الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما مذهب أبي حامد فلم أقف عليه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر الهيتمي قولاً آخر له، حيث قال:"والأصح كما قاله الشيخ أبو حامد أَنَّ ما ذُكِرَ محمول على الكافر وغيره من أصحاب الذنوب". اهـ (1)
المبحث الخامس: الترجيح:
الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو حمل الأحاديث الواردة في المسألة على ظاهرها، من أَنَّ الميت يُعذَّب بمجرد النوح عليه، وإن لم يكن له تسبب في ذلك.
والحديث إنما ورد لزجر أهل الميت من النياحة على ميتهم؛ لأنهم إذا علموا أنه يعذب بذلك فسيكفون عن النياحة عليه خوفاً من تعذيبه.
وقد كانت ظاهرة النوح منتشرة عند العرب في الجاهلية، وهي من عاداتهم القبيحة التي أبطلها الإسلام وحذر منها، وقد تكاثرت النصوص الشرعية التي عُنيت بعلاج هذه الظاهرة السيئة، وفي بعضها وعيد شديد، ومن تلك النصوص الإعلام بأن هذه الفعلة تؤدي إلى تعذيب الميت، فيجب تركها والابتعاد عنها.
وليس في هذا الاختيار ما يعارض قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164]، وليس فيه مصادمة لقواعد الشريعة، والتي فيها أَنَّ أحداً لا يعذب بوزر غيره، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: أَنَّ الآيات التي فيها أَنَّ أحداً لا يعذب بوزر غيره، هي من العمومات، وتُعد الأحاديث الواردة في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه مخصصة لهذا العموم، وليس هناك ما يمنع من القول بالتخصيص، بل القول بتخصيص الآيات أولى من القول بتخصيص الأحاديث؛ لأن الأول ورد فيه نصان الأول عام والآخر خاص، فيحمل العام على الخاص، وأما القول بتخصيص الأحاديث
(1) تحفة المنهاج في شرح المنهاج، للهيتمي (3/ 180)، وانظر: مغني المحتاج، للشربيني (1/ 356).
فليس هناك دليل على هذه الدعوى إلا مجرد دفع التعارض بينها وبين الآية.
الوجه الثاني: أَنَّ القواعد الشرعية التي أصَّلها العلماء ينبغي أن تحاكم إلى النصوص الشرعية، لا أن تحاكم النصوص إليها، ومسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه تُعد من النصوص المحكمة، وهي عامة مطلقة فيجب حملها على عمومها وإطلاقها دون تخصيصها بشخص ما، أو تقييدها بحالة ما، وليس فيها ما يُصادم القواعد الشرعية؛ لأن لله سبحانه أن يفعل بعباده ما شاء، فهو سبحانه يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وإذا جاز أن يُعذِّب في الدنيا من لا ذنب له بسب ذنب غيره؛ فجوازه في عالم البرزخ ويوم القيامة من باب أولى، حيث لم يأت ما يمنع من ذلك، أو يوجب الفرق بينهما.
كما أَنَّ القاعدة الشرعية - التي فيها أَنَّ أحداً لا يؤخذ بجرم غيره - إنما هي فيما لم يرد به نص، وأما ما ورد فيه نص شرعي فيجب أن يحمل على ظاهرة في حدود ما ورد فيه، دون أن يُتجاوز به إلى غيره.
ومما ينبغي أَنَّ يُعلم: أَنَّ نصوص الوعيد ترد لمقاصد شرعية، ومن هذه المقاصد الزجر عن ارتكاب المحرمات ومقارفة القبائح، ومسألة إنفاذ الوعيد من عدمه راجعة إلى مشيئة الله تعالى، فهو سبحانه إن شاء أنفذه، وإن شاء عفى وتجاوز.
وعند التأمل في نصوص الوعيد يلاحظ أَنَّ من أعظم المقاصد لإيرادها هو الزجر عن فعل المحظورات الشرعية؛ فينبغي أن يُنظر في هذا الجانب أكثر منه في جانب إنفاذ الوعيد، وهكذا مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه؛ فإن الغرض من ذكر هذا الوعيد هو زجر أهل الميت وتهويل شأن النياحة.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة، وأما بقية المذاهب والأقوال في المسألة فالجواب عنها على النحو الآتي:
أولاً: مذهب عائشة رضي الله عنها:
تقدم أَنَّ لعائشة رأيين في المسألة، فهي مرّة تؤول الحديث بأنه حكاية حال عن امرأة يهودية تعذب وأهلها يبكون عليها، ومرة أخرى تؤول الحديث بأن الله تعالى يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقد رفعتْ رضي الله عنها هذه
الأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي صادقة في ذلك، وحاشاها أَنَّ تدعي ذلك نصرة لرأيها، وليس فيما رفعته للنبي صلى الله عليه وسلم أي إشكال بحمد الله:
أما قولها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا"، فهذه قصة أخرى لا علاقة لها بحديث عمر بن الخطاب، وابنه، رضي الله عنهما، ولا تعارض بينهما، بل ما ذكرته هو حقيقة كل من مات على الكفر؛ فإنه يُعذب في قبره سواء بكى عليه أهله أم لا، بل إن تعذيب الكافر في قبره يُعد من الأمور المسلمة التي تضافرت النصوص على إثباتها.
