الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث:
ظاهر الحديث الشريف وقوع الشرك من آدم وحواء عليهما السلام، حيث جعلا لله شركاء في ذلك الولد الذي وُلِدَ لهما؛ إذ عَبَّدَاهُ لغير الله، وهو الذي تفرد سبحانه بإيجاده، وهذا مشكل؛ لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشرك قبل النبوة وبعدها إجماعاً. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث:
اتفق المفسرون على تنزيه مقام آدم عليه السلام من الشرك، وأنَّ ذلك لم يقع منه، ولا من الأنبياء قط، وقد عدّوا هذه الآيات - والحديث الوارد في تفسيرها - من مشكلات التفسير، ولهم في دفع الإشكال الوارد فيهما مسلكان:
= فقال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم. وعنه قال: عني بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده. وعنه قال: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصّروا.
ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 286) من طرق عنه، ثم قال:«وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حُمِلتْ عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم، مثل كعب أو وهب بن منبه، وغيرهما» . اهـ
النتيجة: أنَّ الحديث لا يصح رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضعفه الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 286)، والألباني في «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (1/ 516)، حديث (342). وقد ذكرا بعضاً من العلل التي أوردتها، فانظرها في كتابيهما المذكورين آنفاً.
(1)
انظر حكاية الإشكال في الكتب الآتية: تفسير السمعاني (2/ 239)، وتفسير البغوي (2/ 221)، وأحكام القرآن، لابن العربي (2/ 355)، وعصمة الأنبياء، للرازي، ص (29)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/ 280)، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري (8/ 266)، والقول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين (3/ 67).
الأول: مسلك قبول الحديث، وإجراء الآيتين على ظاهرها في قصة آدم وحواء:
وهذا رأي الجمهور من المفسرين (1)، حيث ذهبوا إلى أنَّ الآيات معنيٌ بها آدم وحواء عليهما السلام حيث سميا ابنهما عبد الحارث.
رُوي ذلك عن: أبي بن كعب (2)، وسمرة بن جندب (3)، وابن عباس (4)،
(1) نسبه للجمهور: ابن الجوزي في «زاد المسير» (3/ 231).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1633)، وإسناده ضعيف.
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 144)، والطبراني في مسند الشاميين (4/ 83)، وإسناده صحيح.
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 144 - 145)، من ثلاثة طرق:
الأول: قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«كانت حواء تلد لآدم فتعبدهم لله وتسميه عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليسُ وآدمَ فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش، فولدت له رجلاً فسماه «عبد الحارث» ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)) [الأعراف: 189 - 190]».
وهذا الطريق: ضعيف، فيه:«محمد بن حميد الرازي» ضعيف، كما في التقريب (2/ 165)، وفيه «محمد بن إسحاق» مدلس، كما في التقريب (2/ 153)، وفيه «داود بن الحصين» ثقة إلا في عكرمة فإن له عنه مناكير، كما في التقريب (1/ 227).
الطريق الثاني: قال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما .... ، فذكره بنحوه.
محمد بن سعد: هو العوفي، لين الحديث.
قوله: حدثني أبي، هو سعد بن محمد بن الحسن، ضعيف.
قوله: حدثني عمي، هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، ضعيف.
قوله: حدثني أبي، هو الحسن بن عطية، متفق على ضعفه.
قوله: عن أبيه، هو عطية بن سعد بن جنادة، شيعي ضعيف مدلس.
وهذا الإسناد: ضعيف جداً؛ فإنه مسلسل بالعوفيين، وهي سلسلة واهية باتفاق النقاد من المحدثين.
الطريق الثالث: قال ابن جرير: حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما .... ، فذكره بنحوه.
وهذا الطريق: ضعيف أيضاً، فيه:«الحسين بن داود» وهو سنيد، ضعيف، كما في التقريب (1/ 323)، وفيه =
وعكرمة (1)، ومجاهد (2)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (3)، وبكر بن عبد الله المزني (4).
وهو اختيار جمع من المفسرين كما سيأتي ذكرهم.
