الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث:
ظاهر الآية الكريمة أنَّ الميت ليس له من ثواب الأعمال إلا ما سعى إليه بنفسه في حياته، وأَنَّه لو أَهْدَى إليه أحدٌ من الأحياء ثواب عمله لم ينتفع به، وأما الأحاديث فظاهرها يدل على انتفاع الميت بالصدقة، والصوم، والحج، وأنَّ ثواب هذه الأعمال يصل إلى الميت، إذا أُهْدِيَتْ إليه من الأحياء، وهذا يُوهِمُ الاختلاف والتناقض بين الآية والأحاديث. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث:
للعلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث مسلكان:
الأول: مسلك الجمع بين الآية والأحاديث:
وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في الجمع على مذاهب:
الأول: مذهب إعمال حديث الصدقة، وتأويل الآية.
وهذا محل إجماع بين علماء أهل السنة، حيث أجمعوا على وصول ثواب الصدقة إلى الميت مطلقاً، سواء كانت من ولده أو من غيره، حكى الإجماع: ابن عبد البر، والنووي، وغيرهم. (2)
(1) انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: الناسخ والمنسوخ، للنحاس (3/ 46)، والكشاف، للزمخشري (4/ 417)، والناسخ والمنسوخ، لابن العربي (2/ 379)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (3/ 524 - 525)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 444)، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي، ص (89)، ومجموع الفتاوى (7/ 499)، (18/ 143)،
(24/ 311)، وتفسير آيات أشكلت (1/ 458)، كلاهما لابن تيمية، والروح، لابن القيم، ص (337)، وسبل السلام، للصنعاني (2/ 370)، وروح المعاني، للآلوسي (27/ 93)، وتفسير ابن عثيمين، البقرة (3/ 400).
(2)
انظر: التمهيد، لابن عبد البر (22/ 153)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي =
الثاني: مذهب إعمال حديث الصوم، وتأويل الآية.
وهذا مذهب الإمام أحمد (1)، وعلَّق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث، فقال:"قد رُوي في الصوم عن الميت شيء؛ فإنْ كان ثابتاً صِيمَ عنه، كما يُحَجُّ عنه". اهـ (2)
وهو قول: الربيع بن أنس، وطاووس، والحسن البصري، والزهري، وقتادة، وأبي ثور، والليث، وإسحاق، وأبي عبيد. (3)
واختاره: ابن خزيمة، والنحاس، وابن حبان، وابن حزم، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن عطية، وابن الجوزي، والفخر الرازي، وابن قدامة، وأبو العباس القرطبي، وعز الدين بن عبد السلام، وأبو عبد الله القرطبي، والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والآلوسي، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (4)
= عياض (5/ 371)، والمغني، لابن قدامة (2/ 225)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 49)، وتفسير القرطبي (17/ 75)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (1/ 133) و (11/ 121)، وتفسير ابن كثير (4/ 276).
(1)
انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله، ص (186)، ومسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود السجستاني، ص (96)، والمغني، لابن قدامة (3/ 39)، والإنصاف، للمرداوي (3/ 334).
(2)
انظر: السنن الكبرى، للبيهقي (4/ 256)، والمجموع، للنووي (6/ 415)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (8/ 38)، وفتح الباري، لابن حجر (4/ 228).
(3)
انظر: سنن البيهقي الكبرى (4/ 256)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (8/ 38)، وزاد المسير، لابن الجوزي (7/ 285).
(4)
انظر على الترتيب: صحيح ابن خزيمة (3/ 270)، والناسخ والمنسوخ، للنحاس (3/ 45)، وصحيح ابن حبان (8/ 334 - 335)، والمحلى، لابن حزم (4/ 421)، وسنن البيهقي الكبرى (4/ 256)، والتمهيد، لابن عبد البر (9/ 29)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 207)، والتحقيق في أحاديث الخلاف، لابن الجوزي (2/ 97 - 98)، ومفاتيح الغيب، للرازي (29/ 14)، والمغني، لابن قدامة
(2/ 250)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 210)، وقواعد الأحكام، لابن عبد السلام (1/ 134)، وتفسير القرطبي (17/ 75)، والتذكرة، للقرطبي، ص (89 - 90)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (7/ 498)، والمجموع (6/ 418)، وشرح =
حيث ذهب هؤلاء إلى وصول ثواب الصوم إلى الميت، على اختلاف بينهم في نوع الصوم، فبعضهم أطلق فيه، فجعله شاملاً لصوم النذر، وقضاء رمضان، والكفارات الواجبة، وغيرها، والبعض الآخر قيَّدَه بالنذر، فلا يُصام عن الميت إلا ما نذره في حياته، ولم يَفِ به.
الثالث: مذهب إعمال حديث الحج، وتأويل الآية.
وهذا مذهب: مالك في رواية (1)، وأبي حنيفة (2)، والشافعي (3)، وأحمد (4).
ورُوي عن عكرمة، والربيع. (5)
واختاره: ابن خزيمة، والنحاس، وابن حبان، والخطابي، ومكي بن أبي طالب - إلا أَنَّه اشترط أنْ يوصي الميت - وابن حزم، وابن عبد البر، وابن العربي، والقاضي عياض، وابن عطية، والفخر الرازي، وابن قدامة، وأبو العباس القرطبي، وعز الدين بن عبد السلام، وأبو عبد الله القرطبي،
= صحيح مسلم (8/ 38)، كلاهما للنووي، والروح، لابن القيم، ص (297 - 347)، وحاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود (7/ 27)، ونيل الأوطار، للشوكاني (4/ 113)، وروح المعاني، للآلوسي (27/ 94)، وتيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص (1392)، وأضواء البيان، للشنقيطي (10/ 278)، وتفسير ابن عثيمين، البقرة (3/ 401)، والشرح الممتع، له (5/ 467)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (19/ 395).
