الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث:
اتفق أهل السُّنَّة على أَنَّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لا يُورَث (1)، أخذاً بأحاديث المسألة (2)،
وشذَّت الشيعة (3)، فقالوا: بل يُورَث. وأنكروا أحاديث المسألة، وطعنوا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في روايته لها. (4)
واختلف أهل السنة في بَقِيَّةِ الأنبياء عليهم السلام هل يُورَثون أم لا؟ على ثلاثة مذاهب:
= ص (279)، والناسخ والمنسوخ، للنحاس (3/ 63)، وفتح الباري، لابن حجر (12/ 10)، وعمدة القاري، للعيني
(17/ 130)، (23/ 232)، والصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، لابن حجر الهيثمي (1/ 101)، ونيل الأوطار، للشوكاني (6/ 197).
(1)
حكى الاتفاق: ابن حزم في "الفصل"(3/ 9)، وابن عبد البر في "التمهيد"(8/ 174 - 175).
(2)
والحديث الأول متواتر، كما نص على ذلك الكتاني في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر"، ص (227 - 228)، وعزا القول بتواتره للحافظ ابن حجر في أماليه.
(3)
الشيعة هم: الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده، وقالوا: إن الإمامة هي ركن الدين، لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفالها وإهمالها، ولا تفويضها إلى العامة وإرسالها. ويجتمع الشيعة على القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً، عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري، قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك، وهم خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة، وإسماعيلية، وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السنة، وبعضهم إلى التشبيه. انظر: الملل والنحل، للشهرستاني، ص (169 - 170).
(4)
مذهب الشيعة - في وراثة النبي صلى الله عليه وسلم يقرره الشيعي الطبرسي في كتابه "مجمع البيان"(6/ 503)، حيث يقول - في تفسير قوله تعالى:(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)[مريم: 6]-: "واستدل أصحابنا بالآية على أن الأنبياء يُورَثون المال، وأن المراد بالإرث المذكور فيها إرث المال دون العلم والنبوة، فلفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يُطلق =
الأول: أنهم لا يُورَثون مطلقاً، كنبينا عليه وعليهم السلام.
وهذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف. (1)
وحكاه أبو الوليد الباجي (2)(3)، وابن القيم (4)، والسيوطي (5) إجماعاً.
واحتج الجمهور على منع وراثة الأنبياء:
بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا نُورَثُ" حيث جمع الضمير باعتبار مشاركة بقية الأنبياء له في ذلك.
قالوا: ويدل على العموم حديث: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ"(6)، وحديث: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا،
= إلا على ما يُنقل من الموروث إلى الوارث؛ كالأموال، ولا يستعمل في غير المال إلا على طريق المجاز والتوسع، ولا يُعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة". اهـ
ومذهب الشيعة هذا باطل بإجماع أهل السنة، وقد تصدى لإنكاره وبيان بطلانه جمع من علماء أهل السنة، كابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر الهيثمي، وغيرهم.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(27/ 387 - 388) - بعد أن حكى مذهبهم -: "وليس قولهم هذا مما يُشتغل به، ولا يُحكى مثله، لما فيه من الطعن على السلف، والمخالفة لسبيل المؤمنين".
وقال: "وكيف يسوغ لمسلم أن يظن أن أبا بكر رضي الله عنه منع فاطمة ميراثها من أبيها صلى الله عليه وسلم، ومعلوم عند جماعة العلماء أن أبا بكر رضي الله عنه كان يعطي الأحمر والأسود، ويسوي بين الناس في العطاء، ولم يستأثر لنفسه بشيء، ويستحيل في العقل أن يمنع فاطمة ويرده على سائر المسلمين، وقد أمر بنيه أن يردوا ما زاد في ماله منذ ولي أمر المسلمين إلى بيت المال، وقال: إنما كان لنا من أموالهم ما لبسنا على ظهورنا، وما أكلنا من طعامهم". اهـ
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد عليهم في كتابه "منهاج السنة النبوية" فانظره في (4/ 193 - 225)، وانظر: كتاب "الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة"، لابن حجر الهيثمي (1/ 92 - 102).
(1)
حكاه مذهب الجمهور: النحاس في "الناسخ والمنسوخ"(3/ 63)، وابن عبد البر في "التمهيد"
(8/ 174)، والقاضي عياض في "إكمال المعلم"(6/ 90)، والنووي في "شرح صحيح مسلم"
(12/ 117)، وأبو زرعة العراقي في "طرح التثريب"(6/ 240).