واختلف هؤلاء في معنى الشرك المضاف إلى آدم وحواء عليهما السلام على أقوال:
الأول: أنه كان شركاً في التسمية، ولم يكن شركاً في العبادة.
وهذا هو المروي عن: قتادة (5)، وسعيد بن جبير (6)، والسدي (7).
واختيار: ابن جرير الطبري (8)، وأبي المظفر السمعاني (9)، والبغوي، وابن عطية (10)، وابن الجوزي (11)، والسيوطي (12)، والآلوسي (13)، ومحمد بن عبد الوهاب (14)، وعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (15).
قال البغوي: «جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث، ولمن يكن هذا
= «ابن جريج» ثقة إلا أنه يدلس ويرسل، وقد أرسله عن ابن عباس، التقريب (1/ 482).
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1634)، وسعيد بن منصور في سننه (5/ 173)، كلاهما من طريق خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به.
وخصيف: هو ابن عبد الرحمن الجزري، صدوق سيئ الحفظ. التقريب (1/ 220).
النتيجة: أنَّ الأثر لا يصح عن ابن عباس؛ للضعف الشديد في جميع الطرق، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 145).
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 146).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1635).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1634).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 245)، وابن جرير في تفسيره (6/ 145).
(6)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 146).
(7)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 146)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1634).
(8)
تفسير ابن جرير الطبري (6/ 147).
(9)
تفسير السمعاني (2/ 239).
(10)
المحرر الوجيز، لابن عطية (2/ 487).
(11)
زاد المسير، لابن الجوزي (3/ 231).
(12)
تفسير الجلالين (1/ 223)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/ 280).
(13)
روح المعاني، للآلوسي (9/ 189).
(14)
فتح المجيد، ص (434).
(15)
المصدر السابق.
إشراكاً في العبادة، ولا أنَّ الحارث ربهما؛ فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أنَّ الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أُمِّهِ، وقد يطلق اسم العبد على من يُراد به أنه معبود هذا، كالرجل إذا نزل به ضيف يُسمي نفسه عبد الضيف، على وجه الخضوع، لا على وجه أنَّ الضيف ربَّه، ويقول للغير أنا عبدك، وقال يوسف عليه السلام لعزيز مصر:(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)[يوسف: 23] ولم يُرِدْ به أنه معبوده، كذلك هذا». اهـ (1)
القول الثاني: أنه كان شركاً في الطاعة، ولم يكن شركاً في العبادة.
وهذا هو المروي عن: ابن عباس رضي الله عنهما (2)، وقتادة (3).
القول الثالث: أنَّ الإشراك وقع من حواء لا من آدم عليه السلام، ولم يشرك آدم قط، وأما قوله:(جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا)[الأعراف: 190] بصيغة التثنية فلا ينافي ذلك؛ لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين، بل إلى جماعة، وهو شائع في كلام العرب.
وهذا قول القنوجي. (4)(5)
واعتُرِضَ: بأن الله تعالى قال: (جَعَلَا) حيث نسب الجعل إليهما، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، وبأن آدم عليه السلام قد أقرَّ حواء على ذلك، وبأن في حديث سمرة رضي الله عنه التصريح بأنهما سمياه بذلك معاً. (6)
أدلة هذا المذهب:
استدل القائلون بأن الآيات معنيٌّ بها آدم وحواء عليهما السلام بأدلة منها:
الدليل الأول: حديث سمرة رضي الله عنه، حيث أورده أصحاب هذا المذهب وجعلوه عمدة في تفسير الآيات، وقد صرح بعضهم بصحته، والبعض الآخر أورده وسكت عنه، وهو مشعر باعتماده له.
(1) تفسير البغوي (2/ 221).
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 145).
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 145)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1634).
(4)
هو: محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، أبو الطيب، ولد ونشأ في قنوج (بالهند) وتعلم في دهلي. وسافر إلى بهوبال طلباً للمعيشة، ففاز بثروة وافرة، وتزوج بملكة بهوبال، ولقب بنواب عالي الجاه أمير الملك بهادر. له نيف وستون مصنفاً بالعربية والفارسية والهندية. منها بالعربية:(أبجد العلوم) و (فتح البيان في مقاصد القرآن) عشرة أجزاء، في التفسير، و (نيل المرام من تفسير آيات الأحكام) وغيرها. (ت: 1307 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 167).
