الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة [10]: في قصة الغرانيق
.
المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة:
قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى (1) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)) [الحج: 52 - 53].
المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية:
(88)
ـ (75): عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة؛ فقرأ سورة النجم، حتى انتهى إلى قوله تعالى:(أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20] فجرى على لسانه: (تلك الغرانيق (2) العُلى،
(1) اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: (تَمَنَّى) على قولين:
الأول: أن تمنى بمعنى: قرأ وتلا، ومنه قول حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنه:
تَمَنَّى كتاب الله أوَّل ليلِهِِ
…
وآخِرها لاقى حِمام المقادِرِ
وعلى هذا المعنى الجمهور من المفسرين، كما حكاه البغوي، وابن القيم.
القول الثاني: أن تمنى في الآية من التمني المعروف، الذي أداته (ليت).
انظر: تفسير البغوي (3/ 293)، وإغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 93)، وأضواء البيان، للشنقيطي (5/ 729).
(2)
الغرانيق: المراد بها ها هنا الأصنام، وهي في الأصل الذكور من طير الماء، واحدها غرنوق وغرنيق، سمي به لبياضه، وقيل: هو الكركي. والغرنوق أيضاً الشاب الناعم =
الشفاعة منها تُرتجى) قال: فسمع ذلك مشركو مكة، فَسُرُّوا بذلك، فاشتَدَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))». (1)
= الأبيض، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التي تعلوا في السماء وترتفع. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (3/ 364).
(1)
رُوي هذا الحديث موصولاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومرسلاً عن عدد من التابعين، وسأذكر هذه الروايات كلها مع تخريجها، واستيفاء طرقها، وبيان عللها:
أولاً: رواية ابن عباس رضي الله عنهما:
وقد رُويتْ عنه من خمسة طرق:
الطريق الأول: رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
وله عن سعيد بن جبير طريقان:
1 -
عن أبي بشر، عن سعيد، به:
أخرجه البزار في مسنده [كما في كشف الأستار، للهيثمي (3/ 72)، وتخريج الأحاديث والآثار، للزيلعي (2/ 391)، وتفسير الحافظ ابن كثير (3/ 240)] قال البزار: حدثنا يوسف بن حماد، حدثنا أمية بن خالد، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - فيما أحسب، الشك في الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم
…
، فذكره.
ورواه ابن مردويه في تفسيره [كما في تخريج الأحاديث والآثار، للزيلعي (2/ 394)] من حديث يوسف بن حماد، به، عن سعيد بن جبير قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فقرأ سورة النجم، حتى بلغ: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20]؛ فألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى) فلما بلغ آخرها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون، وأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)) [الحج: 52]» .
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 53)، عن الحسين بن إسحاق التستري، وعبدان بن أحمد، كلاهما عن يوسف بن حماد، به. وفيه: لا أعلمه إلا عن ابن عباس.
ومن طريق الطبراني أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/ 89).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 115): «رواه البزار والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح، إلا أن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الطبراني قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم». اهـ
قلت: لفظ رواية البزار هي المذكورة في المتن، والحديث من هذه الطريق فيه ثلاث علل:
الأولى: الاختلاف على شعبة في وصله وإرساله، حيث لم يصله عنه إلا أمية بن خالد، وهو وإن كان ثقة فقد خولف، خالفه - كما سيأتي - محمد بن جعفر، وعبد الصمد، وأبو داود، ثلاثتهم عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مرسلاً. والقاعدة أن رواية الأكثر مقدمة على رواية الفرد، ونسبة الخطأ للواحد أقوى من نسبتها للجماعة.
العلة الثانية: التردد في وصل الحديث وإرساله، وهذه العلة وحدها تُعد كافية للقدح في الرواية الموصولة، وترجيح رواية الإرسال الصحيحة عليها، كما سيأتي.
العلة الثالثة: أن الحديث قد روي من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلاً، فقد رواه الواحدي في أسباب النزول، ص (310) من طريق سهل العسكري، حدثنا يحيى - هو القطان - عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، مرسلاً، وقد رُوي موصولاً؛ لكن لا يصح، كما سيأتي.