(1)
ذهب الإمام مالك في أحد أقواله إلى جواز الحج عن الميت، بشرط أن يوصي الميت بالحج عنه، أو يكون الميت لم يحج حجة الإسلام. انظر: المدونة، للإمام مالك (1/ 485)، والتمهيد، لابن عبد البر (9/ 134)، والمنتقى شرح الموطأ، للباجي (2/ 271)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 439)، وتفسير القرطبي (17/ 75).
(2)
انظر: المبسوط، للسرخسي (4/ 147)، وبدائع الصنائع، للكاساني (2/ 222)، والتمهيد، لابن عبد البر (9/ 135).
(3)
انظر: الأم (2/ 125)، واختلاف الحديث، ص (561)، كلاهما للشافعي، والمجموع (7/ 93)، وشرح صحيح مسلم (8/ 39) و (9/ 141)، كلاهما للنووي.
(4)
انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله، ص (236)، ومسائل الإمام أحمد، رواية إسحاق بن إبراهيم النيسابوري (1/ 175)، والمغني، لابن قدامة (2/ 225)، والفروع، لابن مفلح (3/ 249)، والإنصاف، للمرداوي (3/ 336).
(5)
انظر: زاد المسير، لابن الجوزي (7/ 285).
والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والآلوسي، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (1)
ومذهب هؤلاء جميعاً جواز الحج عن الميت، وأَنَّ ثواب الحج يصل إليه، وينتفع به.
أجوبة القائلين بإعمال الأحاديث عن الآية الكريمة:
اختلف القائلون بإعمال أحاديث الصدقة والصوم والحج، في الجواب عن قوله تعالى:(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39))، فذكروا أجوبة، منها:
الأول: تخصيص الآية بالأحاديث، فالآية دلَّت بعمومها على أَنَّ أحداً لا ينتفع بسعي غيره، إلا أَنَّ هذا العموم مخصوصٌ بالأحاديث الدالة على انتفاع الميت بالصدقة، والصوم، والحج.
ذكر هذا الجواب: ابن خزيمة، وابن حزم، والقاضي عياض، وابن قدامة، وعز الدين بن عبد السلام، والنووي، والحافظ ابن حجر، والعيني، والشوكاني. (2)
(1) انظر على الترتيب: صحيح ابن خزيمة (4/ 341)، والناسخ والمنسوخ، للنحاس (3/ 45 - 46)، وصحيح ابن حبان (9/ 305 - 306)، وأعلام الحديث، للخطابي (2/ 831)، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب، ص (423 - 424)، والمحلى، لابن حزم (5/ 42)، والتمهيد، لابن عبدالبر (9/ 143)، وعارضة الأحوذي، لابن العربي (4/ 125)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 440)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 207)، ومفاتيح الغيب، للرازي
(29/ 14)، والمغني، لابن قدامة (2/ 250)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي
(3/ 210)، وقواعد الأحكام، لابن عبد السلام (1/ 134)، وتفسير القرطبي (17/ 75)، والتذكرة، للقرطبي، ص (89 - 90)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (8/ 39) و (9/ 140)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (7/ 498)، والروح، لابن القيم، ص (297 - 347)، ونيل الأوطار، للشوكاني
(4/ 113)، وروح المعاني، للآلوسي (27/ 94)، وتيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص (1392)، وأضواء البيان، للشنقيطي (10/ 278)، وتفسير ابن عثيمين، البقرة (3/ 401)، والشرح الممتع، له (5/ 467)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/ 312 - 313).
(2)
انظر على الترتيب: صحيح ابن خزيمة (4/ 341)، والمحلى، لابن حزم (4/ 422)، =
الجواب الثاني: أَنَّ الآية إنما دلَّت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تَدُل على نفي انتفاعه بسعي غيره؛ لأَنَّه لم يقل:"وأنْ لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى"، وإنما قال:(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، وبين الأمرين فرقٌ ظاهر؛ لأَنَّ سعي الغير ملكٌ لساعيه، إنْ شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإنْ شاء أبقاه لنفسه. (1)
ذكر هذا الجواب: النحاس، وابن عطية، والفخر الرازي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والآلوسي، وعبد الرحمن السعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (2)
الجواب الثالث: أَنَّ حكم الآية مُختصٌ بقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سُعِيَ لهم، كما دلَّت عليه أحاديث الباب.
قاله عكرمة. (3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا ضعيف؛ لأَنَّ الله تعالى إنما ذكر هذا ليختبر به هذه الأمة، ولِيَعْلَمُوا أَنَّ هذا حكمٌ شاملٌ، ولو كان هذا مخصوصاً بقوم إبراهيم وموسى لم تقم به حجةٌ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجميع
= وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (5/ 371)، والمغني، لابن قدامة (2/ 226)، وقواعد الأحكام، لابن عبد السلام (1/ 134)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (11/ 121)، وفتح الباري، لابن حجر (5/ 458)، وعمدة القاري، للعيني (14/ 55)، ونيل الأوطار، للشوكاني (4/ 112).
(1)
انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (7/ 709) و (10/ 278).
(2)
انظر على الترتيب: الناسخ والمنسوخ، للنحاس (3/ 48)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 207)، ومفاتيح الغيب، للرازي (29/ 14)، ومجموع الفتاوى (7/ 499) و (18/ 143) و (24/ 312)، وتفسير آيات أشكلت (1/ 467 - 468)، كلاهما لابن تيمية، والروح، لابن القيم، ص (320)، وروح المعاني، للآلوسي (27/ 94)، وتيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص (1392)، وأضواء البيان، للشنقيطي (7/ 709) و (10/ 278)، والشرح الممتع (5/ 467)، وتفسير سورة البقرة (3/ 400)، كلاهما لابن عثيمين، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/ 310 - 311).
(3)
انظر: تفسير البغوي (4/ 254)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 206)، وزاد المسير، لابن الجوزي
(7/ 285).
المسلمين يحتجُّون بما في هذا، فمن أين لهم أَنَّ تلك الأمم لم تكن تنفعهم الصدقة عنهم بعد الموت .... ، وما زال الدعاء والشفاعة نافِعَين لجميع الأمم، فإبراهيم وموسى والأنبياء قد دعوا للصالحين من قومهم، وهو نافع لهم، وليس من سعيهم، والملائكة يستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، ممن مضى ومن بقي". اهـ (1)
الجواب الرابع: أَنَّ المراد بالإنسان في الآية: الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعيَ له، كما دلت عليه أحاديث الباب.
