الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث:
ظاهر الحديث الشريف إثبات الشك (1)
لإبراهيم الخليل عليه السلام، في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وهذا الظاهر مشكل؛ لأن الشك كفر، والأنبياء معصومون منه بالإجماع. (2)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث:
للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان:
الأول: مسلك تأويل الحديث، ونفي الشك مطلقاً عن إبراهيم الخليل عليه السلام.
وعلى هذا المسلك الجمهور من العلماء، وقد اختلفوا في تأويل الحديث على مذاهب:
(1) الشك في اللغة: هو التردد بين وجود شيء وعدمه، وهو خلاف اليقين.
وفي الاصطلاح: التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك.
وقيل الشك: ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما؛ فإذا ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظن، فإذا طرحه فهو غالب الظن، وهو بمنزلة اليقين.
والشك: ضرب من الجهل، وهو أخص منه؛ لأن الجهل قد يكون عدم العلم بالنقيضين رأساً، فكل شك جهل، وليس كل جهلٍ شكاً. انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للراغب (461)، والتعريفات، للجرجاني (1/ 168)، والمطلع، لأبي الفتح البعلي (1/ 26).
قال ابن عطية في المحرر الوجيز (1/ 353): «وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام، وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم الخليل عليه السلام أعلم به، يدل على ذلك قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) [البقرة: 260] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً» . اهـ
(2)
انظر حكاية الإشكال في الكتب الآتية: مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 298)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (7/ 317)، وعصمة الأنبياء، للرازي، ص (44)، وتفسير ابن عثيمين، البقرة (3/ 304).
الأول: أنَّ معنى الحديث: أنَّ الشك يستحيل في حق إبراهيم عليه السلام؛ فإنَّ الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنَّ إبراهيم لم يشك، وإنما خص إبراهيم لكون الآية قد يسبق منها إلى بعض الأذهان الفاسدة احتمال الشك، وإنما رجح إبراهيم على نفسه تواضعاً وأدباً، أو قبل أنْ يعلم أنه خير ولد آدم. (1)
وهذا التأويل قال به جمع من العلماء، منهم:
ابن قتيبة، وأبو سليمان الخطابي، والطحاوي، وابن حزم، وأبو المظفر السمعاني، والقاضي عياض، وابن عطية، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي، والنووي، والخازن، والثعالبي، وابن حجر، والكرماني، والسيوطي، والسندي، والآلوسي، وابن عثيمين. (2)
المذهب الثاني: أنَّ الحديث كان رداً على قوم أثبتوا الشك لإبراهيم؛ فقد رُوي أنه لما نزل قوله تعالى: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) قال بعض الناس: شكَّ إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول رداً عليهم، وتواضعاً منه، وتقديراً لإبراهيم عليه السلام.
وهذا التأويل ذكره ابن قتيبة، والقاضي عياض، والنووي، والبغوي،
(1) انظر: الديباج على مسلم، للسيوطي (1/ 173).
(2)
انظر على الترتيب: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (1/ 91 - 92)، وأعلام الحديث، للخطابي (3/ 1545)، ومشكل الآثار، للطحاوي (1/ 298 - 299)، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 292 - 293)، وتفسير السمعاني (1/ 266)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 63)، وإكمال المعلم (1/ 465)، كلاهما للقاضي عياض، والمحرر الوجيز، لابن عطية (1/ 352)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 358)، وتفسير القرطبي (3/ 194)، وصحيح مسلم بشرح النووي (2/ 241 - 242)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (1/ 197)، وتفسير الثعالبي (1/ 207)، والعجاب في بيان الأسباب، لابن حجر (1/ 621)، والديباج على مسلم (1/ 173)، وشرح سنن ابن ماجة (1/ 291)، كلاهما للسيوطي، وروح المعاني، للآلوسي
(3/ 37 - 38)، وتفسير ابن عثيمين، البقرة (3/ 305)، والقول المفيد على كتاب التوحيد، له (1/ 45).
وابن الجوزي، وابن الأثير، والحافظ ابن حجر. (1)
وهو في معناه راجع إلى التأويل السابق؛ إلا أنَّ فيه ذكراً لسبب الحديث، لكن لم يَرِدْ في شيء من روايات الحديث التصريح بهذا السبب.