إلا أن الحافظ ابن حجر لم يعتد بهذه العلل، حيث قال:«أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلاً؛ فإن الجميع ثقات، وأما الشك فيه، فقد يجيء تأثيره ولو فرداً غريباً، لكن غايته أن يصير مرسلاً .... ، وهو حجة إذا اعتضد عند من يَرُدّ المرسل، وهو إنما يعتضد بكثرة المتابعات» . اهـ من الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (3/ 161).
2 -
عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، به:
أخرجه ابن مردويه في تفسيره [كما في تخريج الأحاديث والآثار، للزيلعي (2/ 394)] قال: حدثني إبراهيم بن محمد، حدثني أبو بكر محمد بن علي المقرئ البغدادي، حدثنا جعفر بن محمد الطيالسي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20] (تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى) ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا؛ فجاءه جبريل فقال: اقرأ علي ما جئتك به. فقرأ له كذلك؛ فقال: ما أتيتك بهذا، وإن هذا لمن الشيطان؛ فأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))» .
ومن طريق ابن مردويه أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/ 234).
قلت: الحديث من هذه الطريق معلول من أوجه:
الأول: جهالة حال أبي بكر محمد بن علي المقرئ:
وترجمته في تاريخ بغداد (3/ 68): «محمد بن علي بن الحسن، أبو بكر المقرئ، حدث عن محمود بن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= خداش، ومحمد بن عمرو، وابن أبى مذعور، روى عنه أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن أحمد بن يحيى العطشي، توفي سنة ثلاثمائة».
قال الألباني في نصب المجانيق، ص (17):«لم يذكر فيه الخطيب جرحاً ولا تعديلاً؛ فهو مجهول الحال، وهو علة هذا الإسناد الموصول» . اهـ
الوجه الثاني: الاختلاف على أبي عاصم النبيل في وصله وإرساله، فقد رواه الواحدي في أسباب النزول، ص (310) من طريق سهل العسكري، عن يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، مرسلاً، ورواية الواحدي أصح، كما سيأتي.
الوجه الثالث: أن رواية الإرسال موافقة للرواية الصحيحة، من طريق شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مرسلاً، وهي أصح ما في الباب، وقد رويت عن شعبة من ثلاثة طرق كلها صحيحة، كما سيأتي.
وقد أورد السيوطي في الدر المنثور (4/ 661) الحديث من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بلا تردد، ونسبه للبزار، والطبراني، وابن مردويه، والضياء في المختارة، وقال:«بسند رجاله ثقات» . وأما المتن فقد ساق متن رواية عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، والتي أخرجها ابن مردويه بلا تردد.
وقد تعقب الألبانيُ السيوطيَ، وادعى أنه وهم في عزوه للضياء في المختارة، وأن قوله:«بسند رجاله ثقات» إيهام منه، حيث يوحي بصحة الحديث، وأنه ليس بمعلول، قال:«وهذا خلاف الواقع، فإنه معلول بتردد الراوي في وصله، كما نقلناه عن تفسير الحافظ ابن كثير، وكذلك هو في تخريج الكشاف وغيره، وهذا ما لم يَرِدْ ذِكرُه في سياق السيوطي، ولا أدري أذلك اختصار منه، أم من بعض مخرجي الحديث؟ وأياً ما كان، فما كان يليق بالسيوطي أن يُغفل هذه العلة، لا سيما وقد صرح بما يشعر أن الإسناد صحيح، وفيه من التغرير ما لا يخفى، فإن الشك لا يوثق به، ولا حقيقة فيه» . اهـ من نصب المجانيق، ص (12). وقد تبع الألبانيَ على ذلك: علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي، في كتابه دلائل التحقيق، ص (89).
قلت: لم يهم السيوطي في عزو الحديث للضياء في المختارة، فهو مخرج عنده، كما ذكرته آنفاً في تخريج الحديث، وأما إغفال السيوطي لتردد الراوي فليس ذاك عن سهوٍ أو خطأ منه؛ لأنه إنما أورد رواية عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، والتي أخرجها ابن مردويه بلا تردد، وظاهر إسنادها الصحة، وكأن السيوطي لم يقف على علة هذه الرواية، والألبانيُ اعتقد أن السيوطي أراد رواية أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بالتردد، وقد خطأ السيوطيَ أيضاً في إيراده لمتن هذه الرواية، والحق أن السيوطي أوردها كما هي، وأن الوهم من الألباني، رحم الله الجميع.