قاله الربيع بن أنس. (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا أيضاً ضعيف جداً؛ فإنَّ الذي في صحف إبراهيم وموسى لا يختصُّ به الكافر، وقوله بعده: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39] الآيات، يتناول المؤمن قطعاً، وهو ضمير الإنسان. بل لو قيل: إنه يتناول المؤمن دون الكافر لكان أرجح من العكس، مع أَنَّ حكم العدل لا فرق فيه بين مؤمن وكافر، وما استحقه المؤمن بخصوصه؛ فهو بإيمانه ومن سعيه". اهـ (3)
الجواب الخامس: أَنَّ الآية منسوخةٌ بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)[الطور: 21].
رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة - في قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) - قال ابن عباس: "فأنزل الله بعد هذا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور: 21]، قال: فأدخل الله تعالى الأبناء بصلاح الآباء الجنة". (4)
(1) تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 461 - 462)، وانظر: الروح، لابن القيم، ص (315).
(2)
انظر: تفسير البغوي (4/ 254)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 206)، وزاد المسير، لابن الجوزي
(7/ 285).
(3)
تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 463)، وانظر: مفاتيح الغيب، للرازي (29/ 14)، والروح، لابن القيم، ص (313)، وأضواء البيان، للشنقيطي (10/ 278).
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 534)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (3/ 36)، =
واعتُرِضَ: بأَنَّ لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. (1)
إلا أَنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية لا يرى أَنَّ هذا المروي عن ابن عباس يدخل في النسخ، حيث قال:"اللفظ المنقول عن ابن عباس: رواه علي بن أبي طلحة الوالبي، عنه - وقد قيل: إنه لم يسمعه منه، بل من أصحاب ابن عباس - قال: "فأدخل الله الأبناء بصلاح الآباء الجنة"، ولم يذكر نسخاً، ولو ذكره فمراد الصحابة بالنسخ: هو المذكور في قوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ)[الحج: 52]، وهو فَهْمُ معنى الآية على غير الصواب والمراد بها.
فقد بيَّن ابن عباس أَنَّه لم يُرِدْ بهذه الآية أَنَّ الإنسان لا ينتفع بعمل غيره، فإنَّ الأبناء انتفعوا بعمل آبائهم، فهذا نسخٌ لما فُهِمَ منها، لا لما دلَّت عليه، وهذا القول المنقول عن ابن عباس أحسن ما قيل فيها، وقد ضعَّفه من لم يفهمه.
قال: وقد نقل البغوي هذا عن ابن عباس، وقال:"هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة"(2)، ولم يقل ابن عباس هذا، وما أكثر ما يُحَرَّف على ابن عباس ويُغْلَطُ عليه". اهـ (3)
الجواب السادس: أَنَّ قوله: (مَا سَعَى)، بمعنى: ما نوى.
قاله أبو بكر الوراق (4). (5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا ليس قولاً في محل الاشتباه، وإنما هو تفسير للفظ السعي، والسعي هو: العمل ونيَّة الخير، يُثاب عليها وإنْ لم يعملها، وأما إذا هَمَّ بالشر فلا يُعاقب عليه إلا أنْ يعمله، والإنسان قد ينتفع
= والبيهقي في الاعتقاد، ص (166 - 167)، وابن الجوزي في نواسخ القرآن، ص (207).
(1)
انظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 207)، وزاد المسير، لابن الجوزي (7/ 285)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (2/ 320)، وأضواء البيان، للشنقيطي (10/ 278).
(2)
تفسير البغوي (4/ 254).
(3)
تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 459 - 460).
(4)
هو: محمد بن إسماعيل بن العباس، البغدادي، المستملي، أبو بكر الوراق، من أئمة الحديث، ثقة مأمون، مات سنة (378 هـ). انظر: تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (2/ 53)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي (16/ 388).
(5)
انظر: زاد المسير، لابن الجوزي (7/ 285)، وتفسير القرطبي (17/ 75).
بما لم ينوِ، كانتفاعه بالصدقة عنه بعد موته، والحج، وغير ذلك". اهـ (1)
الجواب السابع: أَنَّ المراد بالآية أَنَّ الكافر ليس له من الخير إلاّ ما عمله، فيثاب عليه في دار الدنيا، حتى لا يبقى له في الآخرة خير.
ذكره الثعلبي. (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا لا يدل عليه قوله: (لِلْإِنْسَانِ)، فليس في هذا اللفظ تخصيص الكافر، ولا تخصيص الجزاء بالدنيا". (3)
الجواب الثامن: أَنَّ اللام في الآية بمعنى "على"، والتقدير: ليس على الإنسان إلا ما سعى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا القول من أرذل الأقوال؛ فإنه قلبٌ لمعنى الآية". اهـ (4)
الجواب التاسع: أَنَّه ليس له إلا سعيه، غير أَنَّ الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة، وولد يترحم عليه، وصديق يدعو له، وتارة يسعى في خدمة أهل الدين والعبادة، فيكسب محبة أهل الدين؛ فيكون ذلك سبباً حصل بسعيه.
حكاه والذي قبله أبو الحسن ابن الزاغوني (5). (6)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا القول أمثل من غيره، وقد استحسنه ورجحه جدِّي أبو البركات، وهو أيضاً ضعيف؛ فإنه قد ينتفع بعمل غيره من لم يُحَصِّلْ سبباً، كأولاد المؤمنين". اهـ (7)
الجواب العاشر: أَنَّه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، وأما من باب الفضل فجائز أنْ يزيده الله عز وجل ما يشاء.
(1) تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 464 - 465).
(2)
الكشف والبيان، للثعلبي (9/ 153).
(3)
تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 466).
(4)
تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 466)، وانظر: الروح، لابن القيم، ص (315).