(5)
فتح البيان في مقاصد القرآن، للقنوجي (2/ 630).
(6)
انظر: روح المعاني، للآلوسي (9/ 189).
الدليل الثاني: أنَّ هذا المذهب هو المروي عن سمرة، وأبي بن كعب، وابن عباس رضي الله عنهم، ومثل هذا لا يقال بالرأي، فدل على أنَّ للقصة أصلاً؛ فيكون لها حكم الرفع. (1)
الدليل الثالث: إجماع الحجة من أهل التأويل على أنَّ الآيات معنيٌ بها آدم وحواء، حكى الإجماع ابن جرير الطبري في تفسيره. (2)
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب:
اعتُرِضَ على هذا المذهب بقوله تعالى في آخر الآيتين: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الأعراف: 190] بصيغة الجمع، فلو كان المراد آدم وحواء عليهما السلام لقال: يشركان، بصيغة التثنية، وفي هذا دلالة واضحة بأن الآيات معني بها الذرية لا آدم وحواء.
وقد أجاب بعض أصحاب هذا المذهب عن هذا الاعتراض: بأن آخر الآيات معنيٌّ بها مشركو العرب من عبدة الأوثان، وأنَّ الخبر عن آدم وحواء قد انقضى عند قوله:(جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا).
وهذا رأي ابن جرير الطبري (3)، والسيوطي (4)، وهو المروي عن السدي (5)، وأبي مالك (6).
الثاني: مسلك تضعيف الحديث، وتأويل الآية في غير آدم وحواء:
حيث ذهب آخرون إلى تضعيف حديث سمرة رضي الله عنه، وأنَّ الشرك - المذكور في الآيتين - معني به غير آدم وحواء عليهما السلام.
واختلف هؤلاء بالمعنيِّ به على أقوال:
(1) انظر: روح المعاني، للآلوسي (9/ 189).
(2)
انظر: تفسير ابن جرير الطبري (6/ 147).
(3)
انظر: تفسير ابن جرير الطبري (6/ 147).
(4)
انظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/ 281).
(5)
قال السدي في تفسير قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ): «هذه فصلٌ من آية آدم، خاصة في آلهة العرب» . أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 147، 148)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1634).
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1635).
القول الأول: أنَّ الشرك نُسب إلى آدم وحواء، والمعنيّ به أولادهما، كاليهود والنصارى، والمشركين. وآدم وحواء بريئان من الشرك، والآيات فيها انتقال من ذكر النوع إلى الجنس؛ فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل الكلام إلى الجنس من أولادهما.
وقد اشتهر هذا القول عن الحسن البصري رحمه الله.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في إحدى الروايات عنه (1).
قال الحسن في تفسير الآية: «كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم» . (2)
وعنه قال: «عُنيَ بهذا ذرية آدم، من أشرك منهم بعده» . (3)
وعنه قال: «هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً، فهوَّدوا ونصَّروا» . (4)
واختار هذا القول جمع من المفسرين، والمحققين، منهم:
الزمخشري، وأبو عبد الله القرطبي (5)، والنسفي (6)، وابن جزي (7)، وابن القيم (8)، وابن كثير، والثعالبي (9)، وأبو السعود (10)، والمباركفوري (11)، والسعدي (12)، والشنقيطي (13).
قال الزمخشري - في قوله تعالى: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء) -: «أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما، أي آتى أولادهما .... ، وآدم وحواء بريئان من الشرك، ومعنى
(1) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في هذه الآية قال:«ما أشرك آدم، إن أولها شكر، وآخرها مثل ضربه الله لمن بعده» . أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1633).
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 147).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 245)، وابن جرير في تفسيره (6/ 147).
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 147).
(5)
تفسير القرطبي (7/ 215).
(6)
تفسير النسفي (2/ 130).
(7)
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (1/ 316).
(8)
روضة المحبين (1/ 289)، والتبيان في أقسام القرآن (1/ 163).