وأما الحافظ ابن حجر فقد صحح الحديث من هذه الطريق فقال: «ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلاً، وأخرجه ابن مردويه من طريق أبي عاصم النبيل، عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه، ولم يشك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= في وصله، وهذا أصح طرق هذا الحديث». اهـ من الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف (3/ 161).
إلا أن الألباني لم يرتضِ عبارة الحافظ هذه، واستبعد نسبتها إليه فقال:«وفي عبارة الحافظ شيء من التشويش، ولا أدري أذلك منه، أم من النساخ؟ وهو أغلب الظن، وذلك لأن قوله: «وهذا أصح طرق هذا الحديث» إن حملناه على أقرب مذكور، وهو طريق ابن مردويه الموصول كما هو المتبادر، منعنا من ذلك أمور:
الأول: قول الحافظ عقب ذلك: «فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً» فإن فيه إشارة إلى أن ليس هناك إسناد صحيح موصول يعتمد عليه، وإلا لَعرَّج عليه وجعله أصلاً، وجعل الطريق المرسلة شاهدة ومُقَوية له، ويؤيده الأمر الآتي وهو:
الثاني: وهو أن الحافظ لما رَدَّ على القاضي عياض تضعيفه للحديث من طريق إسناد البزار الموصول بسبب الشك، قال الحافظ:«أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلاً (قلت: يعني في رواته)؛ فإن الجميع ثقات، وأما الشك فيه، فقد يجيء تأثيره ولو فرداً غريباً ـ كذا ـ لكن غايته أن يصير مرسلاً، وهو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة، وهو حجة إذا اعتضد عند من يَرُدّ المرسل، وهو إنما يعتضد بكثرة المتابعات» .
قال الألباني: فقد سلَّم الحافظ بأن الحديث مُرْسَلٌ، ولكن ذهب إلى تقويته بكثرة الطرق .... ، فلو كان إسناد ابن مردويه الموصول صحيحاً عند الحافظ، لرد به على القاضي عياض، ولما جعل عمدته في الرد عليه هو كثرة الطرق، وهذا بيّن لا يخفى.
الثالث: أن الحافظ في كتابه فتح الباري لم يُشِرْ أدنى إشارة إلى هذه الطريق فلو كان هو أصح طرق الحديث، لذكره بصريح العبارة، ولجعله عمدته في هذا الباب كما سبق.
الرابع: أن من جاء بعده ـ كالسيوطي وغيره ـ لم يذكروا هذه الرواية.
فكل هذه الأمور تمنعنا من حمل اسم الإشارة (هذا) على أقرب مذكور، وتضطرنا إلى حمله على البعيد، وهو الطريق الذي قبل هذا، وهو طريق سعيد بن جبير المرسل. وهو الذي اعتمده الحافظ في الفتح وجعله أصلاً، وجعل الروايات الأخرى شاهدة له». اهـ كلام الألباني، من نصب المجانيق، ص (13 - 15).
قلت: يحتمل أن الحافظ ابن حجر لم يقف على رواية عثمان بن الأسود، وقت تعليقه على الحديث في فتح الباري، يقوي هذا الاحتمال أن هذه الرواية لم يُشرْ إليها الحافظ في الفتح أدنى إشارة، ولعله اطلع عليها بعد ذلك فدونها في تخريجه لأحاديث الكشاف، والله تعالى أعلم.
ثم وقفت على طريق أخرى لهذه الرواية؛ أخرجها أبو الليث السمرقندي في تفسيره (2/ 400) قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد [في أصل الكتاب: جعفر بن زيد] الطيالسي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود [في أصل الكتاب: عمار بن الأسود]، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= [النجم: 20] ثم قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن الشفاعة منها ترتجى)، فقال المشركون: قد ذكر آلهتنا في أحسن الذكر؛ فنزلت الآية».
قلت: هذا الإسناد فيه سقط، وصوابه ما جاء في تفسير ابن مردويه: حدثني إبراهيم بن محمد، حدثني أبو بكر محمد بن علي المقرئ البغدادي، حدثنا جعفر بن محمد الطيالسي .... ، والساقط في الإسناد هو آفة الحديث، وهو أبو بكر المقرئ، وقد تقدم الكلام فيه.