(5)
هو: علي بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغوني، البغدادي، صاحب التصانيف، والزاغوني: نسبة إلى قرية من أعمال بغداد، قال الذهبي:"كان من بحور العلم، ورأيت له بخطه مقالة في الحرف والصوت، عليه فيها مآخذ، والله يغفر له، فياليته سكت". من مؤلفاته: "الإيضاح في أصول الدين"، وله مسائل في القرآن. توفي سنة (527 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (19/ 605).
(6)
انظر: زاد المسير، لابن الجوزي (7/ 285)، وتفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 466 - 467).
(7)
تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 467).
قاله الحسين بن الفضل (1). (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهو أمثل من غيره من الأقوال، ومعناه صحيح، لكنه لم يُفَسِّر الآية؛ فإنَّ قوله: (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ) نفي عام، فليس له إلا ذلك، وهذا هو العدل، ثم إنَّ الله قد ينفعه ويرحمه بغير سعيه، من جهة فضله". اهـ (3)
الجواب الحادي عشر: وهو جواب أبي الوفاء بن عقيل (4)، قال:"الجواب الجيد عندي أنْ يُقال: الإنسان - بسعيه وحسن عشرته - اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس؛ فترحموا عليه، وأهدوا له العبادات، وكان ذلك أثر سعيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ". (5) ". اهـ (6)
الجواب الثاني عشر: وهو جواب أبي عبد الله القرطبي، قال:"ويُحتمل أنْ يكون قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39] خاص في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً". (7) ". اهـ (8)
الرابع: مذهب إعمال الآية، وتخصيص الأحاديث.
وهذا مذهب الشوكاني، وتبعه الألباني، حيث ذهبا إلى تخصيص الأحاديث بالآية.
(1) هو الحسين بن الفضل بن عمير، العلامة، المفسر، الإمام، اللغوي، المحدث، أبو علي البجلي، الكوفي، ثم النيسابوري، عالم مصر وإمامه في معاني القرآن، أقام بنيسابور يعلم الناس ويفتي حتى توفي سنة
(282 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (13/ 414).
(2)
انظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 206)، وزاد المسير، لابن الجوزي (7/ 285)، وتفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 463 - 464).
(3)
تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية (1/ 464).
(4)
هو: الإمام العلامة البحر، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي، الظفري، الحنبلي، المتكلم، صاحب التصانيف، كان يتوقد ذكاءً، وكان بحر معارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير على بدعته، وعلق كتاب "الفنون" وهو أزيد من أربع مائة مجلد، حشد فيه كل ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة، وما يسنح له من الدقائق والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث، وقد كان الحنابلة ينهونه عن مجالسة المعتزلة فأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجاسر على تأويل النصوص، من مؤلفاته: كتاب "الفنون"، وهو كتاب كبير جداً، فيه الوعظ، والتفسير، والفقه، والنحو، وغير ذلك، وله كتاب "عمدة الأحكام"، توفي سنة (513 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (19/ 443).
(5)
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب البيوع، حديث (3528)، والترمذي في سننه، في كتاب الأحكام، حديث (1358)، وقال:"حديث حسن صحيح".
(6)
انظر: الروح، لابن القيم، ص (317 - 318).
(7)
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (128).
(8)
تفسير القرطبي (17/ 74)، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي، ص (90).
أما الشوكاني فاقتصر على تخصيص حديث الصدقة دون بقية الأحاديث، وأما الألباني فيرى تخصيص جميع الأحاديث.
قال الشوكاني - بعد أنْ أورد الأحاديث الدالة على وصول ثواب الصدقة إلى الميت - قال: "وأحاديث الباب تدل على أَنَّ الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما، بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها، فيُخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أَنَّ ولد الإنسان من سعيه، فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أَنَّه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها". اهـ (1)
وقال الألباني - بعد أنْ ساق كلام الشوكاني -: "وهذا هو الحق الذي تقتضيه القواعد العلمية، أَنَّ الآية على عمومها، وأَنَّ ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد؛ لأَنَّه من سعيه، بخلاف غير الولد". اهـ (2)
لكن يَرِدُ على قولهما ما حُكي من الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت مطلقاً، سواء كانت من ولده أو من غيره. (3)
وقد ناقش الألباني حكاية الإجماع، ورجح عدم صحته، حيث قال: "نقل النووي وغيره الإجماع على أَنَّ الصدقة تقع عن الميت، ويصله ثوابها، هكذا قالوا:(الميت)، فأطلقوه ولم يقيدوه بالوالد، فإنْ صح هذا الإجماع كان مُخصصاً للعمومات التي أشار إليها الشوكاني فيما يتعلق بالصدقة (4)،
(1) نيل الأوطار، للشوكاني (4/ 112).
(2)
أحكام الجنائز، للألباني، ص (219).
(3)
تقدم توثيق الإجماع وذِكْرُ من حكاه في أول المسألة.
(4)
وقال في موضع آخر: "وقد نقل بعضهم الإجماع على وصول الصدقة إلى الميت مطلقاً، فإن صحَّ ذلك فيه، ولم يصح، وإلا فالأحاديث التي وردت في التصدق عنه إنما موردها في صدقة الولد عن الوالدين، وهو من كسبهما بنص الحديث، فلا يجوز قياس الغريب عليهما؛ لأنه قياس مع الفارق كما هو ظاهر، ولا قياس الصدقة على القضاء؛ لأنه أعم منه كما ذكرنا". أحكام الجنائز، ص (28).
ويظل ما عداها داخلاً في العموم، كالصيام (1)، وقراءة القرآن، ونحوهما من العبادات، ولكنني في شك كبير من صحة الإجماع المذكور، وذلك لأمرين: الأول: أَنَّ الإجماع بالمعنى الأصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي عُلِمَت من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحول
…
، وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد، في كلمته المشهورة في الرد على من ادعى الإجماع ....
الثاني: أنني سَبَرْتُ كثيراً من المسائل التي نقلوا الإجماع فيها، فوجدت الخلاف فيها معروفاً! بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الإجماع فيها، ولو شئت أنْ أورد الأمثلة على ذلك لطال الكلام، وخرجنا به عما نحن بصدده". اهـ (2)
الخامس: مذهب إعمال الآية، وتخصيص حديث الحج.