وأما قولها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، فهذا الحديث على مذهبها يكون معارضاً للآية؛ لأن فيه زيادة في عذاب الكافر بسبب ذنب غيره، والحق أَنَّ هذا الحديث موافق لحديث عمر، وابنه، رضي الله عنهما، وليس هو مخالفاً له؛ لأن حديثهما عام يشمل كل ميت، وأما حديثها ففيه ذكر بعض أفراد هذا العام، والتنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، كما تقدم. (1)
ثانياً: مذهب الجمع بين الآية والأحاديث:
ذكر أصحاب هذا المذهب عدة تأويلات للجمع بين الآية والأحاديث، وهي في جملتها لا تخلو من تكلف، غير أَنَّ من أقواها القول الرابع، والخامس، والتاسع، وقد ذكرت الإيرادات والاعتراضات التي أوردت على كل قول، ومما يمكن إضافته هنا من إيرادات:
أولاً: مذهب الإسماعيلي وابن حزم:
هذا المذهب يَرِدُ عليه:
1 -
أنه خلاف الظاهر والمتبادر من الحديث.
2 -
أَنَّ هذا القول فيه تخصيص لعموم الحديث؛ إذ يلزم منه أنه لا يعذب إلا من كانت له أعمال يستحق عليها العقوبة، والحديث كما تقدم لفظه عام ولا يصح تخصيصه إلا بدليل.
(1) انظر: ص (153).
3 -
وأما رواية: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". (1) فهي بيان لنوع البكاء، والمعنى: أَنَّ بعض البكاء يعذب به الميت، وهو ما كان فيه ندب ونياحة.
ثانياً: القول بأن معنى الحديث توبيخ الملائكة للميت:
هذا القول يُعد بمعنى القول بتعذيب الميت مطلقاً؛ لأن توبيخ الملائكة للميت هو من جملة تعذيبه، وما ذكره أصحاب هذا القول من أحاديث تؤيد ما ذهبوا إليه هي في الحقيقة موافقة لحديث عمر، وابنه، رضي الله عنهما، وهي بمثابة البيان لبعض العذاب الذي يتعرض له الميت.
ثالثاً: القول بأن التعذيب بمعنى التأذي، يَرِدُ عليه:
1 -
أنه لو كان مراد الحديث تأذي الميت ببكاء أهله عليه لصار لفظ الحديث "يتعذَّب"، ولا يخفى ما بين اللفظين من فرق.
2 -
أَنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "يُعذب" هو فعل لما لم يُسم فاعله، وهو يستدعي أَنَّ التعذيب يقع عليه من طرف آخر، ولو كان من أهله لقال: يعذبه بكاء أهله عليه.
3 -
أَنَّ لفظ "العذاب" الغالب استعماله في القرآن والسنة بمعنى العقاب، وإذ الأمر كذلك فإن تفسير النصوص على الأعم الغالب هو الأولى. (2)
وأما استدلالهم بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ فلا يستقيم لهم؛ بل هو حجة لمن قال بحمل الحديث على ظاهره، وما ذُكِرَ فيه هو بيانٌ لبعض التعذيب الذي يتعرض له الميت بسبب بكاء أهله عليه، هذا على التسليم بثبوت الحديث، وقد تقدم أَنَّ الحديث لا يثبت من طريق أبي موسى رضي الله عنه.
وأما قصة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فليست بحجة؛ إذ ليس فيها شيء مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.
(1) سبق تخريجه في أول المسألة.
(2)
انظر: قواعد الترجيح، لحسين الحربي (1/ 172)، وفصول في أصول التفسير، للطيار، ص (112).
وعلى فرض التسليم بحجيتها فإنه لا يصح الاستدلال بها، لأن حالته هذه ليست حالة احتضار؛ بدليل أنه لم يمت فيها وإنما قتل شهيداً في معركة مؤتة (1)، فكيف يعاين الملائكة بمجرد الإغماء؟ والله تعالى أعلم.
****
(1) مُوتَة: - بضم الميم، وسكون الواو بغير همز، للأكثر - هي: موضع من أرض الشام، بالقرب من البلقاء، وقيل: هي على مرحلتين من بيت المقدس. انظر: معجم ما استعجم، للبكري (4/ 1172)، ومعجم البلدان، لياقوت (5/ 220). وقصة استشهاد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في معركة مؤتة: أخرجها الإمام أحمد في مسنده (5/ 299)، حديث (22604). وقال الهيثمي في المجمع (6/ 156):"رجاله رجال الصحيح، غير خالد بن سمير وهو ثقة".