
(4)
الآداب الشرعية (1/ 106).