الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما أصحاب المذهب الثاني فأجابوا عن الحديث: بأنَّ «أو» في قوله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» هي بمعنى «الواو» ، قالوا: ولا يجوز حملها على معنى «أو» ؛ لأن ذلك يوهم معنىً فاسداً يُعَارِضُ الآية، وهذا المعنى هو أنْ يكون له الغنيمة وحدها بلا أجر، أو الأجر ولا غنيمة. (1)
قال ابن عبد البر: «قوله: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» يريد - والله أعلم - من أجر وغنيمة، كما قال الله عز وجل:(وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)[الإنسان: 24]، يريد ولا كفوراً، وكما قال جل ثناؤه:(مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)[النساء: 3]، أي مثنى أو ثلاث أو رباع، فقد تكون «أو» بمعنى الواو، وتكون الواو بمعنى «أو» ، وقد روي منصوصاً «مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» بواو الجمع لا بأو .... ». اهـ (2) ثم ذكر حديث أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ:«مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» . (3)
وقال أبو الوليد الباجي: «قوله صلى الله عليه وسلم: «مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» يريد - والله أعلم - مع الذي ينال منهما؛ فإنْ أصاب غنيمة فله أجر وغنيمة، وإنْ لم يُصب الغنيمة فله الأجر على كل حال، فتكون «أو» بمعنى «الواو»؛ كقول جرير (4):
نَالَ الخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ عَلَى قَدَرٍ
…
كَمَا أَتَى رَبّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
…
». اهـ (5)(6)
المبحث الخامس: الترجيح:
الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو ما ذهب إليه الجمهور من المحدثين، بأنَّ المجاهد يَنْقُصُ أجرهُ إذا أخذ شيئاً من الغنيمة، كما هو صريح
(1) انظر: الاستذكار، لابن عبد البر (14/ 10)، والمنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (3/ 160)، وتفسير القرطبي (5/ 179).
(2)
الاستذكار (14/ 10).
(3)
تقدم تخريجه في أول المسألة وبيان القول الراجح في هذه الرواية.
(4)
هو: جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي، من تميم، أشعر أهل عصره. ولد ومات في اليمامة. وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم، وكان هجاءاً مرّاً، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وكان عفيفاً، وهو من أغزل الناس شعراً. توفي سنة (110هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (2/ 119).
(5)
لم أقف عليه في ديوان جرير، والبيت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (8/ 51).
(6)
المنتقى شرح الموطأ (3/ 160).
حديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، وكما تقدم فإنَّ هذا الحديث لا يُعارِضُ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بل هو موافق ومفسِّرٌ له؛ لأنَّ معنى حديث أبي هريرة: أنَّ للمجاهد الأجرَ تامّاً إنْ لم يغنم، أو الأجرَ والغنيمةَ معاً إنْ غَنِم، فالأجر حاصلٌ على كلِّ حال، غَنِمَ أو لم يَغنَم، لكنَّه مع الغنيمة أنقص، وهو مُقَدَّرٌ في الشِقِّ الثاني مع الغنيمة، وإنْ لم يُصَرِّح بذكره، وكما ترى فإنَّ هذا المعنى لا يُعارِضُ حديث عبد الله بن عمرو، ولا يُعارِضُ الآية أيضاً.
وأمَّا ما ذَكَرَهُ أصحاب المذهب الثاني من أجوبةٍ عن حديث عبد الله بن عمرو؛ فكلها لا تخلوا من ضعف، وقد تقدَّم بيانُ ذلك.
وأمَّا قولهم: إنّه لا يُعْلَمُ غازياً أعظمَ من أهل بدر، وقد أصابوا من الغنيمة، ولو كان أخذها يُنقص من الأجر ما كانت فضيلة لهم؛ فجوابه: أنَّه ليس في غنيمة بدر نصٌ أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط، وكونهم مغفوراً لهم، مرضياً عنهم، ومن أهل الجنة؛ لا يلزم أنْ لا يكون وراء هذا مرتبة أخرى هي أفضل منه، مع أنَّه شديد الفضل عظيم القدر. (1)
وأمَّا قولهم: إنَّ «أو» - في قوله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» - هي بمعنى «الواو» ؛ فيَرِدُ عليه إشكال؛ لأنَّه يقتضي من حيث المعنى أنْ يكون الضمانُ وقع بمجموع الأمرين لكلِّ من رجع، وقد لا يتفق ذلك؛ فإنَّ كثيراً من الغُزاة يرجع بغير غنيمة، فما فَرَّ منه الذي ادَّعى أنَّ «أو» بمعنى «الواو» وقع في نظيره؛ لأنَّ رواية «أو» ظاهرها يُوهِمُ أنَّ من رجع بغنيمة رجع بغير أجر، على حين يلزم من القول بأنَّها بمعنى «الواو» أنَّ كلَّ غازٍ يُجْمَعُ له بين الأجر والغنيمة معاً، وهذا المعنى لا يَصِحُّ كما تقدَّم، مع ما فيه من المُخالفة لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والذي فيه أنَّ الذي يَغْنَمُ يرجع بأجر لكنَّه أنقص من أجر من لم يغنم. (2)
(1) انظر: شرح صحيح مسلم، للنووي (13/ 78)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي
(3/ 749)، وإحكام الأحكام، لابن دقيق العيد (2/ 303)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 11)، وعمدة القاري، للعيني (1/ 232).
(2)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (6/ 115)، وإحكام الأحكام، لابن دقيق العيد (2/ 305)، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (7/ 325).
وأمَّا استدلالهم برواية: «مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» ، بـ «الواو» ؛ فالأصح أنَّ هذه الرواية لا تَثْبُتُ، وقد تقدَّم بيانُ ذلك في أوَّلِ المسألة، عند تخريج الحديث، والله تعالى أعلم.
****