وهذا مذهب الإمام مالك في رواية، حيث حُكيَ عنه أَنَّه قال: لا يحج أحدٌ عن أحدٍ مطلقاً، سواء أوصى الميت أو لم يوصِ.
وأجاب عن حديث الحج، بأَنَّه مخصوص بالجهنية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. (3)
المسلك الثاني: مسلك الترجيح بين الآية والأحاديث:
وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في الترجيح على مذاهب:
الأول: مذهب إعمال الآية، ورد حديث الصوم.
وهذا مذهب الإمام مالك (4)،
(1) يرى الألباني - تبعاً للإمام أحمد - أنه لا يُصام عن الميت إلا صوم النذر فقط. انظر: أحكام الجنائز، ص (215).
(2)
أحكام الجنائز، ص (219 - 220)، وانظر: الكتاب نفسه، ص (28).
(3)
انظر: الاستذكار، لابن عبد البر (12/ 60)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 439)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (9/ 141)، وفتح الباري، لابن حجر (4/ 79).
(4)
انظر: الموطأ، للإمام مالك (1/ 303)، والمدونة، له (1/ 279)، والتمهيد، =
وأبي حنيفة (1)، والشافعي في الجديد (2).
وحكاه القاضي عياض، والنووي: مذهب الجمهور (3). ونقله ابن المنذر عن: ابن عمر (4)، وابن عباس، وعائشة (5)، ورواية عن الحسن البصري، والزهري. (6)
واختار هذا المذهب: الطحاوي، والخطابي، وابن العربي، والقاضي عياض، والشاطبي، والعيني. (7)
ومذهب هؤلاء: أَنَّه لا يصوم أحد عن أحد، لا في نذرٍ ولا في غيره، ومن مات وعليه صيام فإنه يُطعم عنه فقط.
أما المالكية فأعلوا حديث الصوم بدعوى الاضطراب في إسناده، وأَنَّه خلاف عمل أهل المدينة. (8)
= لابن عبد البر (9/ 27)، والمنتقى شرح الموطأ، للباجي (2/ 63)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 208)، وتفسير القرطبي (17/ 75).
(1)
انظر: المبسوط، للسرخسي (3/ 89 - 90)، وبدائع الصنائع، للكاساني (2/ 103)، وفتح القدير، لابن الهمام (2/ 357 - 360).
(2)
انظر: اختلاف الحديث، للشافعي، ص (561)، والسنن الكبرى للبيهقي (4/ 256)، والمجموع، للنووي (6/ 416)، وفتح الباري، لابن حجر (4/ 228).
(3)
انظر: إكمال المعلم، للقاضي عياض (4/ 104)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (8/ 38).
(4)
رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "لا يحج أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 380)، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 78).
(5)
التحقيق أن مذهب عائشة وابن عباس رضي الله عنهما: أن الميت يُصام عنه في النذر، ويُطعم عنه في قضاء رمضان، وسيأتي بيان ذلك عند مناقشة القائلين بمنع الصيام عن الميت مطلقاً.
(6)
انظر: شرح صحيح مسلم، للنووي (8/ 38).
(7)
انظر على الترتيب: مشكل الآثار، للطحاوي (3/ 173 - 180)، ومعالم السنن، للخطابي (4/ 82)، وعارضة الأحوذي، لابن العربي (3/ 190 - 192)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 104 - 107)، والموافقات، للشاطبي (2/ 397 - 400)، وعمدة القاري، للعيني (11/ 59 - 60).
(8)
انظر: المدونة، للإمام مالك (1/ 279)، والتمهيد، لابن عبد البر (9/ 27)، والمنتقى =
قال أبو العباس القرطبي: "إنما لم يقل مالك بحديث ابن عباس؛ لأمور: أحدها: أَنَّه لم يَجِدْ عليه عمل أهل المدينة. الثاني: أَنَّه حديثٌ اختُلِفَ واضطُرِبَ في إسناده. الثالث: أَنَّه رواه البزار وقال في آخره: "لمن شاء" (1). وهذا يرفع الوجوب الذي قالوا به. الرابع: أَنَّه مُعارضٌ بقوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]، ولقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]. الخامس: أَنَّه مٌعارَضٌ بما خرَّجه النسائي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "لا يُصلي أحد عن أحدٍ، ولا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة" (2). السادس: أَنَّه مُعارِضٌ للقياس الجلي، وهو أَنَّه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها، فلا تُفعل عمن وجب عليه، كالصلاة، ولا يُنقضُ هذا بالحج؛ لأَنَّ للمال فيه مدخلاً". اهـ (3)
وأما الحنفية فأعلوا الحديث بما رُوي عن عائشة أَنَّها سُئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، فقالت:"يطعم عنها"(4)،
وعن عائشة قالت: "لا تصوموا
= شرح الموطأ، للباجي (2/ 63)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (4/ 104 - 107)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 208)، وتفسير القرطبي (17/ 75)، والموافقات، للشاطبي (2/ 397 - 400).
(1)
ضعف هذه الزيادة الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 209)، وفي تغليق التعليق (3/ 191)؛ لأنها من طريق ابن لهيعة.
(2)
أخرجه - موقوفاً على ابن عباس -: النسائي في السنن الكبرى (2/ 175)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 176)، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 209)، ولم أقف عليه مرفوعاً، وسيأتي رد ابن القيم على دعوى رفعه.
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 209).
(4)
أخرج الطحاوي في مشكل الآثار (3/ 178)، من طريق عبيدة بن حميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: إنَّ أمي توفيت وعليها رمضان، أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت:"لا، ولكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين، خير من صيامك عنها".
وأخرجه الطحاوي في الموضع السابق (3/ 179)، من طريق جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عمرة قالت: توفيت أمي وعليها من رمضان صوم، فسألت عائشة عن ذلك، فقالت:"اقضيه عنها". ثم قالت: "بل تصدقي مكان كل يوم على مسكين، نصف صاع".