(9)
تفسير الثعالبي (2/ 74).
(10)
تفسير أبي السعود (3/ 304).
(11)
تحفة الأحوذي (8/ 367).
(12)
تفسير السعدي، ص (489).
(13)
أضواء البيان (2/ 340).
إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، مكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم». اهـ (1)
وقال الحافظ ابن كثير: «وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته
…
، فذِكْرُ آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين (2)، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس؛ كما في قوله تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)) [المؤمنون: 12 - 13]، وقال تعالى:(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ)[الملك: 5]، ومعلوم أنَّ المصابيح - وهي النجوم التي زُيِّنت بها السماء - ليست هي التي يُرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم». اهـ (3)
واعتُرِضَ على هذا القول: بأن فيه تشتيتاً للضمائر، والأصل اتساق الضمائر وعودها لمذكور واحد. (4)
القول الثاني: أنَّ الآيات معنيٌّ بها المشركون من بني آدم عموماً، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه.
وهذا اختيار: النحاس (5)، والقفال (6)،
وابن حزم (7)، وابن العربي (8)، والرازي (9)، وناصر الدين ابن المنيِّر (10)(11)، والقاسمي (12)، وابن عثيمين (13).
(1) الكشاف (2/ 180).
(2)
كذا في الأصل، ولعل الصواب: الأولاد.
(3)
تفسير ابن كثير (2/ 287). وانظر: البداية والنهاية (1/ 89).
(4)
انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين (3/ 63).
(5)
معاني القرآن (3/ 116).
(6)
هو: محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، القفال، أبو بكر: من أكابر علماء عصره بالفقه والحديث واللغة والأدب. من أهل ما وراء النهر. عنه انتشر مذهب (الشافعي) في بلاده. مولده ووفاته في الشاش (وراء نهر سيحون) رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام. من كتبه (أصول الفقه) و (محاسن الشريعة) و (شرح رسالة الشافعي)، وغيرها (ت: 365 هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (6/ 274).
(7)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 288).
(8)
أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 355).
(9)
مفاتيح الغيب (15/ 71)، وعصمة الأنبياء، ص (29).
(10)
هو: أحمد بن محمد بن منصور: من علماء الإسكندرية وأدبائها. ولي قضاءها وخطابتها مرتين. له تصانيف، منها:(الانتصاف من الكشاف)، و (المقتفى في شرف المصطفى) وغيرهما (ت: 683 هـ). انظر: كشف الظنون، لحاجي خليفة (1/ 136)، والأعلام، للزركلي (1/ 220).
(11)
الانتصاف (2/ 180).
(12)
محاسن التأويل (5/ 235 - 236).
(13)
القول المفيد (3/ 62، 68).
واعتُرِضَ على هذا القول:
1 -
بأن قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) لا يصح حمله على غير آدم وحواء عليهما السلام.
2 -
وبقوله: (دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا) فإن كل مولود يولد بين الجنسين لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء. (2)
القول الثالث: أنَّ المشركين كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام وحكى عنهما أنهما قالا:(لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال:(فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء) فقوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء) ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقرير، والمعنى: أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام.
(1) نقله عنه الرازي في تفسيره (15/ 71).
(2)
انظر: فتح القدير، للشوكاني (2/ 401).
ذكر هذا التأويل: الفخر الرازي في تفسيره. (1)
ويرده: أنَّ الآية وردت بصيغة الخبر، وحملها على معنى الاستفهام يفتقر إلى دليل، وليس ثمة دليل.
القول الرابع: أنَّ الخطاب لقريشٍ الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي، والمراد من قوله:(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة) قصي، وجعل من جنسها زوجها، عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات، وجعل الضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
ذكر هذا التأويل: الزمخشري واستحسنه (2)، واختاره البيضاوي (3)، وأشار إليه الفخر الرازي في تفسيره. (4)
الإيرادات والاعتراضات على هذا القول:
القول الخامس: أنَّ الضمير في قوله: (جَعَلَا) راجع إلى الولد الصالح، والمعنى جعل ذلك الولد الصالح - الذي رزقهما الله إياه - جعل لله شركاء، وإنما قال:(جَعَلَا)؛ لأن حواء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى.