الطريق الثاني: رواية العوفي، عن ابن عباس، به:
أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 176)، قال: حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:«قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)) وذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه، فبينما هو يتلوها وهو يقول: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20] ألقى الشيطان: (إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى)، فجعل يتلوها فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها، ثم قال له: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))» .
وأخرجه ابن مردويه في تفسيره [كما في تخريج الأحاديث والآثار، للزيلعي (2/ 394)]، عن أحمد بن كامل، عن محمد بن سعد، به.
محمد بن سعد: هو العوفي، لين الحديث.
قوله: حدثني أبي: هو سعد بن محمد بن الحسن، ضعيف.
قوله: حدثني عمي: هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، ضعيف.
قوله: حدثني أبي: هو الحسن بن عطية، متفق على ضعفه.
قوله: عن أبيه: هو عطية بن سعد بن جنادة، شيعي ضعيف مدلس.
وهذا الإسناد: ضعيف جداً؛ فإنه مسلسل بالعوفيين، وهي سلسلة واهية باتفاق النقاد من المحدثين.
الطريق الثالث: رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس:
أخرجها ابن مردويه في تفسيره [كما في فتح الباري، لابن حجر (8/ 293)]، من طريق عباد بن صهيب، عن يحيى بن كثير، حدثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وهو بمكة فأتى على هذه الآية: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) فألقى الشيطان على لسانه: (إنهن الغرانيق العلى)؛ فأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))» .
وإسناده ضعيف جداً؛ فيه: عباد بن صهيب البصري، أحد المتروكين، قال ابن المديني: ذهب حديثه. وقال البخاري، والنسائي، وغيرهما: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= متروك. وقال ابن حبان: كان قدرياً داعية، ومع ذلك يروي أشياء إذا سمعها المبتدي في هذه الصناعة شهد لها بالوضع. وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ضعيف الحديث، تركت حديثه.
انظر: لسان الميزان (3/ 230).
وفيه الكلبي متهم بالكذب، كما في التقريب (2/ 173)، وقد روى ابن عدي، في كتابه الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 115) بسنده عن سفيان الثوري قال:«قال الكلبي: كل شيء أحدث عن أبي صالح فهو كذب» .
الطريق الرابع: رواية سليمان التيمي، عمن حدثه، عن ابن عباس:
ذكرها السيوطي في الدر (4/ 661) وعزاها لابن مردويه في تفسيره، وذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 293)، من طريق عباد بن صهيب، المتقدم، ولفظها لفظ رواية الكلبي نفسه، عن أبي صالح.
وهذه الرواية كسابقتها فيها عباد بن صهيب، وفيها راوٍ لم يُسمَّ.
الطريق الخامس: رواية أبي بكر الهذلي، وأيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس:
أخرجها ابن مردويه [كما في فتح الباري، لابن حجر (8/ 293)]، من طريق عباد بن صهيب، عن يحيى بن كثير، حدثنا أبو بكر الهذلي، وأيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، به. ولفظها لفظ رواية الكلبي نفسه، عن أبي صالح.
وهذه الرواية ضعيفة؛ فيها عباد بن صهيب، متروك كما تقدم.
ثانياً: رواية سعيد بن جبير، مرسلة:
وقد روُيت عنه من طريقين:
الأول: طريق شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، به.
وله عن شعبة ثلاثة طرق:
1 -
طريق محمد بن جعفر:
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 176)، قال: حدثنا ابن بشار قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال:«لما نزلت هذه الآية: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)) [النجم: 19] قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير. فسجد المشركون معه فأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))» .
2 -
طريق عبد الصمد:
أخرجه ابن جرير في الموضع السابق قال: حدثنا ابن المثنى قال: ثني عبد الصمد قال: ثنا شعبة قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)) .... ». قال ابن جرير: «ثم ذكر نحوه» . يريد نحو رواية محمد بن جعفر السابقة.
3 -
طريق أبي داود:
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره [كما في تفسير ابن كثير (3/ 239)] قال: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد صحح إسناد هذه الرواية المرسلة عن سعيد بن جبير: الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 293)، والسيوطي في الدر (4/ 661)، وفي لباب النقول، ص (201)، والألباني في نصب المجانيق، ص (10) و (45).