وأخرجه ابن حزم في المحلى (4/ 422)، من طريق جرير بن =
عن موتاكم، وأطعموا عنهم" (1)، وبما رُوي عن ابن عباس قال - في رجل مات وعليه صوم رمضان - قال: "يُطعم عنه ثلاثون مسكيناً" (2)،
وروى النسائي
= عبد الحميد، بنحوه.
وأخرجه الطحاوي في الموضع السابق (3/ 178 - 179) من طريق سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، قال: ماتت مولاة لابن أبي عصيفير عليها صوم شهر، فقالت عائشة رضي الله عنها:"أطعموا عنها". والحديث صححه الألباني في أحكام الجنائز، ص (215)، وحكى تصحيحه عن ابن التركماني.
وضعفه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 256)، وسيأتي نقل كلامه في المتن.
(1)
ذكره البيهقي في السنن الكبرى (4/ 256)، ولم أقف عليه عند غيره، وسيأتي إيراد البيهقي له.
(2)
روى النسائي في السنن الكبرى (2/ 175)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 176)، كلاهما من طريق أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال:"لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة".
وروى الطحاوي في مشكل الآثار (3/ 178)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 254)، كلاهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: سُئِل ابن عباس عن رجل مات وعليه صيام شهر رمضان، ونذر شهر آخر، فقال ابن عباس:"يطعم عنه ستين مسكيناً".
قال البيهقي: "كذا رواه ابن ثوبان عنه في الصيامين جميعاً".
وروى البيهقي في السنن الكبرى (4/ 254)، وابن حزم في المحلى، وصححه (4/ 426)، كلاهما من طريق ميمون بن مهران، عن ابن عباس، في امرأة توفيت - أو رجل - وعليه رمضان، ونذر شهر، فقال ابن عباس:"يُطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً، ويصوم عنه وليُّه لنذره".
وروى أبو داود في سننه، في كتاب الصوم، حديث (2401)، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:"إذا مَرِضَ الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أُطعِمَ عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليُّه". صحح إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص (215).
وروى ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 113)، من طريق ميمون، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئِل عن رجل مات وعليه نذر؟ فقال:"يصام عنه النذر".
ورواه في الموضع نفسه، من طريق سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال مرة: عن ابن عباس: "إذا مات وعليه نذر قضى عنه وليه". صحح إسنادهما الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 592).
وهذه الروايات عن ابن عباس يُجمع بينها: بأنه أفتى في رمضان أن لا يصوم أحد عن أحد، وأفتى في النذر أن يصوم عنه وليه. ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات، والنفي في حق الحي. وهذا الأخير هو رأي الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 592)، والأول قاله ابن القيم، وسيأتي في أثناء مناقشته للحديث.
عن ابن عباس قال: "لا يصوم أحد عن أحد"(1). قالوا: فلما أفتى ابن عباس، وعائشة بخلاف ما روياه، دل ذلك على أَنَّ العمل على خلاف ما روياه. (2)
وتُعقِّبَ: "بأن الآثار المذكورة عن عائشة، وعن ابن عباس، فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام، إلا الأثر الذي عن عائشة، وهو ضعيف جداً، والمعتبر عند أهل الأصول أَنَّ ما رواه الراوي مقدم على ما رآه، لاحتمال أنْ يُخالف ذلك لاجتهادٍ مستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تُحقق من صحة الحديث، لم يُترك المحقق للمظنون". (3)
وأجيب: "بأَنَّ الاحتمال المذكور باطل؛ لأَنَّه لا يليق بجلالة قدر الصحابي أنْ يُخالف ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لأجل اجتهاده فيه، وحاشا الصحابي أنْ يجتهد عند النص بخلافه؛ لأَنَّه مصادمة للنص، وهذا لا يقال في حق الصحابي، وإنما فتواه بخلاف ما رواه إنما يكون لظهور نسخ عنده". (4)
وأما الشافعي - في الجديد - فأعل حديث ابن عباس بأَنَّ ذِكْرَ الصيام فيه غير محفوظ، حيث قال:"فإنْ قيل: أفرُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّه أمر أحداً أنْ يصوم عن أحد؟ قيل: نعم، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه يصوم عنه وليه (5). فإنْ قيل: فلم لا تأخذ به؟ قيل: لأَنَّ الزهري حدَّث عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم نذراً ولم يسمه. مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس، فلما جاء غيره عن ابن عباس، بغير ما في حديث عبيد الله، أشبه أنْ لا يكون محفوظاً". اهـ (6)
(1) السنن الكبرى، للنسائي (2/ 175)، وقد تقدم استيفاء تخريجه قريباً.
(2)
انظر: مشكل الآثار، للطحاوي (3/ 176 - 180)، والمحلى، لابن حزم (4/ 422)، ومعتصر المختصر، لأبي المحاسن الحنفي (1/ 143)، وعمدة القاري، للعيني (11/ 59 - 60)، وفتح الباري، لابن حجر (4/ 228).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (4/ 228). وانظر: المحلى، لابن حزم (4/ 423 - 424).
(4)
عمدة القاري، للعيني (11/ 60).
(5)
قلت: ليس في حديث ابن عباس في الصيام عن الميت ذِكْرٌ للولي، وقد جاء ذلك في حديث عائشة، وقد تقدما في أول المسألة.
(6)
اختلاف الحديث، للشافعي، ص (561). وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/ 256)، =
قال البيهقي: "يعني به الحديث الذي أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق، وغيرهما، قالوا: ثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: "أَنَّ سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أمي ماتت وعليها نذر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقضه عنها" (1).