(2)
هو: سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي القرطبي، القاضي أبو الوليد الباجي الذهبي، ص (4) التصانيف، أصله من مدينة بطليوس فتحول جده إلى باجة بليدة بقرب إشبيلية فنُسِب إليها، وما هو من باجة المدينة التي بإفريقية، ولي القضاء بمواضع من الأندلس وصنف كتاب "المعاني في الفقه" وكتاب "المنتقى في شرح الموطأ"، مات سنة (474هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (18/ 535).
(3)
المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (7/ 317).
(4)
مفتاح دار السعادة (1/ 67).
(5)
الخصائص الكبرى، للسيوطي (2/ 436).
(6)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" (1)(2).
وأجابوا عن الآيات التي فيها نسبة الوراثة للأنبياء: بأن المراد إرث النبوة والعلم، لا إرث المال. (3)
قالوا: وهذا المعنى هو المروي عن السلف في تفسير الآيات؛ كمجاهد (4)، وقتادة (5)، والحسن البصري في أصح الروايات عنه (6)،
(1) أخرجه من حديث أبي الدرداء: الإمام أحمد في مسنده (5/ 196)، وأبو داود في سننه، في كتاب العلم، حديث (3641)، والترمذي في سننه، في كتاب العلم، حديث (2682).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 193): "أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححاً من حديث أبي الدرداء، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه غيرهم بالاضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوى بها". اهـ وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 407).
(2)
انظر: طرح التثريب، للعراقي (6/ 240).
(3)
انظر: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (279 - 282)، ومعاني القرآن، للزجاج (3/ 261)، وشرح مشكل الآثار، للطحاوي (3/ 10 - 12)، وأحكام القرآن، للجصاص (3/ 283)، ومفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص (863)، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (3/ 9)، والتمهيد (8/ 174)، والاستذكار (27/ 387)، كلاهما لابن عبد البر، والوسيط، للواحدي (3/ 370)، وأحكام القرآن، لابن العربي (3/ 247، 471)، وزاد المسير، لابن الجوزي (5/ 155)، ومفاتيح الغيب، للرازي (24/ 160)، والمفهم، لأبي العباس القرطبي (3/ 561 - 562)، وتفسير القرطبي (11/ 53)، (13/ 110)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (12/ 118)، ومنهاج السنة، لابن تيمية (4/ 224)، والتسهيل، لابن جزي (1/ 477)، ومفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 67)، وتفسير ابن كثير (3/ 117)، (3/ 370)، والبداية والنهاية، له (2/ 17، 44)، وطرح التثريب، لأبي زرعة العراقي (6/ 240)، وفتح الباري، لابن حجر (12/ 10)، وعمدة القاري، للعيني (17/ 130)، (23/ 232)، والخصائص الكبرى، للسيوطي (2/ 436 - 437)، والصواعق المحرقة، لابن حجر الهيثمي (1/ 101)، وتفسير أبي السعود (5/ 254)، ومرقاة المفاتيح، للقاري (11/ 129)، وفتح القدير، للشوكاني (3/ 460)، وروح المعاني، للآلوسي (4/ 582)، وأضواء البيان، للشنقيطي (4/ 206).
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (8/ 308)، وانظر: تفسير مجاهد (6/ 45).
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 2854).
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 3)، ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (8/ 308)، وإسناده صحيح.
والسدي (1).
قالوا: ومن الأدلة على أَنَّ المراد بالآيات إرث النبوة والعلم، لا إرث المال:
الأول: أنَّه لم يُذْكَرْ أَنَّ زكريا عليه السلام كان ذا مال، بل كان نجَّاراً (2) يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً، فكيف يُورَث منه، لا سيما والأنبياء عليهم السلام من أزهد الناس في الدنيا. (3)
الدليل الثاني: أَنَّ إرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل والشرب ودفن الميت، ومثل هذا لا يُقَصُّ على الأنبياء؛ إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقَصُّ ما فيه عبرة وفائدة تستفاد، وإلا فقول القائل: مات فلان وورث ابنه ماله، مثل قوله: ودفنوه، ومثل قوله: أكلوا وشربوا وناموا ونحو ذلك مما لا يحسن أَنْ يُجْعَلَ من قصص القرآن. (4)
الدليل الثالث: أَنَّ داود عليه السلام كان له أولاد كثير سوى سليمان، فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمانُ مختصاً به دون بقية أخوته. (5)
الدليل الرابع: أنَّه لا يجوز أَنْ يتأسف نبي الله على مصير ماله بعد موته، إذا وصل إلى وارثه المستحق له شرعاً. (6)
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (8/ 309).
(2)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا". أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفضائل، حديث (2379).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 117)، وانظر: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (279 - 280)، وزاد المسير، لابن الجوزي (5/ 155)، ومنهاج السنة، لابن تيمية (4/ 225)، ومفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 67).
(4)
منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (4/ 224)، وانظر: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص (282)، والتمهيد، لابن عبد البر (8/ 175 - 176)، ومفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 67)، وتفسير ابن كثير (3/ 117)، وطرح التثريب، للعراقي (6/ 240).