المذهب الثالث: أنَّ المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن» أمته الذين يجوز عليهم الشك، وإنما عبر
بـ «نحن» تأنيساً لهم بإيهام دخوله معهم.
وهذا التأويل ذكره القاضي عياض، والعيني، والحافظ ابن حجر. (2)
المذهب الرابع: أنَّ لفظة «أحق» الواردة في الحديث جاءت لنفي المعنى، أي لا شك عندنا جميعاً، ومن هذا الباب قوله تعالى:(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ)[الدخان: 37]، أي لا خير في الفريقين.
وهذا التأويل قال به الآلوسي. (3)
المذهب الخامس: أنَّ الحديث خرج مخرج العادة في الخطاب؛ فإنَّ من أراد المدافعة عن إنسان قال للمتكلم فيه: ما كنت قائلاً لفلان، أو فاعلاً معه من مكروه فقله لي، وافعله معي، ومقصوده لا تقل ذلك فيه.
وهذا التأويل ذكره النووي، ونسبه لصاحب التحرير (4). (5)
(1) انظر على الترتيب: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (1/ 91 - 92)، ومشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 252)، وصحيح مسلم بشرح النووي (2/ 242)، وشرح السنة، للبغوي (1/ 124)، وغريب الحديث، لابن الجوزي (1/ 556)، والنهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (2/ 442)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 475).
(2)
انظر على الترتيب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (2/ 63)، وعمدة القاري، للعيني (15/ 267)، والعجاب في بيان الأسباب (1/ 621)، وفتح الباري (6/ 475)، كلاهما لابن حجر.
(3)
روح المعاني (3/ 38).
(4)
صاحب التحرير هو: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي بن أحمد بن طاهر، الحافظ الكبير، أبو القاسم التَّيمِيّ الطَّلْحي الأصبهاني، الملقب قوام السنة، إمام في التفسير والحديث واللغة والأدب، من تصانيفه «التفسير الكبير» ثلاثون مجلداً سماه «الجامع» وكتاب «الترغيب والترهيب» و «شرح البخاري» و «شرح مسلم» المسمى بـ «التحرير» ، وغيرها، (ت: 535هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (20/ 80)، وطبقات المفسرين، للسيوطي (26 - 27).
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 242).
المذهب السادس: أنَّ إبراهيم عليه السلام أراد أنْ يترقى من درجة علم اليقين بالخبر، إلى درجة عين اليقين بالمشاهدة، فسأل ربه أنْ يريه كيف يُحيي الموتى ليحصل له ذلك، وقد عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى بقوله:«نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» ، وهو لم يشك ولا إبراهيم، حاشاهما من ذلك، وإنما عبَّر عن هذا المعنى بهذه العبارة.
وهذا التأويل قال به أبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم. (1)
المذهب السابع: أنَّ الشك وقع لأمة إبراهيم عليه السلام، حيث سأل إبراهيمُ ربَه أنْ يريه وأمَّتَه كيفية إحياء الموتى ليطمئنَّ قلبه بظهور حجته عليهم، وبإزالة الشك عنهم.
وهذا التأويل رُويَ عن الضحاك، وابن إسحاق (2)، وعكرمة. (3)
المذهب الثامن: أنَّ الشك وقع لإبراهيم عليه السلام في كونه خليلاً.
وهذا التأويل رُويَ عن السدي، وسعيد بن جبير.
فعن السدي قال: «لما اتخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً استأذنه ملك الموت أن يُبَشِّرَه فإذن له
…
، فقام إبراهيمُ يدعو ربَه: رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلمَ أني خليلك». (4)
وعن سعيد بن جبير، في قوله تعالى:(وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: «بالخُلَّة» . (5)
المذهب التاسع: أنَّ إبراهيم وقع له الشك في كونه مُجاب الدعوة.
(1) انظر على الترتيب: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (7/ 318)، وتفسير القرطبي (3/ 195)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (15/ 177)، (30/ 11)، ومدارج السالكين (1/ 471 - 472)، والتبيان في أقسام القرآن (1/ 120)، كلاهما لابن القيم.