قال البيهقي: "وهذا حديث ثابت، قد أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، من حديث مالك، وغيره، عن الزهري؛ إلا أَنَّ في رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أَنَّ امرأة سألت". وكذلك رواه الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عباس. وفي رواية عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. ورواه عكرمة، عن ابن عباس. ثم رواه بريدة بن حصيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالأشبه أنْ تكون القصة - التي وقع السؤال فيها عن الصوم نصاً - غير قصة سعد بن عبادة التي وقع السؤال فيها عن النذر مطلقاً، كيف وقد رُوي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بإسناد صحيح، النص في جواز الصوم عن الميت". (2)
قال البيهقي: "وقد رأيتُ بعض أصحابنا يُضَعِّفُ حديث ابن عباس، بما رُوي عن يزيد بن زريع، عن حجاج الأحول، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس، أَنَّه قال: "لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم عنه" (3)، وبما روينا عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن ابن عباس: في الإطعام عمن مات وعليه صيام شهر رمضان، وصيام شهر نذر (4). وفي رواية ميمون بن مهران، عن ابن عباس، ورواية أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أَنَّه قال - في صيام شهر رمضان -: يُطعم عنه، وفي النذر يقضي عنه وليه. (5)
= والمجموع، للنووي (6/ 416).
(1)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
(2)
جميع الروايات التي ذكرها البيهقي قد تقدم تخريجها في أول المسألة.
(3)
سبق تخريجه قريباً.
(4)
سبق تخريجه قريباً.
(5)
سبق تخريجه قريباً.
قال البيهقي: ورواية ميمون، وسعيد توافق الرواية عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في النذر؛ إلا أَنَّ الروايتين الأوليين تخالفانها.
قال: ورأيتُ بعضهم ضَعَّفَ حديث عائشة بما رُوي عن عمارة بن عمير، عن امرأة، عن عائشة - في امرأة ماتت وعليها الصوم - قالت:"يُطعم عنها"(1). ورُوي من وجه آخر عن عائشة أَنَّها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم". (2) وليس فيما ذكروا ما يوجب للحديث ضعفاً؛ فمن يُجَوِّز الصيام عن الميت يجوز الإطعام عنه، وفيما رُوي عنهما في النهي عن الصوم عن الميت نظر، والأحاديث المرفوعة أصح إسناداً، وأشهر رجالاً، وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما، ولو وقف الشافعي رحمه الله على جميع طرقها وتظاهرها لم يخالفها - إنْ شاء الله تعالى - وبالله التوفيق". اهـ (3)
وقد نقل النوويُ كلام البيهقي بطوله ثم قال: "الصواب الجزم بجواز صوم الولي عن الميت، سواء صوم رمضان، والنذر، وغيره من الصوم الواجب; للأحاديث الصحيحة السابقة، ولا مُعارض لها، ويتعين أنْ يكون هذا مذهب الشافعي; لأَنَّه قال: إذا صَحَّ الحديث فهو مذهبي، واتركوا قولي المخالف له. وقد صَحَّت في المسألة أحاديث كما سبق. والشافعي إنما وقف على حديث ابن عباس من بعض طرقه، كما سبق، ولو وقف على جميع طرقه وعلى حديث بريدة، وحديث عائشة، لم يُخالف ذلك، كما قال البيهقي، فيما قدمناه عنه في آخر كلامه، فكل هذه الأحاديث صحيحة صريحة، فيتعين العمل بها، لعدم المعارض لها". اهـ (4)
وللإمام ابن القيم كلام طويل في مناقشة القائلين برد الحديث، والإجابة عن اعتراضاتهم، حيث قال في كتابه "الروح" (5):
"وأما رَدُّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: "من مات وعليه صيام صام
(1) سبق تخريجه قريباً.
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
(3)
السنن الكبرى للبيهقي (4/ 256).
(4)
المجموع، للنووي (6/ 418)، وانظر: شرح صحيح مسلم، للنووي (8/ 38).
(5)
ص (334 - 341).
عنه وليه" - بتلك الوجوه التي ذكرتموها، فنحن ننتصر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبين موافقته للصحيح من تلك الوجوه ....
فأما قول الإمام مالك: "لا يصوم أحد عن أحد، وهو أمر مُجمعٌ عليه عندنا، لا خلاف فيه"(1)، فمالك رحمه الله لم يحك إجماع الأمة من شرق الأرض وغربها، وإنما حكى قول أهل المدينة، فيما بلغه، ولم يبلغه خلافٌ بينهم، وعدم اطلاعه على الخلاف في ذلك لا يكون مسقطاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لو أجمع عليه أهل المدينة كلهم لكان الأخذ بحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة، الذين لم تُضمن لنا العصمة في قولهم دون الأمة، ولم يجعل اللهُ ورسولُه أقوالهم حجة يجب الرد عند التنازع إليها، بل قال الله تعالى:(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء: 59].
وأما قولهم: إنَّ ابن عباس رضي الله عنهما هو راوي حديث الصوم عن الميت، وقد قال:"لا يصوم أحد عن أحد"(2)، فغاية هذا أنْ يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته، فإن روايته معصومة، وفتواه غير معصومة، ويجوز أنْ يكون نسي الحديث، أو تأوَّله، أو اعتقد له معارضاً راجحاً في ظنِّه، أو لغير ذلك من الأسباب، على أَنَّ فتوى ابن عباس غير مُعارضة للحديث؛ فإنه أفتى في رمضان أَنَّه لا يصوم أحد عن أحد، وأفتى في النذر أَنَّه يصام عنه (3)، وليس هذا بمخالف لروايته، بل حَمَلَ الحديث على النذر. ثم إنَّ حديث:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، هو ثابت من رواية عائشة رضي الله عنها، فهب أَنَّ ابن عباس خالفه، فكان ماذا؟ فخلاف ابن عباس لا يقدح في رواية أم المؤمنين، بل رَدُّ قول ابن عباس برواية عائشة، أولى من رد روايتها بقوله. وأيضاً فإنَّ ابن عباس قد اختُلِفَ عنه في ذلك، وعنه روايتان، فليس إسقاط الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى بالحديث.
(1) انظر: المدونة، للإمام مالك (1/ 279).
(2)
تقدم تخريجه قريباً.
(3)
تقدم تخريجه قريباً.
وأما قولهم: إنه حديث اختلف في إسناده، فكلام مجازفٌ فيه، ولا يُقبل من قائله، فالحديث صحيح ثابت متفق على صحته، رواه صاحبا الصحيحين، ولم يُختلف في إسناده.