(5)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 67)، وانظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (3/ 9)، ومنهاج السنة النبوية، لابن تيمية (4/ 224)، وتفسير ابن كثير (3/ 370).
(6)
زاد المسير، لابن الجوزي (5/ 155)، وانظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل، =
الدليل الخامس: أنَّه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ"، وهذا اللفظ عامٌ في جميع الأنبياء ولا يَحْتَمِلُ التخصيص، ولا يجوز تفسير الآيات بمعنى يخالف هذا الحديث.
الدليل السادس: أنه ليس في كون سليمان ورث مال داود صفة مدحٍ، لا لداود، ولا لسليمان؛ فإنَّ اليهودي والنصراني يَرِثُ أباه مالَه، والآية إنما سيقت في بيان مدح سليمان وما خصَّه الله به من النعمة. (1)
الدليل السابع: أَنَّ آل يعقوب قد انقرضوا من زمان فكيف يرث زكريا مالهم، وأيضاً فإن زكريا عليه السلام لا يرث من آل يعقوب شيئاً من أموالهم، وإنما يرث ذلك أولادهم. (2)
الدليل الثامن: أَنَّ الوراثة تَرِدُ في الكتاب والسنة بمعنى وراثة العلم والدين؛ كقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)[فاطر: 32]، وقوله:(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)[الشورى: 14]، وقوله:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ)[الأعراف: 169]، إلى غير ذلك من الآيات، فلا مانع من حملها في الآيات على هذا المعنى سيما وقد وجدت قرائن تدل على هذا المعنى. (3)
الإيرادات والاعتراضات على مذهب الجمهور:
الاعتراض الأول: أَنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا نُورَثُ" خاص به صلى الله عليه وسلم؛ بدليل أَنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال - بعد روايته للحديث -: "يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ"(4)، وقد صَدَّقَ عمرَ جماعةٌ من الصحابة على هذا المعنى حين حدَّثَ به بمحضر منهم، وهذا يدل على أَنَّ الحديث يُرَادُ به الخصوص، فلا مانع إذن
= لابن حزم (3/ 10)، ومفاتيح الغيب، للرازي (21/ 157)، ومنهاج السنة النبوية، لابن تيمية (4/ 225)، وتفسير ابن كثير (3/ 117).
(1)
منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (4/ 224).
(2)
انظر: منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (4/ 224 - 225)، وأضواء البيان، للشنقيطي (4/ 206).
(3)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (4/ 208).
(4)
سيأتي تخريجه في الصفحة الآتية.
من تفسير الآيات بإرث المال، لأنَّ هذا المعنى لا يُعارض الحديث على القول بخصوصه. (1)
وأجيب على هذا الاعتراض من أربعة أوجه:
الأول: أَنَّ ظاهر صيغة الجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا نُورَثُ" شمول جميع الأنبياء؛ فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة، وقول عمر رضي الله عنه لا يصح أَنْ يُخَصَّصَ به نصٌ من السنة؛ لأنَّ النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق، كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني: أَنَّ قول عمر: "يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ" لا يُنافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أَنْ يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه؛ فإنَّه لا يُورَث، ولم يقل عمر: إنَّ اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أَنَّ غيره من الأنبياء لا يُورث أيضاً.
الوجه الثالث: أنه قد جاء في روايات أخرى التصريح في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء، كرواية:"إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ"، ورواية: "إنَّ الأنبياء
لا يورثون" (2)، وهذه الروايات يشد بعضها بعضاً، وقد تقرر في الأصول أَنَّ البيان يصح بكل ما يُزيل الإشكال، ولو بقرينة أو غيرها، وعليه فهذه الروايات التي ذكرنا تبين أَنَّ المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا نُورَثُ" أنه يعني نفسه كما قال عمر، وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. (3)
الاعتراض الثاني: أَنَّ سليمان عليه السلام قد كان نبياً في وقت أبيه فكيف يرث منه النبوة؟
وأجيب: بأن الشرائع كانت إلى داود عليه السلام وكان سليمان مُعيناً له فيها، وكذا كانت سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم إذا اجتمعوا أَنْ تكون الشريعة إلى
(1) انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (4/ 207).
(2)
أخرجه الدارقطني في العلل (1/ 231)، من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن أم هانئ، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، به. وفي إسناده الكلبي؛ متروك.
(3)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (4/ 207).
واحد منهم. (1)
الاعتراض الثالث: أَنَّ النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس كلهم ينسبون إلى نوح عليه السلام، وهو نبي مرسل. (2)
المذهب الثاني: أَنَّ الحديث خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون بقية الأنبياء عليهم السلام.