(2)
نقله عنهما أبو العباس القرطبي في المفهم (7/ 316).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 510).
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/ 50)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 507 - 508).
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/ 50)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 510).
وهذا التأويل رُويَ عن ابن عباس، في قوله تعالى:(وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: «أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك» . (1)
وقال ابن حبان: «قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» لم يُرِدْ به إحياء الموتى، إنما أراد به في استجابة الدعاء له، وذلك أنَّ إبراهيم عليه السلام قال:(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) ولم يتيقن أنه يستجاب له فيه، يريد في دعائه وسؤاله ربه عما سأل، فقال صلى الله عليه وسلم:«نحن أحق بالشك من إبراهيم» به في الدعاء؛ لأنا إذا دعونا ربما يُستجاب لنا وربما لا يُستجاب، ومحصول هذا الكلام أنه لفظةُ إخبارٍ مرادُها التعليم للمخاطب». اهـ (2)
وبنحو هذا التأويل قال: إسماعيل بن يحيى المُزَني (3)، وابن أبي حاتم (4)، وأبو بكر الباقلاني (5)، وابن الأنباري (6)، والعيني (7).
المذهب العاشر: أنَّ إبراهيم وقع له الشك في كيفية الإحياء، لا في أصل الإحياء.
وهذا التأويل قال به العيني (8).
المذهب الحادي عشر: أنَّ الشك وقع لإبراهيم قبل النبوة.
ذكره الحافظ ابن حجر. (9)
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/ 53)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 509).
(2)
صحيح ابن حبان (14/ 89 - 90).
(3)
انظر: تفسير البغوي (1/ 248)، وشرح السنة، للبغوي (1/ 124)، واللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي (4/ 368)، وفي هذه الكتب النقل عن المزني.
(4)
مسند أبي عوانه (1/ 78)، وتاريخ دمشق، لابن عساكر (6/ 229)، وفيهما النقل عن ابن أبي حاتم.
(5)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/ 474).
(6)
نقله عنه ابن الجوزي في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/ 358).
(7)
عمدة القاري (18/ 128).
(8)
المصدر السابق (15/ 267).
(9)
فتح الباري، لابن حجر (6/ 474).
المسلك الثاني: مسلك إعمال الحديث على ظاهره، وإثبات الشك حقيقة لإبراهيم الخليل عليه السلام.
فعن ابن عباس، رضي الله عنهما في قوله تعالى:(وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[البقرة: 260]ـ: قال: «ما في القرآن آية أرجى عندي منها» . (1)
وقال: «هذا لما يَعْرضُ في الصدور، ويُوسوِسُ به الشيطان، فرضي الله تعالى من إبراهيم قوله: بلى» . (2)
وسُئل عطاء بن أبي رباح عن معنى الآية فقال: «دخل قلبَ إبراهيمَ بعضُ ما يدخل قلوب الناس» . (3)
واختار هذا المسلك ابن جرير الطبري، فقال: «وأولى الأقوال بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) وأن تكون
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/ 51)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 509)، وعبد الرزاق في التفسير (1/ 106).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 509)، وأبو عبيد في فضائل القرآن، ص (149)، كلاهما من طريق أبي صالح كاتب الليث، قال: حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر قال: الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَيُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَرْجَى عِنْدَكَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَوْلُ اللَّهِ: (قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)[الزمر: 53]، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَكِنْ أَنَا أَقُولُ: قَوْلُ اللَّهِ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى) فَرَضِيَ مِنْ إِبْراهِيمَ قَوْلَهُ: (بَلَى) فَهَذَا لِمَا يَعْرِضُ فِي الصُّدُورِ، وَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ».
والأثر في إسناده أبي صالح كاتب الليث، وهو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني، أبو صالح المصري، صدوق كثير الغلط. كما في التقريب، لابن حجر (1/ 400).
وقد توبع في روايته، فأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 128)، قال: حدثنا علي بن حمشاذ العدل، ثنا محمد بن غالب، ثنا بشر بن حجر الشامي، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر، به.
والأثر صححه الحاكم، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 474):«رُوي من طرق يشد بعضها بعضاً» .
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/ 51)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 508).