وقولهم: إنه مُعارض بنص القرآن، وهو قوله:(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39] إساءة أدب في اللفظ، وخطأ عظيم في المعنى، وقد أعاذ الله رسوله أنْ تُعارض سُنَّته نصوص القرآن، بل تعاضدها وتؤيدها.
وقولهم: إنه مُعارض بما رواه النسائي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال:"لا يُصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يُطعم عنه كل يوم مداً من حنطة"(1)، فخطأ قبيح؛ فإنَّ النسائي رواه هكذا: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حجاج الأحول، حدثنا أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لا يُصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يُطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة"، هكذا رواه قول ابن عباس، لا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يُعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول ابن عباس، ثم يُقدَّم عليه، مع ثبوت الخلاف عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الكلام قط، وكيف يقوله وقد ثبت عنه في الصحيحين أَنَّه قال:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه"(2)، وكيف يقوله وقد قال في حديث بريدة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه (3) -:"أَنَّ امرأة قالت له: إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر؟ قال: صومي عن أمك".
وأما قولهم: إنه مُعارض بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من مات وعليه صوم رمضان، يُطعم عنه"(4)، فمن هذا النمط، فإنه حديث باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
(3)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
(4)
روى البيهقي في السنن الكبرى (4/ 254)، من طريق يحيى بن سعيد، عن القاسم، ونافع، أن ابن عمر كان إذا سُئِلَ عن الرجل يموت وعليه صوم من رمضان أو نذر يقول:"لا يصوم أحد عن أحد، ولكن تصدقوا عنه من ماله للصوم، لكل يوم مسكيناً".
وروى الترمذي في سننه، في كتاب الصوم، حديث (718)، من طريق عَبْثَر =
قال البيهقي: "حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صوم رمضان، يطعم عنه"، لا يصح، ومحمد بن عبد الرحمن كثير الوهم، وإنما رواه أصحاب نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله". (1)
قال ابن القيم: وأما قولهم: إنه مُعارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة؛ فإنَّ أحداً لا يفعلها عن أحد، فلعمر الله إنه لقياس جلي البطلان والفساد، لرد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة له، وشهادتها ببطلانه، وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، وبين انتفاع المسلم بما يُهديه إليه أخوه المسلم من ثواب صيامٍ أو صدقةٍ أو صلاة، ولعمر الله إنَّ الفرق بينهما أوضح من أنْ يخفى، وهل في القياس أفسد من قياس انتفاع المسلم بعد موته بما يُهديه إليه أخوه المسلم من ثواب عمله؛ على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، أو قبول التوبة عن المجرم بعد موته.
قال: وأما كلام الشافعي رحمه الله في تغليط راوي حديث ابن عباس رضي الله عنهما
= بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا". قال الترمذي: "لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ قَوْلُهُ". قال: "وَأَشْعَثُ: هُوَ ابْنُ سَوَّارٍ، وَمُحَمَّدٌ: هُوَ عِنْدِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى". اهـ
ورواه ابن ماجة في سننه، في كتاب الصيام، حديث (1757)، من طريق عَبْثَر، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، مرفوعاً. ولفظه لفظ الترمذي نفسه. وذِكْرُ ابن سيرين خطأ في الإسناد.
قال ابن عبد الهادي في "تنقيح تحقيق أحاديث التعليق"(2/ 338): "أشعث: هو ابن سوار، وكان ابن مهدي يخط على حديثه، وقال يحيى: لا شيء. وفي رواية: هو ثقة. ومحمد: هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ضعيف، مضطرب الحديث. وقد رواه ابن ماجة، وسُئِلَ الدارقطني عن هذا الحديث فقال: يرويه أشعث بن سوار، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. تفرد به عبثر بن القاسم، والمحفوظ عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً". اهـ
وقال ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير"(1/ 330): "رواه الترمذي وابن ماجة، بإسناد ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر، قاله الترمذي، والبيهقي، والدارقطني". اهـ
(1)
السنن الكبرى، للبيهقي (4/ 254).
أَنَّ نذر أم سعد كان صوماً، فقد أجاب عنه أنصر الناس له، وهو البيهقي، ونحن نذكر كلامه بلفظه .... ".
ثم نقل ابن القيم كلام البيهقي بطوله - وقد تقدم (1) - وقال: "وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صيام شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان عليها دين، أكنتَ قاضيه عنها"؟ قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أنْ يُقضى". (2)
ورواه أبو خيثمة، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن الأعمش، فذكره. (3)
ورواه النسائي عن قتيبة بن سعيد، حدثنا عبثر، عن الأعمش، فذكره. (4)
قال ابن القيم: فهذا غير حديث أم سعد، إسناداً ومتناً؛ فإنَّ قصة أم سعد، رواها مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما -أَنَّ سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقضه عنها"(5)، وهكذا أخرجاه في الصحيحين، فهب أَنَّ هذا هو المحفوظ في هذا الحديث، أَنَّه نذر مطلق لم يُسمَّ، فهل يكون هذا في حديث الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير؟ على أَنَّ ترك استفصال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد في النذر - هل كان صلاة أو صدقة أو صياماً، مع أَنَّ الناذر قد ينذر هذا وهذا - يدل على أَنَّه لا فرق بين قضاء نذر الصيام والصلاة، وإلا لقال له: ما هو النذر؟ فإنَّ النذر إذا انقسم إلى قسمين:
(1) تقدم نقل كلام البيهقي بطوله عند نقل كلام الإمام الشافعي في المسألة.
(2)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
(3)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
(4)
السنن الكبرى، للنسائي (2/ 173).
(5)
أخرجه مالك في الموطأ، في كتاب النذور والأيمان، حديث (1025)، ومن طريق مالك: أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الوصايا، حديث (2761)، ومسلم في صحيحه، في كتاب النذور، حديث (1638)، إلا أن مسلماً لم يسق متنه من طريق مالك، وقد تقدم الحديث في أول المسألة.