وهذا مذهب: عمر بن الخطاب (3)، وعائشة رضي الله عنهما (4).
ونُسِبَ: للحسن البصري (5)،
وإبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة (6)(7).
وهو رأي النحاس، والحافظ ابن حجر (8)، والطاهر ابن عاشور (9).
ولابن حجر، وابن عاشور، رأيان آخران موافقان للجمهور، بأن الحديث عام في جميع الأنبياء. (10)
قال أبو جعفر النحاس: "فأمَّا معنى (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)[مريم: 6] فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة: قيل: هي وراثة نبوة، وقيل: هي وراثة حكمة، وقيل: هي وراثة مال .... ؛ فأما وراثة المال فلا يمتنع، وإنْ كان قوم قد
(1) انظر: الناسخ والمنسوخ، للنحاس (3/ 65)، وشرح مشكل الآثار، للطحاوي (3/ 12).
(2)
انظر: إعراب القرآن، للنحاس (3/ 7).
(3)
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ". قال عمر: يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب فرض الخمس، حديث (3094).
(4)
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: "أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ ثُمُنَهُنَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ أَنَا أَرُدُّهُنَّ فَقُلْتُ لَهُنَّ: أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ، أَلَمْ تَعْلَمْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ". يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (4034).
(5)
نَسَبَه للحسن: القاضي عياض في "إكمال المعلم"(6/ 90)، وتبعه النووي في "شرح مسلم"(12/ 117)، والحافظ ابن حجر في "الفتح"(12/ 10).
(6)
هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الإمام العلامة الحافظ الثبت، أبو بشر الأسدي، مولاهم، البصري الكوفي الأصل، المشهور بابن علية وهي أمه، كان فقهياً إماماً مفتياً من أئمة الحديث، (ت: 193هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 107).
(7)
نَسَبَه لابن علية: ابنُ عبد البر في "الاستذكار"(27/ 385). وانظر: فتح الباري، لابن حجر (12/ 10).
(8)
فتح الباري (12/ 10).
(9)
التحرير والتنوير (16/ 66).
(10)
انظر: التلخيص الحبير، لابن حجر (3/ 134)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (16/ 67).
أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ"، وهذا لا حجة فيه، لأن الواحد يُخبِرُ عن نفسه بإخبار الجميع، وقد يُؤَوَّلُ هذا بمعنى: لا نورث الذي تركناه صدقةً؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخَلِّف شيئاً يُورث عنه .... ، فإنْ قيل: ففي بعض الروايات: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ"؛ ففيه التأويلان جميعاً: أَنْ يكون "ما" بمعنى "الذي"، والآخر لا يورث من كانت هذه حاله". اهـ (1)
وهناك عدد من المفسرين فسروا الآيات بإرث المال لا النبوة، لكن لم يجيبوا عن الحديث، ومن هؤلاء:
ابن عباس (2)، وأبو صالح (3)(4)، وعكرمة (5)، والضحاك (6)، والحسن البصري (7)، وسفيان الثوري (8)، وابن جرير (9).
حيث قالوا في تفسير قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قالوا: يرث من زكريا المال، ومن آل يعقوب النبوة.
وعن الحسن في قوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) قال: ورث المال والملك، لا النبوة والعلم. (10)
إلا أَنَّ الرواية عن ابن عباس لا تصح، وكذا الرواية عن عكرمة والضحاك والحسن البصري.
ويدل لمذهب القائلين بالتخصيص: حديث: "رَحِمَ اللَّه أَخِي زَكَرِيَّا مَا
(1) إعراب القرآن (3/ 7).
(2)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (4/ 467)، وعزاه للفريابي.
(3)
هو: باذام، ويقال: باذان، مولى أم هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب التفسير الذي يرويه عن ابن عباس، ورواه عن أبي صالح: محمد بن السائب الكلبي، قال أبو حاتم وغيره: لا يُحتج به، يعني أبا صالح، عامة ما عنده تفسير. انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (6/ 296)، والكاشف، للذهبي (1/ 263).
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (8/ 308).
(5)
ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره، معلقاً (2/ 318).
(6)
المصدر السابق.
(7)
ذكره معلقاً: النحاس في معاني القرآن (4/ 311)، وابن عبد البر في التمهيد (8/ 175). إلا أنه نُقِلَ عن الحسن خلاف ذلك؛ فقد روى عبد الرزاق في تفسيره (3/ 3)، ومن طريقه ابن جرير في تفسيره
(8/ 308)، أنه قال في تفسير قوله تعالى:(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: "يرث نبوته وعلمه". وإسناده صحيح، وقد تقدم.
(8)
تفسير سفيان الثوري، ص (181).
(9)
تفسير الطبري (8/ 308).
(10)
ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره معلقاً (2/ 491).