قلت: وهو كما قالوا؛ إلا أن صحة إسنادها لا يعني قبولها؛ فهي ضعيفة لإرسالها.
الثاني: طريق عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، به.
أخرجه الواحدي في أسباب النزول، ص (310) قال: أخبرنا أبو بكر الحارثي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حيان قال: أخبرنا أبو يحيى الرازي قال: أخبرنا سهل العسكري قال: أخبرنا يحيى، عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير قال:«قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20] فألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى)؛ ففرح بذلك المشركون وقالوا: قد ذكر آلهتنا؛ فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اعرض عليَّ كلام الله، فلما عرض عليه قال: أما هذا فلم آتك به، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))» .
وإسناد هذه الرواية أصح من رواية ابن مردويه الموصولة.
قال الألباني في نصب المجانيق، ص (16) - بعد أن ساق رواية الواحدي هذه -:«فرجع الحديث إلى أنه عن عثمان بن الأسود، عن سعيد، مرسل، وهو الصحيح، لموافقة روايةِ عثمان هذه روايةَ أبي بشر، عن سعيد» . اهـ
ثالثاً: رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، مرسلة:
أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 177) قال: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أنه سُئِل عن قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)) قال ابن شهاب: ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم إذا هوى فلما بلغ: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) قال: (إن شفاعتهن ترتجى) وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا بذلك فقال لهم: إنما ذلك من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الشيطان؛ فأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))».
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 293) عن هذه الرواية: مرسل رجاله على شرط الصحيحين. وقال السيوطي في الدر (4/ 662): مرسل صحيح الإسناد. ووافقهما الألباني في نصب المجانيق، ص (18) و (45).
رابعاً: رواية ابن شهاب الزهري، مرسلة:
أخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره [كما في تفسير الحافظ ابن كثير (3/ 240)] قال: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي، حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال:«لما أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنته ضلالتهم، فكان يتمنى كف أذاهم؛ فلما أنزل الله سورة النجم قال: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت فقال: (وإنهن لهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى) فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وذلقت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد، وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة، فأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)) فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين، واشتدوا عليه» .
وإسناده صحيح؛ إلا أن محمد بن فليح لم يُتابع في روايته عن موسى بن عقبة؛ فقد رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 285)، من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبه .... ، فذكره بمثله سواء، ولم يذكر ابن شهاب؛ فيكون معضلاً.
خامساً: رواية عروة بن الزبير، مرسلة:
أخرجها الطبراني في المعجم الكبير (9/ 34)، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، ثنا أبي، ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: «حين أنزل الله عز وجل السورة التي يذكر فيها (والنجم إذا هوى) قال المشركون من قريش: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، فإنه لا يذكر أحداً ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر؛ فلما أنزل الله عز وجل السورة التي يذكر فيها والنجم وقرأ: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت فقال: (وإنهن لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى) وذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك وذلقت بها ألسنتهم، واستبشروا بها وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة التي فيها النجم سجد وسجد معه كل من حضر من مسلم ومشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً فرفع على كفه تراباً فسجد عليه، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين، وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثهم الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السجدة؛ فسجدوا لتعظيم آلهتهم، ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة
…
، وكَبُرَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فشكا إليه، فأمره فقرأ عليه، فلما بلغها تبرأ منها جبريل عليه السلام وقال: معاذ الله من هاتين، ما أنزلهما ربي ولا أمرني بهما ربك، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليه وقال: أطعت الشيطان وتكلمت بكلامه، وشركني في أمر الله. فنسخ الله عز وجل ما ألقى الشيطان وأنزل عليه:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))».
إسناده ضعيف، لضعف ابن لهيعة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 72):«رواه الطبراني، وفيه ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة» .
سادساً: رواية محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس:
أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 174)، قال: حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس قالا: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نادٍ من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه؛ فأنزل الله عليه:(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)) [النجم: 1 - 2] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20] ألقى عليه الشيطان كلمتين: (تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترجى) فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا: فلما أمسى أتاه جبرائيل عليه السلام فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل؛ فأوحى الله إليه:(وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)) [الإسراء: 73 - 75] فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))».