ذكر هذا التأويل: الجصاص (6)، وابن الجوزي (7).
أدلة هذا المذهب:
استدل القائلون بأن الآيات معني بها غير آدم وحواء عليهما السلام بأدلة منها:
(1) مفاتيح الغيب (15/ 71).
(2)
الكشاف (2/ 180 - 181).
(3)
تفسير البيضاوي (3/ 83).
(4)
مفاتيح الغيب (15/ 71).
(5)
التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 316).
(6)
أحكام القرآن، للجصاص (3/ 49).
(7)
زاد المسير (3/ 231).
الدليل الأول: قوله تعالى في آخر الآيتين: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهذا يدل على أنَّ الذين أتوا بهذا الشرك جماعة، ولو كان المراد آدم وحواء عليهما السلام لعبَّرَ عنهما بصيغة التثنية. (1)
الدليل الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآيات: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)) [الأعراف: 191]، وهذا يدل على أنَّ المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وليس المراد بها آدم وحواء عليهما السلام. (2)
الدليل الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركون «من» لا يخلق شيئاً، ولم يقل «ما» ؛ لأن العاقل إنما يُذكر بصيغة «من» لا بصيغة «ما» . (3)
الدليل الرابع: أنَّ هذا القول فيه تنزيه لمقام آدم عليه السلام من الشرك، والقول الذي فيه تنزيه لمقام الأنبياء وإجلال لمقامهم، مقدم في التفسير على القول الذي فيه قدح بعصمتهم، وحط من منزلتهم. (4)
الدليل الخامس: أنَّ المروي عن سمرة رضي الله عنه في تفسير الآيتين لم يثبت بسند صحيح، وعليه فلا يصح حمل الآيات على أمور مغيبة لم يثبت فيها دليل من كتاب أو سنة. (5)
الدليل السادس: أنه لو كانت هذه القصة في أدم وحواء، لكان حالهما إما أنْ يتوبا من ذلك الشرك أو يموتا عليه، فإن قلنا: ماتا عليه، كان هذا القول فيه فرية عظيمة؛ لأنه لا يجوز موت أحد من الأنبياء على الشرك، وإن
(1) انظر: معاني القرآن، للنحاس (3/ 116)، والكشاف، للزمخشري (2/ 180)، ومفاتيح الغيب، للرازي (15/ 70، 73)، وتفسير القرطبي (7/ 215)، وتفسير النسفي (2/ 130)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (1/ 316)، وأضواء البيان، للشنقيطي (2/ 343)، والقول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين (3/ 68).
(2)
انظر: مفاتيح الغيب، للرازي (15/ 70).
(3)
انظر: المصدر السابق.
(4)
انظر: أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 355)، ومفاتيح الغيب (15/ 71)، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/ 316)، والقول المفيد على كتاب التوحيد (3/ 67).
(5)
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 316)، والقول المفيد على كتاب التوحيد (3/ 67).
كانا تابا من الشرك، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أنْ يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه، فيمتنع غاية الامتناع أنْ يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا، ثم لا يذكر توبتهما، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها، كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة هو وزوجه وتابا من ذلك. (1)
الدليل السابع: أنه ثبت في حديث الشفاعة أنَّ الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر بأكله من الشجرة (2) - التي عصى الله تعالى بالأكل منها في الجنة - فلو كان وقع منه الشرك، لكان اعتذاره منه أقوى وأولى وأحرى. (3)
الدليل الثامن: أنَّ الله تعالى أسند فعل الذرية إلى آدم وحواء؛ لأنهما أصل لذريتهما، كما في قوله تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)[الأعراف: 11] أي بتصويرنا لأبيكم آدم؛ لأنه أصلهم، بدليل قوله بعده:(ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ)[الأعراف: 11]. (4)
(1) انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد (3/ 67).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (3340)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (194).
(3)
انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين (3/ 67).
(4)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (2/ 341).