إسناده ضعيف، فيه أبو معشر، واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي، وهو ضعيف، كما في التقريب (2/ 303).
وأخرجه الطبري (9/ 175) من طريق آخر عن محمد بن كعب القرضي فقال: حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي قال:«لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه، وكان يسره مع حبه وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم حين حدث بذلك نفسه، وتمنى وأحبه؛ فأنزل الله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)) [النجم: 1] فلما انتهى إلى قول الله: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتضى)، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل، فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقاً لما جاء به، واتباعاً لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم؛ لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخاً كبيراً فلم يستطع؛ فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها .... ، وأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك .... » .
وهو ضعيف أيضاً، فيه ابن حميد، واسمه محمد بن حميد بن حيان الرازي، ضعيف، كما في التقريب (2/ 165).
سابعاً: رواية الضحاك بن مزاحم:
أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 177)، قال: حُدِّثتُ عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ): «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو اللات والعزى ويكثر ترديدها، فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا بذلك ودنوا يستمعون؛ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى) فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأنزل الله عليه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))».
وهذه الرواية ضعيفة؛ لانقطاعها؛ حيث لم يصرح الطبري بمن حدثه.
ثامناً: رواية أبي العالية الرياحي:
أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 176) قال: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا المعتمر قال: سمعت داود، عن أبي العالية قال:«قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما جلساؤك عبد بني فلان، ومولى بني فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك؛ فإنه يأتيك أشراف العرب، فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك. قال: فألقى الشيطان في أمنيته؛ فنزلت هذه الآية: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) قال: فأجرى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترجى، مثلهن لا ينسى) قال فسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأها، وسجد معه المسلمون والمشركون، فلما علم الذي أجري على لسانه كبر ذلك عليه؛ فأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))» .
وأخرجه من وجه آخر عن أبي العالية فقال: حدثنا ابن المثنى قال: ثنا أبو الوليد قال: ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قال: .... ، فذكره بنحوه.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 293): «مرسل رجاله على شرط الصحيحين» . وصحح إسناده السيوطي في الدر (4/ 663)، ووافقهما الألباني، في نصب المجانيق، ص (21) و (45).
تاسعاً: رواية قتادة بن دعامة السدوسي:
وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 178)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، به.
وأخرجه أيضاً عن ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، به.
وإسناده صحيح، صححه الألباني في نصب المجانيق، ص (23) و (45). لكنه مرسل.
عاشراً: رواية مجاهد بن جبر:
ذكرها السيوطي في الدر (4/ 663)، وعزاها لعبد بن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حميد، عن مجاهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ النجم؛ فألقى الشيطان على فيه، ثم أحكم الله آياته.
ولم أقف على إسناد هذه الرواية.
حادي عشر: رواية عكرمة مولى ابن عباس:
ولم أقف على إسناد هذه الرواية.
ثاني عشر: رواية السدي:
ذكرها السيوطي في الدر (4/ 663)، وعزاها لابن أبي حاتم في تفسيره، عن السدي قال:«خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ليصلي، فبينما هو يقرأ إذ قال: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) فألقى الشيطان على لسانه فقال: (تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن ترتجى) حتى إذا بلغ آخر السورة سجد، وسجد أصحابه، وسجد المشركون لذكره آلهتهم، فلما رفع رأسه حملوه فاشتدوا به بين قطري مكة يقولون: نبي بني عبد مناف، حتى إذا جاءه جبريل عرض عليه فقرأ ذينك الحرفين فقال جبريل: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا، فاشتد عليه؛ فأنزل الله يطيب نفسه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))» .
ولم أقف على إسناد هذه الرواية.
ثالث عشر: رواية محمد بن فضالة الظفري، والمطلب بن عبد الله بن حنطب:
أخرجها ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 205) قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني يونس بن محمد بن فضالة الظفري، عن أبيه قال: .... ، وحدثني كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قالا: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه كفاً عنه، فجلس خالياً فتمنى فقال: ليته لا ينزل علي شيء ينفرهم عني، وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يوماً مجلساً في نادٍ من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم:(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1))، (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) ألقى الشيطان كلمتين على لسانه:(تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما ثم مضى فقرأ السورة كلها، وسجد وسجد القوم جميعاً، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود .... ، فرضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، وأما إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، فَكَبُرَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة فقال جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت على الله ما لم يقل؛ فأوحى الله إليه: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)) [الإسراء: 73]».
إسناده ضعيف: فيه محمد بن عمر الواقدي، متروك، كما في التقريب (2/ 203).
قال النحاس، في الناسخ والمنسوخ (2/ 529):«هذا حديث منكر منقطع، ولا سيما من حديث الواقدي» .
أقوال العلماء في نقد أسانيد هذه القصة:
وبعد أن خلصنا من تخريج القصة، وبيان طرقها وعللها، نذكر الآن ما قاله النقاد من أهل الحديث في الحكم عليها:
قال ابن خزيمة: «هذه القصة من وضع الزنادقة» . نقله عنه الفخر الرازي في تفسيره (23/ 44).
وقال البيهقي: «هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل» . نقله عنه الفخر الرازي في تفسيره (23/ 44).
وقال القاضي عياض، في الشفا (2/ 79):«هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل .... ، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة: عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: فيما أحسب ـ الشك في الحديث ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة .... ، وذكر القصة» . اهـ
ثم نقل كلام البزار، وقال: «فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يُعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه، كما ذكرناه، الذي لا يوثق به، ولا حقيقة معه.
قال: وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه، ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله.
والذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: والنجم - وهو بمكة - فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس». اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 239): «قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم» . اهـ
وأما الحافظ ابن حجر فيرى ثبوت القصة لكثرة طرقها، لكنه مع ذلك يوجب تأويلها، وعدم حملها على ظاهرها؛ لما فيها من القدح بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 293) - بعد أن ساق بعضاً من روايات القصة وطرقها -: «وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإلا منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين، رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني أبو بكر بن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .... ، فذكره. والثاني: ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة، فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية.
قال: وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه، وكذا قول عياض: .... ، ثم ساق كلامه وقال: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرتُ أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به؛ لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله:«ألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)» فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد؛ لمكان عصمته، وقد سلك العلماء في ذلك مسالك .... ». اهـ. ثم ذكر هذه المسالك، وسيأتي ذكرها في أصل المسألة عند ذكر مذاهب العلماء تجاه الإشكال الوارد في الحديث.
الخلاصة:
وبعد هذا الاستطراد في تخريج الحديث يحسن بنا تلخيصه في النقاط الآتية:
أولاً: طُرق الحديث:
1 -
رُوي مسنداً عن ابن عباس رضي الله عنهما، من عدة طرق، ولا يصح منها شيء.
2 -
رُوي عن سعيد بن جبير، مرسلاً، وموصولاً إلى ابن عباس، ولا يصح إلا المرسل فقط.
3 -
رُوي مرسلاً عن أربعة عشر تابعياً، ولا يصح إلا رواية سعيد بن جبير، وأبي العالية، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وقتادة؛ وهي وإن صحت إليهم فإن ذلك لا يعني قبولها؛ لأنها مراسيل، والمُرسَل في عداد الحديث الضعيف.
ثانياً: ألفاظ الحديث:
رُوي بثلاثة ألفاظ:
الأول: أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «تلك الغرانيق العلى
…
».
جاء ذلك في رواية ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير، عنه.
ومن طريق الكلبي، وسليمان التيمي، وأبي بكر الهذلي، وأيوب، عنه.
ورُوي هذا اللفظ عن: سعيد بن جبير، وأبي العالية، ومحمد بن كعب القرضي، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، ومحمد بن فضالة الظفري، والمطلب بن عبد الله بن حنطب.
اللفظ الثاني: أن الشيطان هو الذي تكلم بتلك الكلمات.
جاء ذلك في رواية ابن عباس، من طريق العوفي، عنه.
ورُوي هذا اللفظ عن: ابن شهاب الزهري، وعروة بن الزبير، ومحمد بن كعب القرضي ـ في رواية أخرى عنه ـ ومحمد بن قيس، والضحاك، وقتادة.
اللفظ الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فقال تلك الكلمات.
جاء ذلك في رواية أبي بكر بن عبد الرحمن.